لم يكن مفاجئا ما كشفه الدبلوماسي الأمريكي فريد هوف في كتابه "بلوغ المرتفعات" عن موافقة بشار الأسد الخروج من "حلف الممانعة" إذا انسحبت إسرائيل من مرتفعات الجولان، ورفعت الولايات المتحدة الأمريكية العقوبات عنه، إذ طالما كانت ممانعته مجرد ديكور للتغطية على صفات النظام الحقيقية بوصفه نظاما استبداديا وطائفياً.
تلك كانت سياسات مبرمجة من قبل النظام السوري صاغها الأب المؤسس حافظ الأسد، الذي أتيحت له فرصة لمعاينة اتجاهات الشارع العربي وميوله ومعرفة القضايا التي تلهب مشاعره وتلك التي تثير استياءه، لذا كان من الطبيعي أن يتغنى بالقومية العربية، ويرتّل أناشيد "بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان"، في الوقت نفسه الذي يساعد فيه إيران لاحتلال بغداد وتكريس سيطرتها على الخليج "الفارسي" العربي.
كما رفع شعار تحرير فلسطين، وجعله إعلاميا وخطابيا، الهدف المقدس، وبالوقت نفسه ذبح الفلسطينيين في تل الزعتر، ودمّر هياكلهم الثورية، وأسس فرع "فلسطين" للمخابرات، الذي بحسب شهادات يساريين فلسطينيين في سوريا، لم يبق فلسطيني، مثقفا أو مناضلا، لم يزر فرع فلسطين، ويتلقى نصيبه من التعذيب والإهانة.
غير أن اللافت للانتباه في مذكرات هوف تلك، الأشواق التي كان يبديها الأسد لتوقيع الاتفاق مع إسرائيل وإعلان خروجه من حلف الممانعة، والالتزام بكل شروط الاتفاق، وخاصة: عدم مساعدة أي طرف أو جهة تسعى إلى القيام بعمليات عسكرية ضد إسرائيل، وكذلك استعداده "وتحمّسه" لتسهيل عمليات التطبيع بين إسرائيل والدول العربية، بما في ذلك قبولها كعضو في الجامعة العربية.
هذا يعني إقرار من الأسد أن فلسطين، وأيا يكن مصيرها بعد توقيعه اتفاق السلام مع إسرائيل، لن تكون على جدول اهتمامات نظام الأسد، وهذا ليس استنتاجا افتراضيا، بل هو أحد مخرجات اتفاقية السلام والشروط التي صاغتها أمريكا وإسرائيل، وقبل الأسد بها دون حتى أدنى اعتراض، بل جل ما انصبت عليه اهتمامات الأسد في الوثائق التي سلمها له الوسيط الأمريكي، تركزت على تفاصيل تتعلق بحصص المياه والمساحة التي يجب أن تنسحب منها إسرائيل من الجولان، أما فما يتعلق بموقفه من قضية فلسطين، فلم يعره أدنى اهتمام، في وقت كان فريد هوف يضع يده على قلبه؛ خوفا من اعتراض الأسد على أي من تلك البنود.
رفع شعار تحرير فلسطين وجعله، إعلاميا وخطابيا، الهدف المقدس، وبالوقت نفسه ذبح الفلسطينيين في تل الزعتر، ودمّر هياكلهم الثورية، وأسس فرع "فلسطين" للمخابرات، الذي بحسب شهادات يساريين فلسطينيين في سوريا، لم يبق فلسطيني، مثقفا أو مناضلا، لم يزر فرع فلسطين، ويتلقى نصيبه من التعذيب والإهانة.
الأمر الآخر الملفت، جواب بشار الأسد على سؤال فريد هوف المتخوّف من إمكانية تخريب حزب الله وأمينه حسن نصر الله للاتفاق بين سوريا وإسرائيل، حيث يؤكد الأسد حرفيا بأن "الجميع سيفاجؤون بالسرعة التي سوف يلتزم بها حسن نصر الله بالقواعد، بمجرد إعلان كل من سوريا وإسرائيل التوصل إلى اتفاق سلام"!
يطرح هذا الكلام جملة من التساؤلات حول السبب الذي جعل الأسد يوافق على طرح أمريكي للسلام مع إسرائيل كان الأسد رفضه سنة 2000، وتأكيد التاريخ هنا أمر مهم، إذ إن بشار الأسد كان في هذا الوقت هو الحاكم الرسمي لسوريا؛ نتيجة مرض حافظ الأسد وتسليمه زمام الحكم لابنه منذ ما قبل هذا التاريخ بسنوات.
السؤال الثاني: من أين أتي بشار الأسد بهذه الثقة من أن حسن نصر الله، الذي كان يعد بتحرير القدس، سيوافق بدون أدنى اعتراض، وربما بسرور، طالما أن موافقته ستكون مفاجئة؛ فالمفاجأة كانت ستكون بنوع التأييد لهذه الاتفاقية، الغريب أن هذا الكلام كان في شباط/فبراير 2011، في حين سيشن حسن نصر الله، بعد أشهر قليلة، حربا مدمرة على المدن والأرياف السورية ومن حلب ودرعا؛ بذريعة أن طريق القدس يمر منها!
ليس صعبا فك هذه الألغاز، الأحداث التالية أشبعتها تفكيكا وتوضيحا؛ فالأسد الأب رفض التوقيع على معاهدة السلام لأنه أراد أن تكون إعادة الجولان بواسطة وريثه ليتحصل على شرعية تكفيه لحكم سوريا إلى الأبد، فالأسد الذي كان يعرف أنه سيموت قريبا، لم يكن بحاجة إنجاز لن يفيده بشيء وشمسه مالت إلى الغروب، والأفضل أن يستثمر الوريث هذه الورقة ويتعيّش عليها لحكم سوريا ومن بعده أبناؤه.
أما موافقة حسن نصر الله، فهي مؤكدة طالما أنها ستعزّز بقاء الأسد في السلطة عقودا طويلة، فالمهم عند نصر الله، كما أثبتت الأحداث، هو عدم وصول شخص ينتمي لمكونات سورية أخرى، وتحديدا المكوّن الأكثري. أما مسألة المقاومة، فكانت ستكتفي عند ذلك الحد، طالما ستضمن بقاء حزب الله مسيطرا على الداخل اللبناني، بدليل أن الأسد نفسه يذكّر أن لبنان سينضم على الفور لمعاهدة السلام، ما يعني أن الأسد كان ينسّق مع نصرالله خطوات مسار السلام مع إسرائيل لحظة بلحظة، وكذلك الأمر بالنسبة لإيران، التي يستحيل أن تكون خارج أجواء مناقشات المحادثات مع الإسرائيليين.
في الواقع، هذه حدود المقاومة بالنسبة للأسد وإيران ونصر الله، هي مقاومة وظيفية، ولا علاقة لها بالمقاومة التي يقودها شباب الضفة وغزة وفلسطين 48، فتلك مقاومة حدودها تحرير فلسطين من نير أبشع استعمار عرفته البشرية.
التفكير الروسي في أوكرانيا عبر المرآة السورية
الغرب عنصري وغارق في ازدواجية المعايير.. ماذا بعد تأكيد ذلك؟