يَكثر في تراث الصوفية وأدبياتهم استخدام مفردات "الجذب، مجذوب، ومجاذيب"، وهي تعني عندهم من سُلب عقله في أثناء سيره إلى الله تعالى، وسلوكه طريق العبادة والزهد في الدنيا، واستغراقه في ذكر الله وعشقه، بسبب ما يرد عليه من أنوار المكاشفات والتجليات التي لا يحتملها عقله، ما ينتج عنه إخراج العابد عن حالته الطبيعية المعتادة إلى ما يسمونه"حالة الجذب" التي يكون صاحبها مجذوبا.
تروى قصص وحكايات كثيرة عن "مجاذيب الصوفية"، وما جرى لهم من أحوال غريبة ومكاشفات عجيبة، وما يخبرون به من أخبار، وما يقع لهم من أفعال، هي من قبيل خوارق العادات، ما يجعل الناس ينظرون إليهم باعتبارهم من أولياء الله، الذين فتح الله لهم أبوابا إلى العوالم الأخرى، وخصهم بنوع من الإلهام القلبي يردهم منه ما غاب علمه عن باقي الناس.
لكن، بحسب باحثين في العلوم الشرعية والتصوف، فإن حقيقة تلك الحالة لا تعدو أن تكون حالة استثنائية طارئة، يغلب عليها صاحبها، وهو معذور فيما يصدر عنه من أقوال وأفعال شاذة وغريبة، بسبب ضعفه عن احتمال ما ورد عليه من ثمرات المجاهدة والمواظبة على الذكر والعبادة، حتى إن علماء التصوف، وشيوخ الطريقة لا يعدونها درجة من درجات الولاية، بل يعتبرون المجذوب الذي ذهب عقله خارج عن حد التكليف، وهو ممن رُفع عنهم القلم.
ونظرا لانتشار حكايات وقصص "مجاذيب الصوفية" التي تحكي بعضها سقوط التكليف عن بعضهم، وتركهم للعبادات الشرعية، فإن علماء التصوف يقررون أنه "لا يوجد واحد في الصوفية عبر التاريخ يشير ولو من بعيد إلى جواز رفع التكليف عن الولي مهما علا شأنه في مقام الولاية، بل على العكس تماما هم أكثر خلق الله تعالى بعد الأنبياء تكليفا وابتلاء وتحملا للمشاق، وحملا لعباد الله تعالى"، وفق الباحث في العلوم الشرعية والتصوف، الدكتور أشرف سعد الأزهري.
أما المجذوب بالكلية، يتابع الأزهري: "فهو الذي ذهب عقله لتوارد الأنوار القوية عليه، وهو بذهاب عقله خارج عن حد التكليف بحكم الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم لا بحكم الصوفية، فإذا كان هناك بعض مسلوبي العقل من المجاذيب الذين بقيت قلوبهم وأرواحهم هائمة متعلقة بالله تعالى وألسنتهم تلهج بذكر الله ليل نهار، وقد تظهر منهم بعض الخوارق مع ذهاب عقولهم، التي هي مناط التكليف في شرع الله".
ويضيف في منشور عبر صفحته على الفيسبوك، اطلعت "عربي21" عليه: "وهذه الحالة ليست حالة كمال ولا متابعة، ولا ولاية أصلا، وإنما هي ظاهرة كونية موجودة وثابتة، وإذا كان المجذوب مسلوب العقل، فلا تتعجب من أنه لا يقيم شعائر الله، أو لا تتعجب من أنه يدعي أية دعوى، ولا تنكر عليه فهو ليس محلا للإنكار أصلا، وهذه الحالة التي يكون عليها من الذكر والاستغراق في الله تعالى، ليست من حضور العقل في هذا الوقت، وإنما هي من أثر تعلق القلب والروح بالله تعالى من قبل حال سلب العقل أي في حالة الحضور".
ويشرح الأزهري طبيعة حال من يُسلب عقله حينما يتعلق قلبه بما يحبه قائلا: "وهكذا ترى كل مسلوب عقل متعلق بما كان عليه وقت تعلقه، فمن كان متعلقا بالخمر أو بالنساء أو بالغناء، وسلب عقله على تلك الحال ظل قلبه متعلقا بها، ولسانه لاهجا بذكرها، وهذا معروف في عالم العشق بالذات، وما حال مجنون بني عامر الذي عشق ليلى العامرية وهام بها، وجن وجذب بها حتى غاب عن الوجود كله إلا عنها، وعن قول الشعر فيها فسمي بمجنون ليلى منا ببعيد.. ومن كان قلبه متعلقا بالله وحده ظل لسانه وقلبه مرددا ذكر الله مع سلب العقل".
وتساءل: "فكيف ننكر على من حاله هكذا إن قال أنا أصلي في الكعبة أو في الروضة الشريفة، أو ادعى أية دعوى أو قال أي كلام، فمن منا العاقل ومن منا المجنون إذن؟ ولعلك بهذا الفرق تفهم لماذا سمي هذا النوع من مسلوبي العقل مجاذيب لا مجانين، لأن سبب سلب العقل أنهم انجذبوا بأرواحهم وقلوبهم إلى أنوار الحضرة الإلهية، فكانوا على حالة لم تسمح لهم بتحمل تلك الأنوار فذهبت عقولهم، وظلت أرواحهم هائمة في الله تعالى، وقلوبهم متعلقة بذكره، وألسنتهم تلهج بذلك، وهذا ليس حال كمال ولا مقام ولاية عند الصوفية".
من جهته قال الداعية والباحث السعودي، باسم العطاس: "المجذوب في تراث السادة الصوفية هو شخص ممتثل لأوامر الله تعالى، تعرض لحال عالية من الوجد فأظهر له الله سبحانه وتعالى من أنواره وأسراره ما لم يطلعه لغيره من البشر، وذلك لكثرة استغراقه في الذكر وجلوسه في الخلوات، وليس هذا الأمر بمستغرب أو مستنكر".
باسم العطاس.. باحث شرعي سعودي
وأضاف في حديثه لـ"عربي21": "ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره من دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إشارة لذلك حين قال: "اللهم إني أسألك بكل اسم لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك..."، فالمجذوب قد يتعرض لشيء من الصدمة العقلية تزيد أو تقل من شخص لآخر من هول ما يرى من عوالم مختلفة عما اعتاد رؤيته".
وتابع: "ولهذا، قد تقع من بعض المجاذيب تصرفات تكون على خلاف المألوف عند البشر، وقد يكون هذا هو السبب في هذه التسمية، فيكون حال المجذوب على غير الطبيعة البشرية، فقد تمر عليه الأيام بلا طعام أو شراب، أو أنه يلبس ملابس الشتاء في الصيف، أو العكس، وليس بالشرط أن تدل حالة المجذوب على الولاية، حتى وإن أجرى الله تعالى على يديه شيئا من خوارق العادة".
ولفت العطاس إلى أن "ظهور خوارق العادات إذا اقترن بالالتزام بأوامر الله تعالى، فإن حسن الظن يقضي لصاحبها بالولاية، أما رفع القلم عن المجذوب، فهذا يعود إلى ما سبق ذكره كونه تعرض لنوع من الصدمة العقلية، وهنا ينظر في حاله، فإن كان لا يزال على عقله فلا شك أنه لا يرفع عنه القلم، بل هو إلى الطاعة أقرب".
وأردف: "وفي التراث الصوفي، فإن معرفة الأولياء مبعثها حسن الظن في الناس عموما، فكيف بأصحاب الذكر والخلوات التي يكون فيها عبادة من أعظم العبادات، وهي التفكر التي ما فتىء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعكف عليها، حتى جاءه سيدنا جبريل بالوحي في غار حراء وهو في خلوته".
بدوره أكد أحد شيوخ الطرق الصوفية في الأردن، إسماعيل الكردي، الذي ورث الطريقة عن والده الشيخ "محمد سعيد الكردي، أن الجذب عند الصوفية "حالة استثنائية ونادرة الوقوع، ومن المعلوم أن النادر لا يقاس عليه، وهي عندهم حالة من لم يتحمل ما يرد عليه من أنوار المكاشفة والمجاهدة، لكنها ربما وقعت للحظات نتيجة التأثر بما يقع للعابد الذاكر حال استغراقه في الذكر، سواء أكان منفردا في خلوته، أو في جلسات الذكر الجماعية، لكن سرعان ما يعود إلى حالته الطبيعية".
إسماعيل الكردي.. شيخ طريقة صوفية أردني
وأضاف: "قد يقع الجذب لبعض الناس هكذا من غير أن يكون صاحبها ملتزما بطريقة معينة، بالسلوك على أيدي مشايخ مرشدين، وأخذ الأوراد عنهم، وقد يولد أحدهم مجذوبا، وتقع له أحوال غريبة، يخبر بها عن أمور لا يعلمها كثير من الناس، وهي أقرب ما تكون إلى خوارق العادات، لكن ذلك كله لا يعتد به، ولا يبنى عليه دين ولا عقائد، ولا أحكام، وصاحبها معذور فيما يقع له من ذلك".
وردا على سؤال "عربي21" إن كان قد وقع لأبناء الطريقة الشاذلية التي ينتسب إليها، وأخذها عن والده، حالات من الجذب لبعض المريدين المنتسبين للطريقة، قال الكردي: "خلال ملازمتي للوالد ـ رحمه الله ـ فيما مضى، وقيامي في الطريقة من بعده، لم يحدث أن رأيت حالة جذب، سقط فيها التكاليف عن أحد أبناء طريقتنا، بسبب سلب عقله، واختلال حاله، فطريقتنا والحمد لله مقيدة بالكتاب والسنة، ولا تسقط التكاليف عن أحد، إلا من أسقط الشرع عنهم ذلك ممن رفع عنهم القلم".
وشدد الكردي في ختام حديثه على ضرورة التحذير من أدعياء التصوف، الذين يخرجون عن تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية، ولا يتقيدون بالأحكام الشرعية، خاصة فيما يزعمه بعضهم عن سقوط التكاليف عمن وصل إلى مقام الولاية، إذ إن الولي الحقيقي هو من يلزم طاعة مولاه، ويعظم شرعه وأحكامه، ويواظب على ذلك حتى يأتيه الموت وهو مقيم على ذلك".
هل النهي عن الافتراق يمنع تعدد الاجتهادات واختلاف الآراء؟
مسلسل مصري يهاجم المرجعية الفقهية ويسيء للعلماء.. ردود