في ظل تصاعد الأزمات المالية والغذائية العالمية شهدت المنطقة دعوات مفتوحة للحوار، سواء تلك الصادرة عن رئيس الانقلاب في مصر أو قائد الانقلاب في تونس وهي دعوات تتزامن مع ما يلوح في الأفق من احتمال قوي لانفجارات اجتماعية كبرى.
قد لا نختلف مع كثيرين ممن خبروا طبائع المستبدّ العربي في أنّ كل حوار أو تواصل أو تقاطع مع نظام قامع للحريات سالب للمشاركة السياسية جامع لكل السلطات في يده لا يعدو أن يكون ضربا من السراب.
لكن السؤال الذي يبقى معلقا إنما يرتبط بتوقيت هذه الدعوات للحوار أولا وأسبابها الموضوعية ثانيا فلمَ يحتاج الاستبداد إلى الحوار وهو الذي يمسك بكل مقاليد الحكم؟ قد لا ننفذ تحليليا إلى العناصر العميقة الكامنة وراء هذه الظاهرة لكنّ قراءتها كفيلة بأن تكشف الخطوط الكبرى التي يمكن لها أن تفسّر هذا التناقض بين الحكم الفردي المطلق من جهة والدعوة إلى الحوار الوطني من جهة ثانية.
أطوار الاستبداد
إن بناء أية منظومة استبدادية يستوجب أوّل ما يستوجب الانقلاب على المسار الطبيعي للحكم في بلد ما. قد يكون ذلك عن طريق الانقلابات العسكرية أو الثورات الملوّنة أو الاستيلاء على السلطة بالطرق الناعمة أو اختراق الدولة أو ما يسمي بثورات البلاط في الأنظمة الوراثية والملكية. النظام الاستبدادي هو أولا السطو على مسار السلطة والاستحواذ عليها بالقوّة أو بالحيلة تحت ذرائع الإنقاذ وتصحيح المسار ومشاريع التغيير.. التي تلعب دور القناع التمويهي للتغطية على الاستيلاء على السلطة.
ثانيا يحتاج المستبد الجديد إلى طور أول من أطوار القمع لكي يبسط سلطانه ويفرض الأمر الواقع أمام الخلايا والقوى التي تحاور الصمود أمام المشروع الانقلابي وهي نماذج كثيرة في التاريخ لا يخلو منها منوال انقلابي واحد. حيث يقوم المنقلب الجديد بتصفية خصومه السياسيين متهما إياهم بالخيانة والتآمر والعمالة للخارج ومنع التغيير ومحاولات تفجير الدولة من الداخل ... إلى غيرها من سرديات التخوين والاتهام.
لا يكون الحوار في زمن الاستبداد ولا يصير ممكنا إلا بعد انتخابات نزيهة وشفافة يحدد فيها الشعب أطراف الحوار ومكانه وزمانه. ثم إنّ حالة الفرقة والتشنج التي تميّز الحالة العربية من المحيط إلى الخليج بعد تراكمات عقود من الحكم الفردي الذي طبع سلوك السلطة وانسحب على سلوك المعارضة والنخب تجعل من ثقافة الحوار ومن إمكانيته أمرا مستبعدا.
أما الطور الثالث فيعقب موجة القمع العالية وذلك بأن تنخفض درجة القمع الوحشي قليلا لتعلن استتباب الحال للمنقلب وسيطرته على مفاصل الحكم سيطرة تامة بالقوة المادية والقصف الإعلامي. حينها يأتي الطور الجديد الذي يعمل على التطبيع مع الانقلاب عبر أنْسَنَتِه وإلباسه لبوس المسار السياسي الطبيعي وهنا تتنزل مرحلة "الحوار الوطني" أو "الميثاق الوطني" أو "المصالحة الوطنية" أو "الوئام الوطني" أو غيرها من التسميات المضللة.
تعدّ هذه المرحلة من أخطر أطوار المسارات الاستبدادية لأنها المرحلة التي ستفرض مقبولية النظام الجديد وتجعله أمرا واقعا وحالة طبيعية لذا فهي تستلزم تغييرا في نمط الحكم وخاصة ما تعلق منه بالتعامل مع المعارضة السياسية الفعلية وكذلك المزيفة. بناء عليه تتراجع أدوات القمع المادية قليلا لتفسح المجال أمام أدوات القمع الناعمة المتمثلة في الأدوات السياسية والثقافية المدنية والحقوقية القانونية والإعلامية الدعائية.
تتضمّن هذه المرحلة التعديلات الدستورية وتحوير الهيئات القضائية ومراجعة التعيينات في مراكز الحكم المحلي ووسائل الإعلام والمحافظات وأسلاك الأمن والجامعات ودور الثقافة وغيرها من مفاصل الدولة. لكنها تتلوّن بلون التوافق والحوار بشكل يضمن لها الحصول على شرعية صورية موجّهة أساسا نحو الخارج ونحو الرأي العام الدولي.
حوار من لا يملك مع من لا يستحق
كيف يكون الحوار ممكنا مع كيان انقلابي؟ الكيانات المغتصِبة للسلطة تتأسس بدءا على نفي الآخر المخالِف وهو الشرط الذي لا يكون الانقلاب والسطو على السلطة ممكنا دونه. جوهر الاستبداد تفرّدٌ بالرأي الواحد واستبداد به لذا فهو يتأسس أولا وأخيرا على الإقصاء والمصادرة والإلغاء والنفي ومنع كل أشكال التواصل والحوار والمشاركة وتقاسم الرأي.
هذا الكيان يحقق هدفين: أما الأوّل فهدا داخلي يشبع رغبة المستبد والعصابات المحلية المرتبطة به في السيطرة والإخضاع ونهب موارد البلاد وتكوين ثروات طائلة في الداخل والخارج. أما الهدف الثاني فهو تحقيق مطمح القوى الاستعمارية الدولية من دعم الاستبداد إذ تتمكن بذلك من منع قيام أية حكومة سيادية حقيقية قد تقف في وجه أطماعها بالسيطرة على الثروات وتأبيد التبعية لها. إن نظام حكم الفرد الواحد هو النظام المثالي الذي تسعى القوى الدولية إلى التعامل معه بما هو وكيل محلي قادر على إخضاع القوى الداخلية الحية وتوفير مداخل استعمارية للسيطرة والنهب.
في الحالة المصرية مثلا يحتمل طرح الحوار اليوم من قبل المعسكر الانقلابي قراءات كثيرة لا تخرج كلها عما ذكرناه في الفقرات السابقة من محاولات أنسنة الانقلاب والتطبيع مع الاستبداد وهي نفس الخصائص التي تسم الحوار المطروح في تونس مع اختلاف خصوصيات السياق.
تواجه مصر اليوم أخطر أزماتها الاقتصادية والاجتماعية وهي الأزمة التي تؤكدها كل المؤشرات المالية والغذائية والاجتماعية بشكل يرى فيه كثير من المراقبين مقدمة لهزة شعبية عنيفة. كما لا يخفى على المتابعين للشأن المصري حالة الصراع الصامتة بين أجنحة السلطة داخل مصر بين القوى الجديدة التي انقلبت على ثورة يناير وبين الحرس القديم من نظام مبارك والطبقة الاقتصادية والعسكرية والأمنية المرتبطة به.
هذان الخطران اللذان قد يشكلان تهديدا مباشر على المديَيْن المتوسط والقريب يستوجبان التعجيل بالدخول في الطور الثاني من المسار الانقلابي والذي يستلزم بدوره تخفيف الوطأة القمعية من جهة واستدراج المعارضة (الحقيقية أو المزيفة) من جهة ثانية. الحوار في زمن الانقلاب هو مطلب من داخل الاستبداد نفسه يطلب به شرعنة الانقلاب والتطبيع مع الاستبداد.
في الحالة التونسية لا يختلف الأمر كثيرا عن المشهد المصري حيث تواجه الدولة شبح الإفلاس التام في سياق تتسع فيه الجبهة المعارضة للانقلاب وتتوحد قوى المعارضة بعد أن استبعد المنقلب كل الأحزاب السياسية من طاولة الحوار. فحتى الأحزاب والكتل التي كانت داعمة للانقلاب مثل حزب حركة الشعب القومي وحزب التيار الديمقراطي والاتحاد العام التونسي للشغل أعربت عن موقف رافض للاستفراد بالسلطة بعد أن خرجت من المشهد خاوية الوفاض.
لكنّ الحالة التونسية تختص بكون الحوار جاء بناء على ضغوط داخلية وخارجية بشكل خاص حيث طالبت الولايات المتحدة والمجتمع الدولي الرئيس الحالي بتشريك كل الفاعلين السياسيين في مسار جديد يخرج البلاد من أزمتها الحالية. وهو الأمر الذي يجعل منه مشروعا صوريا لا قيمة قانونية له لأنه واقع خارج النظام الدستوري ولأنه لا يعبر عن إرادة الشعب بعد إقصاء ممثليه من نواب وأحزاب سياسية وجمعيات وطنية بل هو وسيلة المنقلب لتثبيت الانقلاب والإيهام بالمشاركة الوطنية.
ثم إنّ المتأمل في طبيعة المكونات والشخصيات السياسية التي اصطفاها المنقلب للحوار يجدها جميعا من الداعمين لمشروعه ومن المعادين للثورة وللمسار الانتقالي برمته وهو ما يؤكد أن هذا الحوار ليس إلا بحثا عن مخرج من الأزمة التي يتخبط فيها المشروع الانقلابي.
إن كل مشروع سياسي أو مدني يُقدَّم في زمن حكم غير شرعي هو مشروع مفخخ لا يخدم إلا مصلحة صاحبه والقوى التي تقف وراءه ولا يخدم بأية حال الشعب أو القوى السياسية التي يُطرَح عليها. بناء عليه فإن مشاريع الحوار والمصالحة والوئام ولمّ الشمل وتوحيد الصف ونبذ الفرقة ومحاربة الفتنة.. وغيرها من التسميات الخادعة ليست إلا مشاريع لمزيد إحكام قبضة الاستبداد على الدولة والمجتمع بشعارات براقة.
كيف يكون الحوار ممكنا مع كيان انقلابي؟ الكيانات المغتصِبة للسلطة تتأسس بدءا على نفي الآخر المخالِف وهو الشرط الذي لا يكون الانقلاب والسطو على السلطة ممكنا دونه. جوهر الاستبداد تفرّدٌ بالرأي الواحد واستبداد به لذا فهو يتأسس أولا وأخيرا على الإقصاء والمصادرة والإلغاء والنفي ومنع كل أشكال التواصل والحوار والمشاركة وتقاسم الرأي.
لا يكون الحوار في زمن الاستبداد ولا يصير ممكنا إلا بعد انتخابات نزيهة وشفافة يحدد فيها الشعب أطراف الحوار ومكانه وزمانه. ثم إنّ حالة الفرقة والتشنج التي تميّز الحالة العربية من المحيط إلى الخليج بعد تراكمات عقود من الحكم الفردي الذي طبع سلوك السلطة وانسحب على سلوك المعارضة والنخب تجعل من ثقافة الحوار ومن إمكانيته أمرا مستبعدا.
الحوار والمصالحة الوطنية مشروع نبيل يستلزم ثقافة ووعيا وإقرارا بقبول الآخر المختلف بل هو يستلزم توفّر ثقافة التنازل والتضحية والتجاوز وهي عملة نادرة في سياق ثقافتنا العربية اليوم. الثقافة جماعية وفردية العربية يغلب عليها طابع التطرف والغلوّ والإمعان في إقصاء الرأي المخالف وقمع حامله من جهة وفرض ثقافة الزعيم الملهم من جهة ثانية. وهو الأمر الذي يعيدنا إلى نقطة البدء وعيا بضرورة التسريع في مراجعة أسس التربية والتعليم من أجل السعي إلى ترميم بناء الإنسان العربي حتى نمنع عن الأجيال المقبلة خطر السقوط في ما وقعت فيه أجيال اليوم نخبا وأفردا من فرقة وتناحر.
لن يكون أي حوار بناء مثمرا إلا متى توفر فيه شرط وعي المتحاورين بأن المشترَك أرضا ومجتمعا وفكرا وعقيدة ومصيرا أهم من المختلف مهما تباينت الرؤى واختلفت وجهات النظر.