عندما قرّر بوتين أن يغزو أوكرانيا، كان يعتقد أنّ المهمّة ستكون في غاية السهولة، ولعلّه ذهب في تصوّره إلى ما هو أبعد من احتلال أوكرانيا وتغيير نظامها السياسي على اعتبار أنّ هذه المهمّة هي مجرّد تحصيل حاصل بالنسبة له. اليوم، يبدو المشهد مغايراً تماماً. خسائر بشريّة ومادّية وعسكريّة عالية، تكاليف غير مسبوقة، أداء عسكري هزيل، وتحوّل في الأهداف النهائية للحملة العسكرية الروسية.
يعكس هذا الوضع المأزق الذي أدخل الرئيس الروسي نفسه فيه عندما قرر غزو أوكرانيا، فهو الآن بين السيئ والأسوأ. إمّا أن ينسحب بدون مكاسب استراتيجية ويكون ذلك بمثابة هزيمة قاسية لروسيا ولمستقبل بوتين السياسي، أو أنّه يواصل الحملة العسكرية وفق الأهداف الجديدة الأقل تواضعاً، ويتحمّل في المقابل الخسائر الرهيبة وحملة الاستنزاف التي يتم إعداد العدّة لها الآن داخل أوكرانيا.
وبين هذا الخيار وذاك، تسعى تركيا للتوصل إلى تسوية تحفظ بموجبها ماء الوجه لبوتين وتسمح له بتسويق الانتصار في الداخل الروسي، وتعطي في المقابل لأوكرانيا الضمانات اللازمة لمنع تكرار التهديد الروسي. لكن هذه التسوية لا تزال صعبة المنال حتى هذه اللحظة.
مأزق بوتين في أوكرانيا لا يتعلق بروسيا وحدها. جميع القوى الكبرى تعاني الآن من معضلة الخيارات الاستراتيجية التي أقحمهم بوتين فيها، ولربما كان بعضهم يتمنى لو أنّ بوتين لم يقضم أكثر ممّا يستطيع أن يمضغ في أوكرانيا كما يُقال، لكان تجاهل الأمر أيسر عليهم. لكن الغزو الروسي غيّر حساباتهم ودفعهم للتحرّك.
ومع ذلك، فإنّ احتلال بوتين لأوكرانيا لم يعد مشكلة روسية فحسب. بالنسبة إلى القوى الأوروبية، هي تريد معاقبة موسكو بشدّة لكنّها لا تستطيع أن تفعل ذلك دون أن تؤذي نفسها أيضاً. لذلك، تقع هذه القوى رهينة المصالح المرتبطة بروسيا وهي دائماً ما تحسب الحد الذي بإمكانها أن تؤذي روسيا فيه دون أن تؤذي نفسها. فضلاً عن ذلك، فإنّ بقاء روسيا في الحيّز الجغرافي الأوروبي بعد انتهاء الحرب سيبقى هاجساً يؤرق الأوروبيين ويذكّرهم بألاّ يغالوا في مواجهة موسكو.
جميع القوى الكبرى تعاني الآن من معضلة الخيارات الاستراتيجية التي أقحمهم بوتين فيها، ولربما كان بعضهم يتمنى لو أنّ بوتين لم يقضم أكثر ممّا يستطيع أن يمضغ في أوكرانيا كما يُقال، لكان تجاهل الأمر أيسر عليهم. لكن الغزو الروسي غيّر حساباتهم ودفعهم للتحرّك.
أمّا بالنسبة إلى الصين، فهي تريد أن تستفيد من الحرب الحاصلة بوصفها فرصة لتوظيف موارد روسيا بأقل تكلفة، وحلبة صراع تشغل جميع المنافسين ببعضهم البعض بعيداً عنها. لقد سبق للصين الاستفادة كثيراً من الأزمات السابقة خلال العقدين الماضيين، لكنّ مشكلتها تكمن في أنّ هزيمة روسيا ستفقدها حليفاً محتملاً في مواجهة الغرب إذا ما دخل الطرفان في نزاع من هذا النوع في المستقبل. فضلاً عن ذلك، فإنّ تحرّكات روسيا تجاه أوكرانيا ستسلّط الضوء بشكل أكبر على نوايا الصين تجاه تايوان في المرحلة المقبلة، وبالتالي فهي قد تعقّد من أي محاولات صينيّة لضم تايوان بالقوّة.
وبالرغم من الخطاب الحاد والنبرة العالية تجاه روسيا، فإنّ خيارات الولايات المتّحدة ليست بأفضل حالا من الآخرين. واشنطن تريد بالفعل إيلام موسكو، لكنّها لا تريد أن تنخرط معها في معركة طويلة الأمد تشغلها عن الخطر الأكبر وهو الصين. فضلاً عن ذلك، فإنّ الولايات المتحدة تودّ أن ترى روسيا مهزومة في أوكرانيا بالتأكيد، لكنّها لا تودّ الذهاب أبعد من ذلك وإذلال موسكو كي تبقى الحسابات العقلانيّة قائمة لدى بوتين ولا يلجأ إلى خيارات راديكالية أو انتحارية تزيد الأمور تعقيداً. ولهذا السبب بالتحديد، فإنّ نبرة واشنطن تجاه روسيا أقوى من أفعالها في الوقت الحالي، وهي حريصة على إبقاء التواصل مع موسكو قائماً وعلى أن تحفظ لها في نفس الوقت "خط الرجعة" كما يقال كي لا يؤدي الضغط الشديد إلى الانفجار.
لكن المشكلة الأساسية في هذه المعادلة الدقيقة هي أنّ تحفيف الضغط على موسكو قبل إنهاكها قد يعطيها القدرة على التعلّم من الحرب الحالية بعد أن كشف الجميع عن أوراقهم، ما يتيح لها استعادة أنفاسها وإعادة الكرّة مستقبلاً، وهذا أمر لا يحبّذه أي أحد بالتأكيد.
أصدقاء الولايات المتّحدة في الشرق الأوسط يريدون في الغالب استغلال الأزمة الحالية للتعبير عن امتعاضهم من سياسات واشنطن أو ربما لتحسين موقعهم التفاوضي معها في الوقت الذي تريد منهم أن يزيدوا من إنتاج النفط والغاز في الأسواق في محاولة لتخفيض الأسعار وتعويض الدور الذي تلعبه روسيا في هذا المجال. لكن مبالغة هذه الدول في محاولة استثمار الموقف قد تؤدي إلى نتائج عكسية بدليل أنّ واشنطن أبدت استعدادها للتفاهم مع دول مثل فنزويلا وإيران بدلاً من التجاوب مع ما تراه محاولة لابتزازها.
الخلاصة أنّ المشهد أكثر تعقيداً مما يبدو عليه، وهو لا يقتصر على الأطراف المتحاربة بشكل مباشر فقط وإنما يشمل كذلك مواقف القوى الدولية والإقليمية التي تحاول التموضع بشكل يسمح لها إما بتخفيف الخسائر الناجمة عن هذه الحرب، أو بالاستفادة من الفرص التي قد توفّرها لهم. وبين هذا وذاك، لا يزال من المبكّر رسم المعالم النهائية لتداعيات هذه الحرب، وإن كان من الواضح أنّ موسكو لم تكن تسعى بتاتاً إلى أن تكون في الوضع الذي هي عليه اليوم.