(1)
ثلاثة أشياء لا يمكن إخفاؤها: رجل على ظهر جمل، وامرأة حامل، وأسرار الحكم في مصر، لذلك أتعجب عندما أقرأ أو أسمع كلمة "تسريبات" في الحالة السياسية المصرية بعد ثورة يناير، لأن القصة مفضوحة للجميع، حتى الرجل الذي كان يمر في ميدان التحرير وسأل عما يحدث فقالوا له إنها "خناقة بين راجل ومراته"، عرف الآن تفاصيل ما حدث ويحدث من أول توزيع وجبات كنتاكي إلى أجندة وجواسيس عمر سليمان إلى أسر قائد الأسطول السادس حتى وصلنا إلى سعر الرغيف في الجمهورية الجديدة التي صارت فيها مصر "أد الدنيا".
هكذا أعتبر أن أي حديث عن التسريبات ليس إلا عملية نصب لترويج سلعة مغشوشة عن طريق إعلانات مكلفة، قد ينخدع الجمهور ويشتري، لكنه يلعن أبا السلعة ومنتجها ومروجها بعد أن يتورط في الشراء ويدرك أنه شرب المقلب بعد الاستخدام، وهكذا يبدو لي حديث التسريبات الذي تروجه الكتائب مجرد إعلان ترويجي لمسلسل أكثر منه حديثا سياسيا يستحق الاهتمام.
(2)
لدينا حكاية مشهورة في مصر أثناء الفترة التي كان الجنرال عبد الحكيم عامر يقود فيها الصراع العسكري مع إسرائيل من مخدع الفنانة الشيوعية برلنتي، فقد كان حريصا على التمويه والخداع وإنشاء مطارات سرية لخداع العدو الذي يملك ذراعا طولى في القوات الجوية، ويبدو أن عامر وحده الذي لم يكن يعلم مكان هذه المطارات، لأن الكمساري في الباصات المزدحمة كان يصرخ بصوت عال وهو ينبه الركاب للمحطة القادمة فيقول: اللي جاية محطة المطار السري.. اللي عاوز ينزل يروح عند الباب! لذلك لم يكن مستغرباً أن إسرائيل في حرب 67 قصفت المطارات الحقيقية وتركت لعامر المنشآت الهيكلية المصنوعة من الأخشاب للتمويه وخداع العدو، واكتشفنا مع مرارة الهزيمة أن عامر كان يخدع نفسه ويخدع من صدقه.
(3)
لا أتابع دراما رمضان ولا التليفزيون المصري بكل ما فيه، وبالتالي فإن معلوماتي عن مسلسل "الاختيارـ3" مثل معلوماتي عن "الاختيارـ1" و"الاختيارـ2" و"الاختيار كمان وكمان"، كلها من متابعة الأخبار وتعليقات المشاهدين أو المتابعين السياسيين من طرفي الصراع، وهما "الإخوان والجيش" كما هو معروف للجميع بعد ثورة يناير ومعروف للباحثين وأجهزة الاستخبارات منذ ثورة يوليو..
هناك أسباب كثيرة لتفسير جمود السياسة والصراع الداخلي في مصر بين الجيش والإخوان، وهناك مراجعات مطلوبة من اليسار واليمين، لنعرف أسباب ضعف اليسار القديم الذي بدأ مع استيراد الفكر الشيوعي في عشرينيات القرن الماضي، ولنعرف كذلك أسباب ضعف الاتجاهات الليبرالية بعد حصول مصر على استقلالها وتولي الجيش مهمة الحكم.
صحيح أن الإخوان كجماعة سياسية إصلاحية ظهرت قبل يوليو بربع قرن، وصحيح أنها تعرضت لقمع واغتيالات منذ العهد الملكي، لكن صراعها مع القصر والحكومات كان مختلفا في طريقته ودرجته عن صراعها مع الجيش بعد ثورة يوليو، وكذلك طبعا بعد ثورة يناير، حتى أن عددا من قادة المجلس العسكري عندما أرادوا توجيه رسالة احتواء وتحذير للإخوان قبل الانتخابات الرئاسية الأولى في عام 2012 تحدثوا عن سيناريو الصدام في 1954 خلال مؤتمر صحفي مذاع على الهواء، أي أن الصراع بسجونه وقمعه يكرر نفسه في أجواء سياسية مختلفة ودرجات شدة مختلفة لكن بين نفس القوتين، وهذه الثنائية ظلت محل بحث ونقاش ودراسة على المستوى الأكاديمي والمستوى السياسي والمستوى الأمني، ولم يكن ذلك الاهتمام محليا فقط داخل مصر، لكنه كان إقليميا ودوليا، فهناك أطروحات ماجستير ودكتوراه تناولت ثنائية الإخوان والجيش وهناك ندوات ودرسات بحثية وبيانات أحزاب تقاطعت مع القضية وهناك اهتمام استخباراتي وجهود أمنية سعت للاستفادة من التقارب أو التنافر مع الطرفين، ومن هذه الثنائية الملفتة ولدت أسئلة وملاحظات كثيرة، بعضها يتعلق بعدم قدرة الأحزاب والتيارات (التي تسمي نفسها مدنية) على تشكيل بديل يحول الثنائية إلى ترويكا، مما يعطي مؤشرا لإمكانية السير في طريق التعدد والتحول نحو ديمقراطية تتيح للمواطن "الاختيار" بين بدائل متعددة، خارج ثنائية الدائرة الحمراء والدائرة السوداء، وتعبير الأحمر والأسود يشير أيضا إلى السلاح والدين، كما في رواية ستاندل الشهيرة "أحمر وأسود".
(4)
هناك أسباب كثيرة لتفسير جمود السياسة والصراع الداخلي في مصر بين الجيش والإخوان، وهناك مراجعات مطلوبة من اليسار واليمين، لنعرف أسباب ضعف اليسار القديم الذي بدأ مع استيراد الفكر الشيوعي في عشرينيات القرن الماضي، ولنعرف كذلك أسباب ضعف الاتجاهات الليبرالية بعد حصول مصر على استقلالها وتولي الجيش مهمة الحكم، في "جمهورية" ولدت وتأسست على خلفية صدام بين الجيش والإخوان والأحزاب الليبرالية وفي مقدمتها الوفد..
المؤسف أن التعامل السياسي في هذا الصدام لم ينضج لمستوى التعامل بين مشاريع سياسية تتصارع على الحكم، لكنه أسس نفسه كصراع عصابات، وبالتالي أسقط الصراع كل الجوانب الفكرية والقانونية والأخلاقية وبالطبع الدستورية، لأن الصراع على الحكم انطلق من رصاصة في ميدان المنشية، أو من تدبير تفجيرات لصناعة الخوف، أيا كانت الأسباب التي يَختار منها الطرفان، لكن مصر أهملت خيار التوافق والصراع السياسي بقواعده الدستورية والمدنية، وسارت في طريق "صراع الإزاحة"، وهو صراع يستند بالضرورة إلى القوة والعنف واستحلال كل السبل المشروعة وغير المشروعة لضرب الآخر، ومن هذا المدخل يصعب أن تفتح مصر مسارا لسياسة ديمقراطية تؤمن باختلاف المشاريع السياسية الساعية إلى الحكم في إطار تنافس مفهوم، بالعكس صار السعي إلى السلطة تهمة تستوجب الاعتقال والسجن، فالدولة تم اختزالها في نظام حكم لا يجب تغييره، لأن تغيير النظام أصبح خيانة عظمى!
(5)
انخرطنا جميعا في الصراع بشكله الخاطئ، وأصبحنا نشارك الكمساري سلوكه وننادي "نزلني والنبي محطة المطار السري"، فالأخبار تتحدث بكثافة عن اجتماع لجماعة الإخوان المحظورة في مقر الجماعة 8 شارع متحف المنيل، أو بعد ذلك في المقطم، النائب البرلماني فلان عضو الجماعة المحظورة يقدم استجوابا.. المسؤول الفلاني يحضر حفل إفطار الجماعة المحظورة.. إلخ!!!
آن لكل مؤسسة أو جماعة أو شخص يعمل بالعمل العام، لأن يتعرف على هويته وأن يقدم نفسه بتعريف صادق، وآن للآخرين أن يسألوا عن هذه التعريفات ويحفظوها ليحاسبوا كل الأطراف عليها، أما الاستمرار في خوض مثل هذه الصراعات العبثية فهو خطر وعلامة بؤس ونحس على الجميع.
في البدء كانت الجماعة مجرد جمعية خيرية مدنية للإصلاح والدعوة، ثم صارت جماعة لمقاومة الاحتلال بالسلاح في القناة وفي القاهرة نفسها عبر اغتيالات لم تكن فيها وحدها، فالأحزاب الليبرالية امتلكت أجنحة مسلحة ونفذت عمليات اغتيال وعنف أكثر بكثير من جماعة الإخوان، ولعل قصة مقتل أمين عثمان توضح أن أحد رؤساء الجمهورية كان يتفاخر بالمشاركة في عملية اغتيال سياسي، كما كان إبراهيم الورداني فخر الشعب والحزب الوطني وحسنين توفيق أبكى المشاهدين عندما تناولت السينما قصته كثائر يغتال كبار المسؤولين ويفجر معسكر الأعداء في فيلم "في بيتنا رجل"، وهذا يعني أن العنف حينذاك لم يكن تهمة، بل كان "رخصة للبطولة والوطنية"، لكن حماس الصراع بين السلطة والإخوان أسقط عن الأحزاب الليبرالية كل ما يتعلق بالعنف السياسي وأبقى على ما فعله الإخوان وحدهم، بوصفه "جرائم جنائية" وليس عملا سياسيا استخدم السلاح لأهداف وطنية أسوة بالآخرين!
(6)
هذا "الاختيار" يدعونا لسؤال أولي يحدد ما بعده: من هم الإخوان؟
سأحاول حصر الإجابة في 3 مداخل من وجهة نظري:
أ ـ لدينا إجابة المواطنين الدستوريين من أمثالي: الإخوان جزء من الشعب المصري لهم الحق في اعتناق الفكر الذي يروق لهم والخضوع لمنظومة الحقوق والواجبات كما ينظمها الدستور بالمساواة بين كل المواطنين، فلا حساب لجماعة أمام قانون، لأن القانون يحاسب الأفراد وليس العرقيات أو الجماعات.
ب ـ لدينا إجابة رسمية تتلاعب فيها السلطة بالتسميات حسب طبيعة التحالف والاستفادة من الجماعات السياسية، وبالتالي فإنها شاركتهم العنف قبل الثورة، ثم مارست العنف ضدهم أثناء الثورة، ثم شجعتهم على العنف في أجواء انقلاب السادات على مسار عبد الناصر، وتغافلت عن الجنازير والصراع في الجامعات والأحياء الشعبية ودعمت حملات الدعوة للجهاد الإسلامي في أفغانستان، ولما مسها عنف الجماعات عادت لتفتح عليهم النار وتصفهم بأنهم الضلال والإرهاب وأهل الشر، وعندما شاركت الجماعة في ثورة يناير وأسست حزبا وخاضت الانتخابات بالأسلوب الديمقراطي تم حل الحزب وحظر العمل السياسي وعدنا إلى نفس الدوامة العسكرية للصراع.
ج ـ لدينا إجابة الإخوان أنفسهم، وهي إجابة غير محددة لم تستقر فيها الجماعة على هوية صريحة تقدم بها نفسها، فهي مرة جماعة إصلاحية (أهل دعوة لا أهل ثورة)، وهي مرة جماعة إسلامية ترفع شعارا دينيا عاما جدا (الإسلام هو الحل)، وهي مرة جماعة سياسية تقبل بممارسات العمل الديمقراطي في ظل نظام علماني وتقبل بتوريث جمال مبارك تجنبا للصدام مع نظام والده أو لتوسيع فترة التمكين أو لأسباب تحتاج إلى تسريب معروف مسبقاً، وفي حالات أخرى تكشف الجماعة عن توجهات لاستخدام القوة في سبيل الوصول للحكم، وتتناثر المعلومات عن تنظيم خاص وجناح عسكري وانشقاقات تنظيمية تتخذ العنف وسيلة وحيدة للصراع مع خصومها، ولأن الجماعة لم تعلن بشكل نهائي اختيارا حاسما لهويتها، فإنها تجمع بين كل هذه الاتجاهات والاختيارات في سلة واحدة، أي أنها تدعو وتصلح وتثور وتنتخب وتحمل السلاح!
لا يهمني الآن إجابة الآخرين عن السؤال، يهمني أن تهتم الجماعة بتقديم إجابة واحدة لأعضائها ولخصومها السياسيين معاً: من هم الإخوان المسلمون؟.. جماعة دينية أم حزب أم تنظيم دولي يخطط للاستيلاء على مصر كمنطلق لدولة خلافة جديدة؟
(7)
هذا الوضع المشوه الذي ورثناه من صراع الإخوان والجيش حاصرنا في ثنائية وهمية بلا هوية واضحة، بحيث يصح القول إن الصراع بين ديكتاتورية عسكرية قائمة وديكتاتورية دينية تريد أن تقوم، كما يصح القول بأن الصراع بين قوة عسكرية تستمد مشروعيتها من الحفاظ على الأمن وقوة مناوئة تريد أن تخل بهذا الأمن لصالحها أو لصالح أطراف خارجية معادية، ويصح القول بأن الصراع بين حاكم ظالم وجماعة شعبية مظلومة، لكننا في كل هذه الأحوال نغالط السياسة ونهدر مقدرات البلاد في حماقات الصراع الأعمى على السلطة، لأننا لا نسمي الأشياء بمسمياتها، ولا نرتقي بالصراع لكونه بين مشروعيات سياسية للحكم، وهذا يضعنا أمام الأسئلة الصحيحة: من أنت؟ وما هو مشروعك للحكم؟ وما هي وسائلك في تحقيق ذلك؟
سؤال الهوية السياسية سيقودنا إلى التسريبات التي نحتاج إلى إعلانها وهي ببساطة:
هل الجيش مؤسسة أمنية تحمي ولا تحكم أم أنه عصابة مسلحة تحتل البلاد؟
الإخوان مشروع سياسي يبتغي الحكم ويسعى لذلك بالأسلوب الديمقراطي أم بقوة السلاح؟
الإجابة البسيطة القاطعة ستضع أقدامنا على أول خطوة في الطريق الصحيح، لأن هوية الفرد والجماعات والبلد نفسه هي المنطلق الذي يحدد ما بعده من ترتيبات وخطوات وأساليب، فإذا كان المنطلق فاسدا أو خادعا فإن الغايات ستكون مريبة وخاطئة، ولهذا فإننا نتحدث عن جمهورية بينما نمارس الملكية المقدسة، ونتحدث عن انتخابات ونحن نفرض ونعين، ونتحدث عن أمن ونحن نصنع الخوف، ونتحدث عن دستور ونحن ننتهك القوانين ونكسر القواعد، ونتحدث عن سياسة ونحن نتحرش ونطعن، ونتحدث عن بطولات ونحن نتصرف بخسة ودناءة ونغرق في الخيبات والهزائم.
(8)
آن لكل مؤسسة أو جماعة أو شخص يعمل بالعمل العام، لأن يتعرف على هويته وأن يقدم نفسه بتعريف صادق، وآن للآخرين أن يسألوا عن هذه التعريفات ويحفظوها ليحاسبوا كل الأطراف عليها، أما الاستمرار في خوض مثل هذه الصراعات العبثية فهو خطر وعلامة بؤس ونحس على الجميع.
وكل عام وأنتم بخير
tamahi@hotmail.com
المواطن المصري بين سرديتين.. المواطنة من جديد (98)
الاختيار3.. هذا العمل الهجين وخطورة التسريبات!