ليس رجما بالغيب القولُ بأنّ المنطقة العربية كاملة من أدناها إلى أقصاها كانت ولا تزال وستبقى ساحة للفوضى والخراب والدمار أجيالا قادمة. وليس دفعا باليأس القول بأن كل محاولات التغيير والنهوض والإنقاذ ليست سوى ذرا للرماد في عيون المتأملين. بل يمكن القول إنّ النفخ في سرديات الأمل وفي أدبيات التبشير بالانفراج ليست إلا مشاركة في جريمة أخطر هي الصمت عن المآلات الكارثية لمسارات الأمة جمعاء.
سيقول قائل: وماذا سنستفيد من نشر اليأس وزرع الإحباط والترويج للسقوط؟ ماذا سنجني من الإقرار بالهزيمة الحضارية والتاريخية ونحن نتجرّع أطوارها كل يوم؟ ماذا يفيد البكاء على الأطلال والخرابُ في كل مكان وفي كل ركن؟
الجواب بسيط وواضح: إنّ أوّل مراحل الشفاء إنما يكون بالتشخيص السليم للداء حتى تكون وصفة العلاج فعّالة ناجعة. فأنْ يقول الطبيب لمريض السرطان عافاكم الله أنه يعاني من نزلة برد عابرة مشاركةٌ في الجريمة ودفعٌ به نحو الموت البطيء.
مرضُ الرجل المريض
المرض في حالة الفرد كما في حالة الجماعة والأمة حالة طبيعية واردة تعرفها الشعوب والأمم ويعرفها الأفراد طوال حياتهم بل إنها في حالات كثيرة ممرات ضرورية ليصنع البدن مضاداته الحيوية ويقوّي جهازه المناعي ضد كل أنواع الأمراض وسلالات الجراثيم الأصلية والمتحوّرة.
لكن في الحالة العربية فإن الأسقام التي تعاني منها الأمة منذ قرون طويلة قد وصلت اليوم إلى مرحلة خطيرة جداّ توشك أن تؤدي بها إلى هوّة الانقطاع وانعدام كل قدرة على العودة. لقد كان أعظم دروس الثورات وما أعقبه من مذابح ومجازر وانكسارات أن سبب السقوط كان سببا داخليا من البدن نفسه قبل كل شيء.
لقد تراكمت داخل البناء الحضاري للأمة شروط التنافر بين مكوناتها وهي الشروط التي منعت القدرة على التحرر الحقيقي من حقبة الاستعمار بعد أن قررت القوى العظمى إثر الحرب العالمية الثانية تحويل الاحتلال العسكري المباشر إلى نوع من الاحتلال الداخلي الذي تضمن نجاحه وتسهر عليه نخبٌ وقوى داخلية.
لم تنجح كل الخلايا الحية في منع انزلاق مسارات التغيير نحو الهوّة السحيقة وفي تجنيب الأمة كل المآسي والكوارث التي سقطت فيها في سوريا ولبنان وليبيا والسودان وتونس ومصر وغيرها من الأقطار العربية. بل حتى الأقطار التي تبدو متعافية نوعا ما مثل دول الخليج فإنها قد شاركت بقوّة في تدمير مسارات بقية البلدان عبر دعم الانقلابات وتفعيل حالة الفوضى وضمان انكسار التجارب الانتقالية.
دعك من نظريات المؤامرات السالبة التي لا تخدم غير سرديات الاستبداد في القول بأن الخارج كان سبب مصائب الأمة وأنه هو من أفشل مسارات الانتقال الثورية الأخيرة. هذا التبرير لا يخدم غير المستبدّ نفسه وهو يحتمي دون خجل تحت مظلة سيدّه الكفيل لأنه تفسير يُلغي قدرة الشعوب على صناعة تاريخها واتخاذ قراراها. متى توقّف الخارج عن الكيد لهذه الأمة شعوبا ومصيرا وثروات؟ متى؟ بل لقد كانت هذه وظيفته منذ فجر التاريخ لأن القويّ يأكل الضعيف ولأن صيرورة الدول لا تقوم إلا على هذا المنطق الذي هو في النهاية منطق كل كائن حيّ.
لا يمكن التقدّم اليوم دون الإقرار بأنّ كل أسباب الفشل والانكسار مكانها في الداخل فهي نابعة منه مقيمة فيه وهذا هو التشخيص الصحيح الذي يمكن أن يقود إلى تبيّن أدوات العلاج. فحتى التآمر الخارجي لا يمكن له النجاح دون توفّر القابلية لإنجاح التآمر وهو الشرط الذي يتحقق اليوم بسهولة في كل الدول العربية تقريبا.
التشخيص
آفة أساسية تنخر جسد الأمة وشعوبها وجماعاتها منذ قرون وهي آفة القابلية للتناحر والتقاتل والتحاسد والتباغض التي أتت على الأخضر واليابس وأفشلت كل مشاريع النهوض. وهي آفة لا علاقة بها بقانون التدافع الإنساني الذي هو مبدأ أزلي ضروري لبقاء الكائن الحي ولتطوّره.
لقد تراكمت داخل البناء الحضاري للأمة شروط التنافر بين مكوناتها وهي الشروط التي منعت القدرة على التحرر الحقيقي من حقبة الاستعمار بعد أن قررت القوى العظمى إثر الحرب العالمية الثانية تحويل الاحتلال العسكري المباشر إلى نوع من الاحتلال الداخلي الذي تضمن نجاحه وتسهر عليه نخبٌ وقوى داخلية. وهو النظام الذي لا يزال قائما حتى اليوم بشكل لا يكلّف المنظومات الاستعمارية أي ثمن بشري بل إنّ الاحتلال الداخلي قد أثبت نجاعة وفعالية وقدرة على التحكّم لم تخطر على بال الغزاة أنفسهم.
لا يشك أحد اليوم في أكذوبة الدولة الوطنية وفي وهم السيادة أو في مهزلة الاستقلال داخل أسوار سايكس بيكو ومحمياته العربية. الأمة اليوم محتلة بأبشع أنواع الاحتلال وقد تطوّر بها الحال إلى بلوغ آخر أطوار التحلل التاريخي بأن صارت خلايا الجسد الواحد يأكل بعضها بعضا في حركة لا تتوقف. تكاد حالة الصراع الدائم تتشكل على كل المستويات السياسية والاجتماعية والعقائدية والمذهبية والحزبية والطائفية والقبلية والجهوية... في نسق لا يكاد يتوقف.
هذه الحالة هي التي كانت سببا في فشل الاستقلال الحقيقي وهي التي تسببت في فشل الدولة الوطنية كما أنها كانت السبب الأساسي وراء فشل ثورات الربيع العربي التي تعتبر واحدة من آخر فرص التحرر والنهوض.
لا يمكن التقدّم اليوم دون الإقرار بأنّ كل أسباب الفشل والانكسار مكانها في الداخل فهي نابعة منه مقيمة فيه وهذا هو التشخيص الصحيح الذي يمكن أن يقود إلى تبيّن أدوات العلاج. فحتى التآمر الخارجي لا يمكن له النجاح دون توفّر القابلية لإنجاح التآمر وهو الشرط الذي يتحقق اليوم بسهولة في كل الدول العربية تقريبا.
لا تكاد الأحزاب والنخب والتيارات السياسية والفكرية العربية تتفق على حدّ أدنى من المشترك الوطني أو القومي بل صارت معولا من أخطر معاول التخريب والهدم. لا يملك السياسي والمفكّر العربي من مشروع غير مشروع نفي الآخر وتحقيق وجوده هو على أشلاء الطرف المقابل ولو كان الثمن مصير الوطن برمته. خذ مثلا تجربة الإسلاميين القصيرة في السلطة ـ ولنضعْ جانبا كل المآخذ التي سُجّلت عليهم ـ : أليسوا شركاء في هذا الوطن؟ لماذا صار مشروع النخب العربية المتنوّرة القضاء عليهم ولو كلّف ذلك خراب الوطن كما حدث في مصر ويحدث في تونس مثلا؟ أليس هناك من مربّع مشترك؟ أليس أولى بنا البحث عن المشترك بدل الخوض في الخلافات والتفاهات والأحقاد والضغائن؟ ماذا ربحنا من كل هذا؟ وماذا حققت شعوب الأمة من وراء ناقة البسوس؟
الثابت أن المركب سيغرق بالجميع وهو اليوم بصدد الغرق بعد أن ملأت الثقوب جوانبه ما لم يستفق الجميع على حقيقة أنّ السياق لن يسمح بهزائم جديدة وأنّ عجلة التاريخ لن ترحم أحدا. الثابت أيضا أنه لن ينجو أحد سواء كان في السلطة أو في المعارضة ما لم يتمّ الاعتراف بأن المواصلة على هذا الدرب انتحار جماعي وأنّ كل النظريات والأطروحات والأيديولوجيات والعقائد لا تساوي شيئا ما لم تفرض أولا وقبل كل شيء شرط القبول بالآخر شريكا أساسيا في مشروع الخروج من النفق قبل أن ينهار على الجميع فيُدفنون داخله.
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل وما أقرب الموت لولا صحة البدن.
لماذا يخفي التحالف المعارض مرشحه؟
المواطن المصري بين سرديتين.. المواطنة من جديد (98)