أتذكر اليوم رواية غابرييل غارسيا ماركيز التي عنوانها "وقائع موت معلن" والتي تعرض بنبرة لا تخلو من المرارة وقائعَ ترصّد بابلو وبيدرو فيكاريو لسنتياغو نصار ذي الأصول العربية وقتلهما له بسبب قضية شرف كيدية. فالرواية في جوهرها إدانة لتواطؤ أهالي القرية في هذه الجريمة بالصمت، لأنّه لا أحد منهم تدخّل لمنع الشقيقين من ارتكاب الجريمة أو لتحذير سانتياغو مما يتهدّده رغم إعلانهما عن نواياهما على رؤوس الملإ ولأن جميعهم استسلم للاعتقاد بأنّ الرجلين صالحان ولا يمكن أن يتورطا في جريمة كهذه.
أعيد اكتشاف هذه الرواية على وقائع اغتيال الإعلامية شيرين أبو عاقلة المعلن وتواطؤ جميع من في قريتنا الكونية بالصمت أمام عربدة "الدولة الصالحة" واستبعادهم أن ترتكب مثل هذه الجريمة. وأذهل لهذه المفارقة الغريبة. فقد عهدنا أن في التّخييل الروائي استعارات عن الواقع فإذا بالجرح الفلسطيني يجعل الواقع استعارة للخيال. وسبب الانقلاب بسيط. فكل ما في الأمر أنّ الواقع الفلسطيني أكثر غرابة من الخيال نفسه.
1 ـ إسرائيل وجريمة الشرف لمن لا شرف له
اغتيلت الإعلامية بقناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة أثناء تغطيتها لاقتحام قوات الاحتلال مدينة جنين بالضفة الغربية بإصابة مباشرة في الرأس بالرصاص الحي رغم أنها كانت ترتدي سترة الصحافة التي تفرض حمايتها. وردّت وزارة الصحة الفلسطينية في بيانها استشهادها إلى "إصابتها برصاص الجيش الإسرائيلي في مدينة جنين". واتهمت شبكة الجزيرة الإعلامية بدورها المحتل في بيان إدانة جاء في نصّه "في جريمة قتل مفجعة تخرق القوانين والأعراف الدولية أقدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي وبدم بارد على اغتيال مراسلتنا شيرين أبو عاقلة". والأمر نفسه أكده شهود ومرافقون للإعلامية. فأوضحوا أن جيش الاحتلال أطلق الرصاص الحي تجاه المتظاهرين والطواقم الصحفية.
وليتنصّل الجيش الإسرائيلي من جريمته رجّح أن تعود إصابتها "إلى هجوم مسلحين فلسطينيين". ولكن على خلاف ما يقع بعد العمليات الفدائية، لم يكلف الجيش نفسه عناء البحث عن هؤلاء الفدائيين ولم يطلق جنوده في كل مكان ولم يخرج رئيس وزرائه ليعلن أن لا حدود أو قوانين تمنع الجيش الإسرائيلي من ملاحقة الجناة. واكتفى متحدّث باسم الجيش بالتعبير عن الأسف والوعد بإجراء تحقيق في الأمر. ويمثل هذا الاغتيال حلقة جديدة من سلسلة مديدة من جرائم إسرائيل التي ترتكبها في حقّ الصحافيين حتى تطمر جرائمها الأشد بحق الشعب الفلسطيني.
2 ـ اغتيال شيرين أبو عاقلة حلقة من سلسلة جرائم إسرائيل الطويلة
تنضاف شيرين أبو عاقلة إلى سلسلة تضمّ حلقاتها كلا من أحمد أبو حسين وياسر مرتجى ومعاذ عمارنة ونضال اشتية. فجميع هؤلاء قد أصيبوا أثناء عملهم رغم أنهم كانوا يرتدون السترة التي تشير إلى طبيعة عملهم. وقبل مقتلها بأيام، كانت المؤشرات قوية على أنّ إسرائيل تعدّ لعمل كبير يُرهب الصحافيين ويُخرس أصواتهم. فقد ذكرت الفقيدة، حسب تقارير قناة الجزيرة أن الاحتلال دائما ما يتهمها بتصوير مناطق أمنية، وأنها تشعر دائما بكونها مستهدفة وبكونها في مواجهة كل من جيش الاحتلال والمستوطنين المسلحين.
وقبل الحادثة ايضا رفع الاتحاد الدولي للصحفيين ونقابة الصحفيين الفلسطينيين والمركز الدولي للعدالة من أجل الفلسطينيين قضايا قانونية أمام المحكمة الجنائية الدولية اتهموا فيها إسرائيل بارتكاب جرائم حرب واستهدافها للصحفيين الذين يعملون في فلسطين. وبالفعل فقد أعلن مكتب مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية رسميا عن استلامه الشكوى يوم 25 نيسان (أبريل) 2022.
وتشير إحصائيات الاتحاد الدولي للصحفيين إلى مقتل ما لا يقل عن 46 صحفيا منذ عام 2000 دون أن تتمّ محاسبة الجناة وإلى أنّ العام الماضي فحسب قصف الاحتلال 33 مقرا صحفيا في قطاع غزة خلال العدوان، ودمّرها تدميرا كليا وسُجل ما يزيد عن 368 انتهاكا، من بينها 155 انتهاكا توزعت بين إصابات وقتل. فاستشهد ثلاثة صحفيين خلال العدوان على القطاع هم محمد شاهين وعبد الحميد الكولك ويوسف محمد أبو حسين. ومنذ بداية هذه السنة وثّق المركز 100 انتهاك ضد الصحفيين، تم أغلبها خلال شهر أفريل الماضي ووُجهت ضدهم في القدس المحتلة وفي مخيم جنين. ولكنّ هذا العمل يواجه من قبل المجتمع الدولي بتراخ. وتغفر جميع زلات الدولة الصالحة في كلّ مرة لتبدأ زلات جديدة.
3 ـ جرائم إسرائيل الوجه الآخر من الحرب القذرة
ما الذي يشجع إسرائيل على التمادي في ارتكاب جرائمها فتغتصب الأرض وتهتك العرض ثم تفلت من العقاب؟ ما الذي يحولها إلى دولة مارقة ترمي بأحكام اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 الخاصة بتنظيم قواعد حماية المدنيين في وجه المجتمع الدولي لولا تواطؤ أطراف نافذة مكنتها من امتياز أن تكون فوق القانون الدولي وفوق القيم والأخلاق؟
ماذا فعل هذا المجتمع باستثناء بعض المواقف العربية أو الإسلامية التي تمثل غالبا ضريبة لغوية تُدفع لحفظ ماء الوجه أمام الشعوب وبعض المواقف الخجولة كسحب السفراء أحيانا أو المطالبة بإجراء تحقيقات تمتنع إسرائيل عن التفاعل الإيجابي معها فتقبر بعض المواقف الفردية التي تقوى على كبح شهوة إسرائيل إلى الدّم؟
لقد ثبت أن المجتمع الدولي لا يتعاطى مع جرائمها بالجدية المطلوبة. وتأتي الولايات المتحدة على رأس حماتها. فقد حوّلت حق النقض "الفيتو" الذي أرادت له الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية والمهيمنة اقتصاديًا ونوويًا أن يحمي مصالحها ويؤبد هيمنتها، إلى آلية لفرض غطرسة إسرائيل أساسا. والإحصاء البسيط يثبت أنها استعملت هذا الحق لـ83 مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، منها 44 مرة لحماية هذا الكيان الغاصب ودعم انتهاكه للقانون الدّولي. وكان آخرها في 1 حزيران (يونيو) 2018 لمّا استخدمته لعرقلة إصدار قرار من مجلس الأمن يدين الانتهاكات الإسرائيلية بحق المتظاهرين السلمين الفلسطينيين في مسيرات العودة وذكرى النكبة، وقتلها لما لا يقل عن 29 وإصابتها لما لا يقل عن 2500 منهم. وهو ما نسبته 53 في المائة.
وتأتي عامة الدول الأوروبية في المرتبة الثانية من حيث المسؤولية. فقد اختارت أن تكون تابعة تقليديا للقرار الأمريكي وظلت تبرر باستمرار عقوباتها الجماعية في حق الفلسطينيين وتدمير مبانيهم فوق رؤوسهم واعتماد أفظع الوسائل لتعذيب أسراهم وممارسة الإهانات الدينية والتمييز العنصري ضدّهم، بكونها تحمي أمنها وتدافع عن حقها في الوجود. وتناظر بين فتية يحتجون ويرشقون مغتصبهم بالحجارة ومغتصب يعتمد أعتى الأسلحة بما فيها القنابل الفسفورية المحرمة دوليا.
كلّ الدلائل تبرهن على أنّ حرب إسرائيل على الفلسطينيين هي فصل من حرب أوروبا وأمريكا "القذرة". ولاستعارتنا لمصطلح "الحرب القذرة" الذي يعيّن الفترة التي عانى فيها المعارضون الأرجنتينيون من إرهاب الدولة المدعوم من قبل الولايات المتحدة من عام 1976 إلى 1983 أكثر من مبرر. فمسؤولية أوروبا المادية في محنة الفلسطينيين ثابتة. فقد رمت بالاحتلال الصهيوني إلى العرب والمسلمين ليدمر خلاياهم الحضارية ويعطّل نموهم الاقتصادي ويكرّس تبعيتهم. وهي اليوم إذ تقف إلى صفّ الجاني تضيف إلى مسؤوليتها المادية مسؤولية معنوية.
4 ـ متى ترفع النعامة رأسها من التراب؟
يعاني الضمير الأوروبي والغربي عامّة من البون الشاسع بين واقعه وخطابه الفكري المنافق. فهو يدرك أنّ رفاهه لم يتحقّق بالسلم الدّاخلي والتطوّر التكنولوجي وحدهما. ففي النهاية يمثل العنصران عاملين مهمين لمراكمة البضائع. وهنا تُخلق الحاجة إلى الأسواق الخارجية. ولا بدّ لآلة الحرب أن تتحرك وتحرّك معها آلة الاقتصاد تحت عناوين ساحرة مثل تمكين القوى المستضعفة من وسائل الدفاع عن النّفس أو إعادة الإعمار.. ولا يبقى لهذا الضمير إلاّ أن يسيّج تحرّكها بخطاب أخلاقي وتأمل فلسفي ويبتكر المصطلحات التي تمنحها المشروعية.
فقد استقدم مفهوم الحرب العادلة من القرون الوسطى وزج به في ما يسميه الأخلاقيات العسكرية ومفاده أنّ الحرب تكون عادلة حين تتوفّر جملة من المعايير ويُرتّبها زمنيا. فقبل إعلانها لا بدّ أن تكون مبرّرة وفق معيار "الحق في شن الحرب" ولا بدّ من مراقبة سيرورتها عند اندلاعها ضمن معيار "السلوك السليم في الحرب" ثم يأتي معيار "ما بعد الحرب" ليحدد أخلاقيات التسوية وإعادة الإعمار. وابتكر مصطلح الحرب الذّكية. فاستثمر منجزه في الذكاء الاصطناعي وتصميم البرمجيّات لصناعة أسلحة "ذكية" توجّه باللاسلكي أو الليزر أو الأقمار الصناعية لتصيب الهدف بدقّة ولتغير مسارها وفق تحوّل موضعه بحثا عن النجاعة القصوى وتجنب "إلحاق الأذى بالمدنيين الأبرياء". ثم دفع بمصطلح حرب القطاعات الثلاثة (Three block war).
تأتي عامة الدول الأوروبية في المرتبة الثانية من حيث المسؤولية. فقد اختارت أن تكون تابعة تقليديا للقرار الأمريكي وظلت تبرر باستمرار عقوباتها الجماعية في حق الفلسطينيين وتدمير مبانيهم فوق رؤوسهم واعتماد أفظع الوسائل لتعذيب أسراهم وممارسة الإهانات الدينية والتمييز العنصري ضدّهم، بكونها تحمي أمنها وتدافع عن حقها في الوجود.
ويعود المصطلح إلى الجنرال تشارلز كرولاك الذي قاد القوات البحرية الأمريكية بين 1995 و1999. ويفيد وضعية تمارس خلالها قوات عسكرية مّا ثلاثة أدوار متوازية في الإقليم نفسه. فتقوم عناصر منها بالعمليات القتالية وتواجه العدو وتخصص جانبا من قواتها لحفظ السلام والسهر على تجسيده وتمنح لعناصر ثالثة منها أدوارا إنسانية لإغاثة الأهالي واللاجئين.
ينزّل هذا الضمير "أخلقة الحرب" ضمن هدف أعمّ هو المحافظة على إنسانيتنا. ففي أقسى المحن التي نواجهها وحين يسيطر علينا الانفعال والدوافع المتوحشة أي في الحروب الأكثر شراسة وحين نكون بعيدين عن المراقبة القانونية تفرض علينا إنسانيتنا أن نراقب أنفسنا ذاتيا. فلا نقتل الأسرى أو نعذبهم ونحمي الأطفال ونصون أعراض النساء ونحسن إلى الشيوخ ونتجنّب ارتكاب مجازر الإبادة الجماعية. ولكنّ هذه القيم الأصيلة تظل أسيرة مصنفات الأخلاقيات العسكرية. فلا تُجسّد على الأرض ولا تدفع هذا الضمير إلى الاحتجاج أو المحاسبة عند كلّ تجاوز، بل يكتفي بغرس رأسه في التراب. وحروب إسرائيل وأمريكا في المنطقة العربية تغنينا عن الأمثلة.
لم يكن هذا الضمير أبدا يحافظ على إنسانيتنا وإنما كان يجسّد عذابه وهو يدرك أنه يظل عقلا استعماريا. فلا يرى في بقية العالم غير مجال حيوي لا يتجاوز دوره توفيرَ المواد الأولية لصناعاته ومدّه باليد العاملة الرخيصة. ثم يتحوّل بعدئذ على سوق لترويج هذه المواد المصنّعة بما بقي له من ثروات لم تستنزفها الصناعات الغربية.
5 ـ مقتل شيرين أبو عاقلة وبعد..
لا شك أنّ اغتيال الإعلامية شيرين أبو عاقلة لحظة مؤثرة تهز الوجدان. ومع ذلك فلا بدّ لها أن تحفّز العقول وأن توجّهها رأسا إلى الدول الغربية التي تريد أن تحتكر الضمير الإنساني وتتبنى الدفاع عن الحريات والديمقراطيات الشكلية، من منطلق منظورها وبما يخدم مصالحها. فتفضح تواطؤها حينما يتعلق الأمر بالدم الفلسطيني والعربي وتكشف ممارستها للتمييز قيمها بين الشّعوب على أساس عرقي وديني. فمناهضة الاحتلال الإسرائيلي والتصدّي إلى جرائمه مسألة قومية تهم العرب ومسألة دينية تهمّ المسلمين.
ولكنّ النجاح في ردّ الحقوق إلى أصحابها رهين قدرتنا على إخراج القضية الفلسطينية من محليتها وإقناع الآخر الذي يتبنى أخلقة الحروب وأنسنتها بأنّ هذا الاحتلال جرح في الضمير الإنساني يؤشر على كون الإنسانية جمعاء لا تزال تعيش بربريتها الأولى بسببه وبمنطق غابريل غارسيا ماركيز لا بدّ من إقناع الأهالي بأن سنتياغو نصار العربي بريء من تهمة افتضاض بكارة أنخيلا فيكاريو وأنه لم يُقتل إلاّ لتواطؤهم مع قضية شرف زائفة، وأنهم بذلك تحولوا إلى شركاء في جريمة قتله.