من المؤكد تاريخيا أن حركات وأحزاب الصحوة الإسلامية لم تختر للتعبير عن نفسها مصطلح الإسلام السياسي. الذي كان صناعة غربية بعد الانتباه للمخاطر الاستراتيجية التي يمكن أن تشكلها تلك الحالة على مصالحها.
وقد أحدث استعماله كثيرا من الخلط والالتباس بسبب خلفيات إطلاقه ومفهومه وقدرته على التعبير عن الصحوة الإسلامية ومنهج فهمها للإسلام ومنهج تنزيلها له.
وبتطور الحالة ونضجها وفاعليتها المجتمعية والسياسية ازداد مصطلح الإسلام السياسي التباسا بعد إطلاق مصطلح الإرهاب كتعبير عن كل من يستعمل العنف لفرض آرائه السياسية وقد تعمد مصمموه عدم تدقيقه وإلصاقه ظلما وبهتانا بالإسلام ثم خلطه عمدا بمصطلح الإسلام السياسي لحشر الجميع ضمنه دون تمييز.
ضمن هذا السياق وانطلاقا من التجربة السياسية المبكرة لحركة "النهضة" التونسية بداية ثمانينيات القرن الماضي التي نظرت للحرية كمدخل للإصلاح ومطلب للنضال السياسي الذي تطور في اتجاه التنسيق والعمل المشترك والقبول بالآخر بمختلف تصنيفاته اليسارية واللبرالية والقومية وإلى تكوين جبهات وخوض نضالات مشتركة إلى حدود قيام الثورة التونسية وانطلاق مسار الانتقال الديمقراطي وكتابة الدستور، وتجنبا لما حف بمصطلح الإسلام السياسي من ملابسات وما علق به من تشوهات وخلط اتجهت الحركة إلى مزيد تعميق النظر في موضوع الإسلام والديمقراطية انطلاقا مما وقع طرحه من قضايا وإشكالات عند كتابة الدستور ثم أثناء الإعداد للمؤتمر العاشر، فكان التوجه نحو مصطلح الإسلام الديمقراطي من خلال بعض التصريحات الصحفية التي سبقها قبل بضع سنوات إطلاق صفة المسلم الديمقراطي من قبل بعض المنظمات الدولية على بعض رموز الأحزاب الديمقراطية ذات المرجعية الإسلامية مثل الأستاذ راشد الغنوشي وسعد الدين العثماني وغيرهما.
فما هي ملابسات نشأة مصطلح الإسلام السياسي وخلفياتها؟ وما هي دلالاته الفكرية والسياسية؟ وما هي خلفيات الخلط بينه وبين مصطلح الإرهاب؟ وما هي دواعي استعمال مصطلح الإسلام الديمقراطي؟ وما هي دلالاته انطلاقا من تجارب الأحزاب الديمقراطية المسيحية في الغرب والأحزاب ذات المرجعية الإسلامية وخاصة حركة "النهضة" التونسية؟
وهل تمثل حركة "النهضة" نموذجا للإسلام الديمقراطي؟ وهل يمكن أن يزيل مصطلح الإسلام الديمقراطي الخلط المقصود ويحدث التمايز المطلوب بين الأصيل والدخيل من حركات وأحزاب الصحوة الإسلامية؟ وهل دخل مصطلح الإسلام الديمقراطي المعجم السياسي الدولي كعنوان للتميز والتعامل؟
1 ـ ملابسات نشأة مصطلح الإسلام السياسي وخلفياتها:
مع أواخر القرن التاسع عشر ميلادي ومطلع القرن العشرين وبروز دور الإسلام كمحرك أساسي لإذكاء روح التحرر والمقاومة ضد الاستعمار ليس كدين للأمة العربية والإسلامية فقط، بل كفضاء حضاري جامع لكل مكونات المجتمعات العربية والإسلامية بمختلف أعراقها وأديانها.. ومع بداية ظهور حركات الإصلاح والتجديد الإسلامي وروادها في مختلف أنحاء العالم الإسلامي كمحمد إقبال وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي والكواكبي والوزير خير الدين التونسي والشيخ عبد العزيز الثعالبي، وطرح السؤال المركزي لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون؟
وقد اتجهت الإجابة نحو تحديث الدولة وتطوير النظم والملاءمة بين الإسلام ومنجزات العصر ضمن هذا السياق وفي إطار الاستجابة لتحدي التقدم والتفوق الغربي والهيمنة والتسلط التي مارسها، كانت نشأة العديد من الجماعات والحركات والأحزاب وعلى رأسها الإخوان المسلمون في مصر والجماعة الإسلامية في باكستان والحركة الإسلامية في تركيا والسودان وإيران وغيرها، وذلك على أرضية الفهم الشامل المتكامل للإسلام في رؤيته للإنسان كروح ومادة ولأفعال الإنسان كعبادات ومعاملات بمختلف أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إن السياسة من جوهر الإسلام وليست دخيلة عليه ولا علاقة للمفهوم المكيافلي الغربي اللاديني بالسياسة في الإسلام. ووفق ما تقدم فإن المقصود بالإسلام السياسي هو الخلط بين الإسلام وفق المفهوم الكنسي للدين الذي يجب أن ينحصر في علاقة الإنسان بربه والسياسة وفق المفهوم الغربي المكيافلي.
وقد اصطلح العديد من المفكرين والمتابعين والمراقبين على تسميتها بالصحوة الإسلامية التي بدأت تتطور وتتوسع وتتنوع انطلاقا مما تقدمه من إجابات حول تقدم الغرب وتخلف المسلمين، خاصة بعد ما انتهت إليه حركات التحرر الوطني من خيبات وما آلت إليه أوضاع الدولة الوطنية من فشل وهزائم.. وقد تمحورالاختلاف بينها حول منهج الإصلاح الناتج عن طبيعة الأنظمة وخصوصيات كل تجربة، حيث دخل بعضها في صراع سياسي مع الأنظمة وأحيانا مسلح ووصل بعضها للحكم أو المشاركة فيه عبر ثورات شعبية أو آليات الديمقراطية أو باستعمال القوة.
ضمن هذا السياق ظهرت قراءات استشرافية وتقديرات استراتيجية تعتبر أن الخطر المستقبلي على الغرب وهيمنته الحضارية يكمن في تطور الصحوة الإسلامية وتوسعها بعد أن سبقتها محاولات مع منتصف القرن الماضي لادعاء الفصل بين الإسلام والسياسة في ما كتبه الشيخ الأزهري علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم" وما أظهره بعض المثقفين من انبهار بحضارة الغرب مثل الدكتور طه حسين وسلامة موسى وشبلي شميل.
وقد مثل ظهور مصطلح الإسلام السياسي أواخر سبعينيات القرن الماضي وبداية الثمانينيات تعبيرا عن خلفية الجهات الغربية السياسية والإعلامية والمخابراتية وكجولة من جولات السعي لاستبعاد الإسلام عن الفاعلية الحضارية وتكريسا لفكرة تعارض الدين مع السياسة التي انبنت عليها الحضارة الغربية المعاصرة وسحبها على الإسلام رغم الاختلاف الجوهري بينه وبين المسيحية، ودوره الريادي في بناء الحضارة العربية الإسلامية وتطورها.
كما أُريد لمصطلح الإسلام السياسي أن يقدم حركات وأحزاب الصحوة الإسلامية للرأي العام على أنها خارجة عن الإسلام وتشوهه بالخلط بينه وبين السياسة، وذلك لعزلها عن حاضنتها الاجتماعية وتقديمها لقمة سائغة لأنظمة الاستبداد التي يدعمها الغرب للمحافظة على مصالحه وعلى وجود الكيان الصهيوني كقاعدة استعمارية متقدمة له.
2 ـ الدلالات الفكرية والسياسية لمصطلح الإسلام السياسي:
تضمن المصطلح في بعده اللغوي نعتا هو صفة السياسي أما المنعوت فهو الإسلام.. ومعلوم أن النعت في اللغة العربية هو تعبير عن الحالة التي يكون عليها المنعوت، فإذا كان معرفا يكون النعت للتوضيح ويمكن أن يستعمل للمدح أو الذم.. وفي الصيغة الحالية فقد استعمل النعت للتوضيح ولكن بمعنى الذم، فنسبة السياسي للإسلام توحي بوجود إسلام غير المتعارف عليه على غرار مصطلح الرجل المريض الذي أطلقته دوائر التآمر الدولي كناية على حال الخلافة العثمانية قبل سقوطها.
أما دلالات المصطلح من الناحية الفكرية والسياسية، فإن فيه تحريفا لمفهوم الإسلام كمنهج حياة شامل ومتكامل وكعقيدة وشريعة وكعبادات ومعاملات لا يمكن الفصل بينها. والفصل في حقيقته عزل للإسلام عن الحياة وحصر له في حدود العبادات.. وهذه هي الدلالة الأساسية لنعت إسلام حركات وأحزاب الصحوة بالسياسي مع حصر مفهوم السياسة في المفهوم المكيافلي الانتهازي الذي يعتمد الغاية تبرر الوسيلة، وإبراز أن هذه الأطراف تخلط الدين المقدس بالسياسة المدنسة والحال أن مفهوم السياسة عموما لا يقتصر على السائد في الغرب بل من أرجح تعريفاتها وأكثرها عقلانية أنها فن توزيع النفوذ والقوة في حدود دولة ما ورعاية مصالحها الداخلية والخارجية، وفي تعريفات أخرى فهي فن إدارة الممكن أو كما عرفها فقهاء السياسة الشرعية بأنها القيام على الشيء بما يصلحه أو رعاية مصالح الأمة بما يقربها للصلاح ويبعدها عن الفساد.
وبهذا الفهم فإن السياسة من جوهر الإسلام وليست دخيلة عليه ولا علاقة للمفهوم المكيافلي الغربي اللاديني بالسياسة في الإسلام. ووفق ما تقدم فإن المقصود بالإسلام السياسي هو الخلط بين الإسلام وفق المفهوم الكنسي للدين الذي يجب أن ينحصر في علاقة الإنسان بربه والسياسة وفق المفهوم الغربي المكيافلي.
3 ـ خلفيات خلط مصطلح الإسلام السياسي بمصطلح الإرهاب:
مع تصاعد تأثير الجماعات التي تعتمد الإسلام كمرجعية فكرية وسياسية وتنوع مفاهيمها وتوجهاتها حول الإصلاح والتغيير ومواقفها من الأنظمة ومن المجتمعات وانحصارها بين توجهين: الأول يراهن على الوعي المجتمعي والنضال السياسي الديمقراطي وهو في تقديرنا الخيار الصحيح والأنجع لأن الإصلاح والتغيير لا يكون فوقيا "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، والثاني يراهن على تغيير الأنظمة وحمل المجتمعات على الإسلام بالقوة وقد وصل بعضها إلى حد تكفير الأنظمة والمجتمعات معا.
وقد تعاظم دور وتأثير التوجه الثاني مع انسحاب الاتحاد السوفييتي من أفغانستان أواخر ثمانينيات القرن الماضي ثم تفككه فيما بعد. وأيضا مع عودة المقاتلين العرب في أفغانستان الذين اصطلح على تسميتهم بالعرب الأفغان إلى بلدانهم، ثم قيام نظام طلبان في أفغانستان بعد فشل أمراء الحرب في بناء الدولة والذي تأسس في ظله تنظيم القاعدة.. كل هذه الأحداث أغرت المراهنين على اعتماد القوة أداة للتغيير بفتح جبهات للقتال لإسقاط أنظمة الاستبداد كانت من أهمها الجزائر كرد فعل على الانقلاب عن الديمقراطية في 1992، حيث عاشت عشرية سوداء حالكة السواد كادت تدمر الدولة والمجتمع ثم كانت أحداث 11 سبتمبر 2001 الإجرامية التي هزت العالم وقلبت السياسة الدولية رأسا على عقب.
مثل ظهور مصطلح الإسلام السياسي أواخر سبعينيات القرن الماضي وبداية الثمانينيات تعبيرا عن خلفية الجهات الغربية السياسية والإعلامية والمخابراتية وكجولة من جولات السعي لاستبعاد الإسلام عن الفاعلية الحضارية وتكريسا لفكرة تعارض الدين مع السياسة التي انبنت عليها الحضارة الغربية المعاصرة وسحبها على الإسلام رغم الاختلاف الجوهري بينه وبين المسيحية.
ضمن هذا السياق ظهر مصطلح الإرهاب الذي بدأت باستعماله بعض الأنظمة بداية تسعينيات القرن الماضي لتبرير قمعها لإرادة شعوبها في الاختيار الحر الديمقراطي وعلى رأسها نظام الاستبداد والفساد التونسي بعد انقلابه على نتائج انتخابات 1989. ثم توسع استعمال مصطلح الإرهاب إثر أحداث سبتمبر 2001.
وبقطع النظر عن خلفية عدم تدقيقه والإبقاء عليه فضفاضا فقد عبر عن حقيقة الظاهرة لغويا بما يعنيه من تخويف شديد وترويع.. أما اصطلاحا فقد تم اعتماده في التعبير عن استعمال القوة المادية التي يترتب عنها إبادة فردية أو جماعية بقطع النظر عن الدوافع دينية كانت أو سياسية أو اقتصادية أو عرقية.. إلا أن استعماله الدولي لم يخل من تسييس وتوجيه نحو الإسلام دون غيره والحال أن الإسلام لا يجيز استعمال القوة إلا في حالة الدفاع عن النفس ورد الاعتداء.
وكما أن لممارسة الإرهاب دوافع يمكن أن تدعي الاستناد إلى الإسلام فهناك دوافع أخرى دينية وأيديولوجية وسياسية وعرقية وانفصالية انبنت على أساسها منظمات اكتوت بنارها العديد من الشعوب مثل "ايتا" في إسبانيا و"لكسيون ديراكت" في فرنسا و"بادر ماينهوف" في ألمانيا وغيرها بما يجعل الإرهاب لا دين له ولا وطن والخلط بينه وبين الإسلام فيه تعسف وتشويه متعمد وكذلك عدم التمييز بينه وبين مقاومة الاحتلال فإنه لا يدل إلا عن تبرير الاعتداء وتسويغ الاحتلال الصهيوني خصوصا.
وقد عمدت نفس الدوائر والجهات التي أطلقت مصطح الإسلام السياسي بهدف تشويه الصحوة الإسلامية وضربها من الداخل بالخلط بين مكوناتها الأصيلة ومكوناتها ذات الأفهام المنحرفة أو الدخيلة إلى الخلط بين مصطلحي الإسلام السياسي والإرهاب وذلك لتعميم الاستهداف دون تمييز بل إن الأمر بلغ حد استهداف الإسلام في أسسه بدعوى ما يمكن أن يوفره من حاضنة للإرهاب وعلى هذا الأساس تم شن الحروب وإبادة الشعوب والدوس على حقوق الإنسان والاعتداء على المقدسات ونهب الثروات وتصنيف الدول بتهمة دعم الإرهاب وحصارها وعزلها دوليا في حرب "مقدسة" على الإسلام السياسي بل على الإسلام باسم الإرهاب من أجل تصفية أي نفس تحرري للأمة العربية والإسلامية بالتواطؤ مع أنظمة الفساد والاسبداد وتعاون معها.
الإجماع الوطني والتوافق على كل شيء يشكل عائقا أمام الازدهار
الساسة التونسيون ومواسم الحج إلى بورقيبة "زقفونة"
المرجعية الدينية ومأسسة الاجتهاد في الفكر الإسلامي.. أطروحات