عقد رئيس الحكومة الليبية المكلفة من البرلمان، فتحي باشاغا، باكورة اجتماع حكومته في الجنوب ولهذا دلالته، فهو وإن منع حتى الآن من ممارسة سلطته من العاصمة طرابلس، إلا أن الشرق مفتوح له، واجتماع الحكومة في بنغازي يرسل رسالة قوية تؤكد ما يفتخر به شاغا وأنصاره من أن حكومته هي حكومة كل الليبيين وتحظى بتأييد الشرق قبل الغرب، لكنه لم يفعل وهو ربما أراد التخفيف من تأثير ضغوط مخالفيه في الغرب والذين يتحفظون على تحالفه مع حفتر الحاكم الفعلي للشرق، خاصة وأنه في مرحلة حرجة يحاول فيها تفكيك الجبهة المعارضة لحكومته في مدن الغرب، خاصة طرابلس ومصراتة.
هناك الكثير مما يمكن قوله بخصوص أول اجتماع للحكومة الليبية برئاسة باشاغا، إلا أن الأهم هو الخطاب الذي يبدو أنه معتمد لديها وهو اتهام ادبيبة وحكومته بالتورط في الإرهاب ودعم الإرهابيين، ولهذا دلالته أيضا، فبعد تهم الفساد التي ارتكز عليها باشاغا في نزع شرعية حكومة الوحدة الوطنية، صار هناك تركيز واضح على إلصاق تهم الإرهاب بها، ووصمة الإرهاب مهمة لعزل ادبيبة وأنصاره، لكن قد يفهم من التصعيد في الخطاب ضد ادبيبة أنه اتجاه لتمهيد الظروف السياسية والأمنية، المحلية والدولية، لتبرير استخدام القوة ضده.
بالمقابل، ظهر ادبيبة وهو يتناول الإفطار في ضيافة أحد قادة المجموعات المسلحة في طرابلس، ولهذا دلالته كذلك، فقد صار نفوذ ادبيبة وغريمه باشاغا يعتمد على هذه المجموعات المسلحة، إلى الدرجة التي يفقدهما الكثير من المصداقية أمام الرأي العام، ويزيد من تعقيد مشكلة النفوذ والقوة ذات الطابع "المليشياوي"، ذلك أن إجماعا لا يشذ عنه أحد تقريبا يتأسس على أن وجود تلك المجموعات هو من بين أبرز التحديات أمام الاستقرار السياسي والأمني والاتجاه إلى بناء مؤسسات الدولة على أساس مهني متين.
سياسة تجفيف المنابع تجدي في الضغط على أطراف النزاع للقبول بالتسوية السياسية كما أنها تساعد في دفع المسار الحواري الذي تراهن عليه واشنطن رجاء أن يتحول إلى تفاوض جدي ينتج أساس دستوري وقانوني للانتخابات.
على صعيد الاستقطاب الخارجي ظهر ادبيبة وهو في زيارة للجزائر حيث استقبله رئيسها، ومن الواضح أن ادبيبة أراد البحث عن متنفس وهو يواجه ضغوط الخارج، حيث ينظر إلى الجزائر أنها المكافئ لمصر في توازن دول الجوار، ومعلوم دور القاهرة في النزاع الحكومي الراهن. وإذ يتمتع باشاغا ببراح في تونس يتحرك من خلاله لتعزيز نفوذه وتفكيك نفوذ خصمه، فإن اتجاه ادبيبة للجزائر إنما للبحث عن سند لدى دولة لها تأثيرها على القرار التونسي بشكل أو آخر.
ادبيبة في تصريح لإحدى الصحف البريطانية تعهد بالمساهمة في تخفيف أزمة الطاقة التي تواجهها المملكة المتحدة جراء الحرب الروسية الأوكرانية، ويأتي ذلك في سياق صراع النفوذ على المستوى الإقليمي والدولي، ومحاولة كسر الجمود الدولي تجاه الحكومة الجديدة.
سباق كسب الشرعية والتأييد الدولي الذي يتنافس فيه ادبيبة وباشاغا يؤكد أن كلاهما يواجه أزمة شرعية على المستوى الدولي، فالحكومة الليبية تدخل شهرها الثالث دون أن يكون لها سلطة نافذة في الداخل أو اعتراف من الخارج، وهو ما بات يواجهه ادبيبة الذي لم يستقبل في الجزائر استقبال رؤساء الحكومات، إلا أن كلاهما لا يبدو مستعدا للتنازل وإنهاء أزمة الحكومة، بل إن تحركاتهما تشير إلى احتمال تورطهما في مواجهات مسلحة دون النظر إلى عاقبة هذا المنحى الخطير.
وليس ببعيد عن تدافع الشرعية والنفوذ بين ادبيبة وباشاغا الاجتماع الذي ضم محافظ المصرف المركزي مع نائب وزير الخزانة الأمريكية بمعية المبعوث الأمريكي الخاص لليبيا، إذ يدرك الأمريكان أن القرار المالي هو من يرجح كفة أحد الطرفين في النزاع القائم، وتريد واشنطن أن تبعد خزانة الدولة عن هذا الصراع، وهو السيناريو ذاته الذي انتهجته الولايات المتحدة بعد تفجر الوضع العام 2014م واقتسام السلطة بين حكومة في الشرق وأخرى في الغرب.
سياسة تجفيف المنابع تجدي في الضغط على أطراف النزاع للقبول بالتسوية السياسية كما أنها تساعد في دفع المسار الحواري الذي تراهن عليه واشنطن رجاء أن يتحول إلى تفاوض جدي ينتج أساس دستوري وقانوني للانتخابات.
ما الذي يجري بين البرلمان والأعلى للدولة في القاهرة؟
مواطن بلا ذاكرة.. المواطنة من جديد (97)