نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقريرا لديكلان وولش تحدث فيه عن نشاطات يفغيني بريغوجين، حليف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في السودان الذي ينقب فيه عن الذهب.
وأشار التقرير إلى كيفية استغلال الكرملين تواجد مجموعة فاغنر في السودان تحت غطاء شركة روسية للتنقيب عن الذهب، من أجل تهريب المعدن النفيس إلى روسيا.
وبحسب الصحيفة، فإن فاغنر تنهب الذهب من السودان بدعم من بوتين، بينما تساعد المجموعة العسكر على سحق حركة الديمقراطية.
في ما يأتي ترجمة "عربي21" للمقال كاملا:
في منطقة محروقة غنية بالذهب على بعد مائتي ميل شمال العاصمة السودانية، حيث تنبع الثروة من الصخر الصحراوي المنحوت، يهيمن على العمل هناك مشغل أجنبي غامض.
ما يطلق عليه الناس المحليون اسم "الشركة الروسية" هو عبارة عن مصنع يخضع لحراسة مشددة، ترتفع من داخله أبراج براقة، ويقع في قلب الصحراء. يتم داخل هذا المصنع تحويل أكوام من الركاز المغبر إلى سبائك من الذهب شبه المكرر.
يقول عمار الأمير، وهو عامل منجم وأحد قيادات المجتمع المحلي في العبيدية، وهي بلدة قاحلة تعيش على التعدين وتقع على بعد عشرة أميال من المصنع: "يدفع الروس أفضل الأجور. وإلا فإننا لا نعرف الكثير عنهم."
في الواقع، يظهر من سجلات الشركة والحكومة السودانية أن منجم الذهب ما هو سوى أحد المراكز الأمامية لمجموعة واغنر، تلك الشبكة الغامضة من المرتزقة الروس وشركات التعدين وعمليات النفوذ السياسي – والتي يتحكم بها ويديرها حليف مقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين – الآخذة بالتوسع بشكل قوي في مختلف أرجاء القارة الأفريقية.
يعرف عن واغنر أنها مُورّد للبنادق المستأجرة، إلا أنها تطورت خلال السنين الأخيرة فغدت أداة أكثر تعقيداً وأوسع انتشاراً للنفوذ الروسي، بحسب ما يقوله خبراء ومسؤولون غربيون يرصدون توسعها.
وبدلاً من كونها كياناً واحداً، فقد باتت واغنر وصفاً لعمليات مترابطة يتم من خلالها خوض الحروب وجني الأموال وممارسة النفوذ، بأقل التكاليف، وبأساليب قابلة للإنكار، بما يخدم طموحات السيد بوتين داخل قارة تحظى فيها روسيا بدعم مرتفع نسبياً.
وظهرت فاغنر في عام 2014 كفرقة من المرتزقة المسنودة من قبل الكريملين لدعم أول غزوة يقوم بها السيد بوتين في شرق أوكرانيا، ثم ما لبثت من بعد أن نشرت عناصرها في سوريا. وفي الأشهر الأخيرة، ظهر ما لا يقل عن ألف من مقاتليها في أوكرانيا بحسب ما تؤكده مصادر المخابرات البريطانية.
العنصر المحوري في عمليات فاغنر، كما يقول المسؤولون الغربيون، هو يفجيني بريغوجين، وهو أوليغاركي روسي اشتهر بلقب "طاهي بوتين" والذي أدين في الولايات المتحدة بتهم التلاعب بالانتخابات الرئاسية التي أجريت في عام 2016.
تمددت عمليات فاغنر في عام 2017 لتصل إلى أفريقيا، حيث غدا مرتزقتها عاملاً بارزاً، ومحورياً في بعض الأوقات، في سلسلة من الصراعات التي تدور رحاها في عدد من البلدان، منها ليبيا وموزمبيق وجمهورية أفريقيا الوسطى ومؤخراً مالي، حيث تتهم فاغنر في هذه البلدان وفي غيرها بارتكاب انتهاكات وفظائع ضد المدنيين.
إلا أن فاغنر أكثر من مجرد آلة حرب في أفريقيا، وعند التأمل عن قرب في نشاطاتها داخل السودان، ثالث أكبر منتج للذهب في القارة الأفريقية، يظهر بوضوح مدى انتشارها.
حصلت فاغنر على امتيازات هائلة للتنقيب والتعدين في السودان، بما يعود عليها بسيل متدفق من الذهب، كما تشير السجلات – الأمر الذي من شأنه أن يعزز مخزون الكريملين من الذهب الذي يقدر بمبلغ 130 مليار دولار ويخشى المسؤولون الأمريكيون أن يستخدم لتقويض مفعول العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا، وذلك من خلال تمكين الروبل.
تقوم فاغنر في شرق السودان بالمساعدة في تنفيذ مشروع الكريملين لإنشاء قاعدة بحرية على ساحل البحر الأحمر تكون ملاذاً لسفنه الحربية التي تعمل بالطاقة النووية. وفي غرب السودان، وجدت فاغنر منصة انطلاق للعمليات التي ينفذها مرتزقتها في البلدان المجاورة – ولربما تجد هناك أيضاً مصدراً لليورانيوم.
منذ أن استولى الجيش السوداني على السلطة في انقلاب في شهر أكتوبر/ تشرين الأول، كثفت واغنر من شراكتها مع قائد عسكري متعطش للسلطة هو الفريق محمد حمدان، الذي زار موسكو خلال الأيام الأولى من الحرب الأوكرانية، والتي اندلعت في شهر فبراير/ شباط. وقدمت فاغنر الدعم العسكري للفريق حمدان وساعدت قوات الأمن السودانية في إخماد الحركة الجماهيرية الهشة الداعمة للديمقراطية، كما يقول المسؤولون الغربيون.
يقول صموئيل راماني من معهد الخدمات الملكية المتحدة، وهو مركز دراسات دفاعية مقره لندن، ومؤلف كتاب سيصدر قريباً حول التواجد الروسي في أفريقيا: "تتغذي روسيا على السرقات الحكومية والحروب الأهلية والصراعات المهلكة في أفريقيا، وتملأ الفراغ الذي ينجم عن تخلي الغرب أو عن عدم اهتمامه."
ويضيف السيد راماني قائلاً إن السودان نموذج للبلد الذي تزدهر فيه فاغنر.
ينفي الكريملين وكذلك السيد بريغوجين أي ارتباط بفاغنر، والتي يقال إنها اكتسبت اسمها من ريتشارد فاغنر، الموسيقي المفضل لدى هتلر وأن الذي منحها ذلك الاسم هو العسكري الذي أسسها والذي طالما كان معجباً بما تمثله النازية له من رمزية ومن تاريخ.
يحيط السيد بريغوجين نشاطاته بسرية تامة، ويسعى جاهداً لإخفاء ارتباطاته بفاغنر من خلال شبكة من الشركات الوهمية والتنقل عبر القارة الأفريقية باستخدام طائرة خاصة لعقد الاجتماعات مع الرؤساء والقادة العسكريين. إلا أن وزارة الخزانة الأمريكيين والخبراء الذين يرصدون تحركات السيد بريغوجين ونشاطاته يقولون إنه يملك أو يتحكم بمعظم، إن لم يكن جميع، الشركات التي تتكون منها فاغنر.
وكما تظهر عملياته في السودان، تركت تلك الشركات من خلفها آثاراً من الورق تدل عليها.
وذلك أن سجلات الجمارك الروسية والسودانية والمؤسسات ذات الصلة، والتي تم الحصول عليها عبر مركز الدراسات الدفاعية المتقدمة – وهو مؤسسة غير ربحية مقرها واشنطن، وكذلك وثائق التعدين، وسجلات الرحلات الجوية والمقابلات التي أجريت مع مسؤولين غربيين وسودانيين، تكشف جميعها عن حجم امبراطوريته التجارية في السودان – وعن الأهمية الخاصة للذهب.
وكانت وزارة الخارجية الأمريكية قد صرحت في بيان لها يوم 24 مايو/ أيار إن مجموعة فاغنر "تركت من خلفها أثراً يدل عليها جله من الأكاذيب وانتهاكات حقوق الإنسان" في مختلف أرجاء أفريقيا، وأن السيد بريغوجين هو "مديرها وممولها."
معظم المسؤولين تحدثوا عن السيد بريغوجين وعن فاغنر شريطة عدم الإفصاح عن هويتهم، متعذرين بظروف السرية التي تحيط بوظائفهم أو في بعض الأوقات، بسبب الخشية على سلامتهم الشخصية. ورفض الفريق حمدان وكذلك مبارك أردول، المسؤول في الدولة السودانية عن قطاع التعدين، طلبات لإجراء المقابلات معهما.
في إجابة مطولة ومكتوبة على أسئلة وجهت إليه، نفى السيد بريغوجين وجود أي مصالح تعدينية له في السودان، وأدان العقوبات الأمريكية المفروضة عليه، ورفض ضمنياً، وجود المجموعة التي اشتهر عنه ارتباطه بها.
وقال: "للأسف، لم يكن لدي في أي يوم من الأيام شركات تعدين. وأنا لست رجلاً عسكرياً روسياً. وأسطورة فاغنر، ما هي إلا أسطورة."
المفتاح إلى أفريقيا
بدأت عمليات فاغنر في السودان في عام 2017 بعد لقاء جرى في المنتجع الساحلي الروسي سوتشي.
بعد ما يقرب من ثلاثة عقود من الحكم الاستبدادي، بدأ رئيس السودان عمر حسن البشير يفقد قبضته على السلطة. فسعى أثناء لقاء مع السيد بوتين في سوتشي إلى تشكيل تحالف جديد، مقترحاً على روسيا أن يكون السودان مفتاحها إلى أفريقيا مقابل تقديم المساعدة له، وذلك بحسب ما ورد في محاضر الكريملين حول ما جرى أثناء اللقاء من حديث.
فما كان من السيد بوتين إلا أن اقتنص العرض الذي قدم له.
خلال أسابيع، بدأ علماء الجيولوجيا والتعدين الروس، الذين وظفتهم مؤسسة ميرو غولد، وهي شركة سودانية جديدة، في الوصول إلى السودان، بحسب ما يظهر من سجلات الرحلات التجارية التي حصل عليها مركز دوسيه، وهو كيان استقصائي مقره لندن، وبحسب ما أكده باحثون من مركز الدراسات الدفاعية المتقدمة.
تقول وزارة الخزانة الأمريكية إن ميرو غولد يتحكم بها بريغوجين، وأنها فرضت عقوبات على الشركة في عام 2020 كجزء من كتلة من الإجراءات التي استهدفت بها فاغنر في السودان. يدير ميرو في السودان شخص اسمه ميخائيل بوتبكين، والذي كان مسبقاً قد وظف من قبل وكالة بحث الإنترنيت، والتي هي عبارة عن مصنع تصيد عبر الإنترنيت يموله بريغوجين، والتي وجهت لها تهم بالتلاعب في الانتخابات التي جرت في الولايات المتحدة في عام 2016، بحسب ما تقوله وزارة الخزانة الأمريكية.
اقرأ أيضا: احتجاجات بالسودان.. والسلطات تنفي علاقتها بـ"فاغنر"
لحق بالجيولوجيين من ميرو غولد مسؤولون عسكريون روس، سرعان ما دخلوا في مفاوضات حول مشروع محتمل لإنشاء قاعدة بحرية روسية على ساحل البحر الأحمر – وكانت تلك هدية استراتيجية حظى بها الكريملين من حيث لم يكن يحتسب.
على مدى الشهور الثمانية عشر التالية، استوردت ميرو غولد 131 شحنة إلى داخل السودان، بحسب ما يظهر من سجلات الجمارك الروسية، تشتمل على معدات تعدين وإنشاءات، ولكن أيضاً على شاحنات عسكرية، وعربات برمائية، وعلى طائرتي شحن عموديتين. صورت إحدى العموديتين بعد سنة من ذلك في جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث كان مقاتلو فاغنر يقومون بحماية رئيس البلاد، وحيث حصل السيد بريغوجين على امتيازات مربحة للتنقيب عن الماس.
تظهر الوثائق كذلك أن الشحنات تضمنت، في مفارقة عجيبة، سيارة أمريكية أثرية – وهي كاديلاك من سلسلة 62 المصنوعة في عام 1956.
سرعان ما وجد الروس أنفسهم يقدمون النصح للسيد البشير حول كيفية النجاة بنفسه. فأثناء اندلاع الثورة الشعبية في أواخر عام 2018، مهددة بإسقاط الحكومة، وجه مستشارو فاغنر مذكرة يحثون فيها الحكومة السودانية على شن حملة عبر مواقع التواصل الاجتماعي لتشويه صورة المحتجين. بل ذهبت المذكرة إلى حد نصح السيد البشير بتنفيذ حكم الإعدام على الملأ بعدد من المحتجين ردعاً لغيرهم وتحذيراً لهم.
تم الحصول على نسخة من هذه المذكرة وغيرها من الوثائق من مركز دوسيه، والذي يموله ميخائيل بي خودركوفسكي، وهو أوليغاركي افط السابق وخصم منذ وقت طويل للسيد بوتين. تمكنت صحيفة نيويورك تايمز من خلال مقابلات أجرتها مع مسؤولين ورجال الأعمال كبار في السودان من تأكيد صحة بعض أهم ما ورد في الوثائق، والتي قال مركز دوسيه إنه حصل عليها من مصادر داخل المنظمة التي يديرها بريغوجين.
عندما أطيح بالسيد البشير من قبل جنرالاته وتم وضعه تحت الإقامة الجبرية في منزله في إبريل/ نيسان 2019، سارع الروس إلى تغيير المسار.
بعد أسبوع من ذلك حطت الطائرة الخاصة التي يسافر على متنها السيد بريغوجين في العاصمة السودانية الخرطوم، وكانت تقل وفداً من كبار المسؤولين العسكريين الروس، وعادت أدراجها إلى موسكو وعلى متنها عدد من كبار المسؤولين العسكريين السودانيين، بما في ذلك شقيق للجنرال حمدان، والذي كان حينذاك قد برز كلاعب مهم داخل السلطة، وذلك بحسب ما ورد في بيانات الرحلة التي حصلت عليها صحيفة نوفايا غازيت الروسية.
بعد ستة أسابيع، في الثالث من يونيو/ حزيران 2019، شنت قوات الجنرال حمدان عملية دموية وسط الخرطوم لفض اعتصام المتظاهرين المطالبين بالديمقراطية، كان قد أسفر على مدى أسبوعين عن مقتل ما لا يقل عن 120 شخصاً. وفي الخامس من يونيو/ حزيران، استوردت شركة السيد بريغوجين، ميرو غولد، 13 طناً من دروع مكافحة الشغب بالإضافة إلى الخوذات والهراوات لصالح شركة تديرها عائلة الجنرال حمدان، كما يظهر من وثائق تابعة لهيئة الجمارك وللشركة نفسها.
في ذلك الوقت تقريباً، سعت حملة تضليل روسية، تعتمد على التقارير الكاذبة التي تنشرها عبر حسابات في وسائل التواصل الاجتماعي، إلى تعميق الانقسامات السياسية داخل السودان – في أسلوب مشابه لذلك الذي استخدمته وكالة بحث الإنترنيت للتدخل في الانتخابات الأمريكية عام 2016. قام فيسبوك في أكتوبر/ تشرين الأول 2019 وفي مايو/ أيار 2021 بإغلاق 172 من تلك الحسابات، رابطاً إياها مباشرة بالسيد بريغوجين.
ولكن لم تفلح تلك الإجراءات ولا العقوبات الأمريكية في ردع مجموعة فاغنر عن المضي قدماً في تحقيق هدفها الرئيسي، ألا وهو الاستيلاء على شريحة من كعكة الذهب السوداني.
المنقبون عن الذهب
يتدفق الرجال الفقراء، الذين يمنون أنفسهم بتحقيق ثراء سريع، نحو العبيدية، بلدة مناجم الذهب شمالي الخرطوم على ضفاف نهر النيل.
بعد نحت الصخور الثرية بالذهب من الجبال في الصحراء، يجلبونها لكي تسحق في سوق البلدة المتداعي، حيث يستخلصون الذهب باستخدام تقنية متخلفة تعتمد على الزئبق، تشكل مخاطر جسيمة على صحتهم.
إلا أن أرباحاً أعظم يمكن أن تُجنى من خلال تمرير الركاز عبر عملية ثانية لاستخلاص الذهب أكثر تعقيداً داخل مجمع للورشات الصناعية يقع على بعد عشرة أميال، حيث تقوم على إدارة أضخم هذه الورشات شركة ميرو غولد.
في مقابلات أجريت معهم، تحدث الباعة حول كيف جاء الروس إلى السوق ليأخذوا عينات ويشتروا ركاز الذهب، وكيف أنهم كانوا يدفعون ما يصل إلى 3600 دولار لحمولة شاحنة تزن تسعة أطنان من الركاز. وقالوا إن الروس، في بعض الأوقات، كانوا يحظون بحماية قوات تابعة لقوات الدعم السريع بقيادة الجنرال حمدان.
عندما اقترب فريق من صحيفة ذي نيويورك تايمز من بوابة ورشة مور غولد، أبدى المهندس السوداني أحمد عبد المنعم الرغبة في المساعدة قائلاً إن ما يقرب من ثلاثين روسياً وسبعين سودانياً يعملون هناك، ومشيراً إلى مقرات السكن والمعامل والأبراج المعدنية البراقة. ولم يكن وارداً أن يتحدث الروس أنفسهم مع أحد من الصحفيين بسبب ما أشيع عن ارتباط الشركة بمجموعة فاغنر، وهو الأمر الذي نفى صحته.
قبل أن يستفيض، وردت رسالة باللغة الروسية عبر جهاز اللاسلكي. ثم اصطفت حافلة صغيرة خارج البوابة يقودها شخص أبيض تبدو عليه ملامح الرجل الرياضي ويرتدي بنطلوناً قصيراً، ويضع على عينيه نظارات شمسية، ويكتسي بقميص تي شير كاكي أخضر اللون. بدا واضحاً أنه يتجنب التواصل البصري مع أفراد فريقنا.
انطلقت الحافلة وعلى متنها السيد عبد المنعم، ثم طلب منا المغادرة.
ارتفع بشكل حاد إنتاج الذهب في السودان بعد عام 2011، عندما انفصل جنوب السودان وأخذ معه جل الثروة النفطية، ومع ذلك لم يحظ بالثراء سوى حفنة قليلة من السودانيين. هيمنت عائلة الفريق حمدان على تجارة الذهب، بحسب ما يقوله الخبراء والمسؤولون السودانيون. ويتم تهريب ما يقرب من سبعين بالمائة من إنتاج السودان إلى الخارج، بحسب تقديرات صادرة عن البنك المركزي السوداني حصلت عليها صحيفة ذي نيويورك تايمز.
يمر معظم ذلك الذهب عبر الإمارات العربية المتحدة، المركز الرئيسي للذهب الأفريقي المهرب. يقول المسؤولون الغربيون إن الذهب الذي ينتجه الروس يتم تهريبه في الأغلب بهذه الطريقة، مما يسمح للمنتجين تجنب الخضوع للضرائب الحكومية وربما كذلك التهرب من دفع النصيب المستحق للحكومة السودانية من الأرباح التي يجنيها المنتجون.
يقول لاكشمي كومار الذي يعمل في مؤسسة غلوبال فاينانشال إنتغريتي، وهي جهة غير ربحية مقرها واشنطن متخصصة في البحث في التدفقات المالية غير القانونية: "بإمكانك أن تدخل الإمارات العربية المتحدة وفي يدك حقيبة مملوءة بالذهب، ولن يوجهوا إليك أي أسئلة."
لقد غدا وقف تدفق الذهب الروسي من أولويات الحكومات الغربية. ففي شهر مارس / آذار، هددت وزارة الخزانة الأمريكية بفرض عقوبات على أي شخص يساعد السيد بوتين في غسيل ما لدى البنك المركزي الروسي من ذهب تقدر قيمته بما يقرب من 130 مليار دولار.
لربما وجد بعض الذهب السوداني طريقه إلى موسكو بشكل مباشر.
منذ فبراير/ شباط وحتى يونيو/ حزيران 2020، تقصى مسؤولو مكافحة الفساد في السودان 16 رحلة شحن جوي روسية من اللاذقية في سوريا إلى بورتسودان. بعض هذه الرحلات، والتي تشغلها وحدة الطيران العسكري الروسي رقم 223، انطلقت من موقع قريب من موسكو. تمكنت صحيفة ذي نيويورك تايمز من التحقق من معظم هذه الرحلات عبر استخدام خدمات رصد الرحلات الجوية.
لدى ارتيابهم بأن الطائرات كانت تستخدم لتهريب الذهب، داهم المسؤولون إحداها قبل أن تقلع يوم الثالث والعشرين من يونيو/ حزيران. ولكن عندما كانوا على وشك فتح الصناديق تدخل جنرال سوادني، مشيراً إلى أمر صادر عن الزعيم السوداني الجنرال البرهان، بحسب ما ورد في تصريح لمسؤول سوداني سابق في مكافحة الفساد تحدث شريطة عدم الإفصاح عن هويته تجنباً لأي إجراءات انتقامية ضده.
سحبت الطائرة إلى القسم العسكري في المطار، كما قال، ثم أقلعت إلى سوريا بعد ساعتين دون أن تخضع لأي تفتيش.
بعد خمسة شهور، وعلى أثر الانقلاب العسكري في أكتوبر/ تشرين الأول، صدر أمر بحل الكيان الذي أنيطت به مكافحة الفساد، والذي كان قد أسس ابتداء لتفكيك الشبكة التابعة للسيد البشير داخل السودان.
استنكف الجنرال البرهان عن إجراء مقابلة معه لصالح هذه المقالة. أما الفريق إبراهيم جابر، عضو مجلس السيادة الحاكم، فقلل من أهمية التقارير التي تتحدث عن عمليات التهريب الروسية، وقال: "الناس تتحدث، ولكنك بحاجة إلى دليل."
من روسيا بالبسكويت
منذ عام 2016، فرضت الولايات المتحدة ما لا يقل عن سبع جولات من العقوبات على السيد بريغوجين وعلى شبكته، ويعرض مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) جائزة قدرها 250 ألف دولار مقابل معلومات تفضي إلى توقيف أحد من المتهمين. إلا أن تلك الإجراءات لم تفلح في الحد من تمدده في أفريقيا، حيث يشعر أحياناً بأنه بلغ من التمكن حداً يجعله يتباهى بما لديه من ارتباطات.
في محاولة مثيرة للحصول على الدعم السوداني، تبرع السيد بريغوجين بمائة وثمانية وتسعين (198) طناً من الغذاء للفقراء في السودان في العام الماضي أثناء شهر رمضان. كتبت على الطرود الغذائية، والتي تحتوي على أرز وسكر وعدس، عبارة تقول "هدية من يفجيني بريغوجين"، وجاءت العبارة تحت شعار يستعيد ذكريات الحرب الباردة الدفينة نصه "من روسيا مع الحب."
نفذت عملية التبرع من خلال إحدى الشركات التابعة لمؤسسة ميرو غولد، واحتوت المواد المتبرع بها على 28 طناً من البسكويت الذي استورد خصيصاً من روسيا. يقول موسى قسم الله، رئيس المنظمة الإغاثية التي وزعت المساعدات: "كان الأطفال هم المستهدفين من البسكويت، ولكن ما من شك في أن الجميع استمتع به."
ولكن كان في الموضوع مشكلة. فبدلاً من توزيع المساعدات الغذائية في المناطق الأكثر فاقة، أصر السيد بريغوجين على تحويل عشرة أطنان من الغذاء إلى بورتسودان، حيث تمارس روسيا ضغوطاً سياسية للسماح لها بإنشاء قاعدة بحرية، وذلك ما أزعج السيد قسم الله، الذي قال: "فهم من ذلك أن المبادرة كانت ذات طابع سياسي أكثر منها ذات طابع إنساني."
في رده على الأسئلة التي وجهتها له صحيفة ذي نيويورك تايمز، كتب السيد بريغوجين يقول إنه لا علاقة له على الإطلاق بمؤسسة ميرو غولد، ولكنه أضاف إنه علم بأن الشركة كانت "تخضع حالياً للتصفية."
إلا أنه أكد تقديم التبرع الخيري، قائلاً إنه كان بإيعاز من امرأة سودانية كان معها على علاقة "صداقة وزمالة وعمل وممارسة جنسية" – فيما يبدو السخرية بهذا التفسير الذي من المرجح أن يثير حفيظة الناس، وخصوصاً في مثل هذا المجتمع المسلم والمحافظ.
كما أن الحليف العسكري الرئيس لفاغنر في السودان، الجنرال حمدان، يسعى هو الآخر لنيل الدعم الشعبي. فمنذ أن غدر بولي أمره السابق لسنوات طويلة السيد البشير في عام 2019، لم يزل الجنرال حمدان يسعى جاهداً إلى النأي بنفسه عما اشتهر به من أنه كان قائداً عسكرياً شرساً أثناء الصراع في دارفور، والذي نجم عنه مقتل ما يقرب من ثلاثمائة ألف مدني خلال العقد الأول من الألفية الحالية.
بدلاً من ذلك، صدر عن السيد حمدان إشارات تفيد بأنه يطمح في قيادة السودان، وذلك من خلال العمل على إيجاد قاعدة داعمة له وسط الزعماء التقليديين الذين يسعى لاستمالتهم بتقديم الهبات المالية وهدايا السيارات، وكذلك من خلال تعزيز علاقاته مع القوى الأجنبية الصديقة مثل روسيا، بحسب ما يقوله الدبلوماسيين.
اقرأ أيضا: السودان ينفي التقدم بطلب لإنهاء تفويض بعثة "يونيتامس"
يقول مسؤولون غربيون كبار إن فاغنر رتبت في شهر فبراير/ شباط زيارة للجنرال حمدان إلى موسكو، وأن وصوله كان عشية بدء الحرب في أوكرانيا. وعلى الرغم من أن الزيارة في ظاهرها كانت من أجل التباحث حول حزمة مساعدات اقتصادية، كما يقولون، إلا أن الجنرال حمدان وصل ومعه حمولة من السبائك الذهبية على متن طائرته. وأثناء مباحثاته مع المسؤولين الروس، طلب منهم المساعدة في الحصول على طائرات مسيرة عسكرية.
مساندة الانقلاب "لسرقة الذهب"
يقع الجزء الأكثر إظلاماً فيما تمارسه فاغنار في السودان في إقليم دارفور، تلك المنطقة التي مزقها الصراع والمعروفة بثرائها باليورانيوم. بإمكان المقاتلين الروس هناك التسلل إلى داخل القواعد التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع بقيادة الجنرال حمدان، كما يقول مسؤولون غربيون وموظفون يعملون في الأمم المتحدة – وفي بعض الأوقات يستخدمون تلك القواعد للانطلاق نحو جمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا وأجزاء من تشاد.
وهذا العام زار فريق من علماء الجيولوجيا الروس منطقة دارفور لتقييم مقدراتها من اليورانيوم، بحسب ما صرح به مسؤول غربي.
منذ أن بدأت الحرب في أوكرانيا، تعمل شبكات التضليل المعلوماتي الروسية داخل السودان على توليد تسعة أضعاف ما كانت تولده من قبل من أخبار كاذبة، وذلك سعياً منها لنيل الدعم لصالح الكريملين، بحسب ما يقوله أميل خان من مؤسسة فيلانت بروجيكتس، وهي شركة مقرها لندن وتعمل في مجال رصد تدفق المعلومات المضللة.
إلا أن تلك الرسالة لا تجد ترحيباً من الجميع. فقد انطلقت عدة احتجاجات ضد عمليات ميرو غولد في مناطق التعدين. بل لقد حققت مقاطع فيديو لشخصية سودانية معروفة عبر اليوتيوب باسم "الثعلب" أعداداً ضخمة من المشاهدات، وجل هذه المقاطع مخصص لرفع الغطاء عن عمليات ونشاطات فاغنار.
ويرى متظاهرون من داعمي الديمقراطية أن موسكو كانت تقف من وراء الانقلاب العسكري الذي وقع في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي وتمخض عنه استيلاء العسكر على الحكومة السودانية.
جاء في ملصقة ظهرت في الخرطوم مؤخراً العبارة التالية: "روسيا دعمت الانقلاب، ولذلك فقد تسرق الذهب."
NYT: فاغنر أقامت علاقات مع عسكر السودان وهرّبت الذهب لروسيا
MEE: كيف غيّرت حرب أوكرانيا علاقة تركيا مع روسيا؟
ذي أتلانتك: تتار القرم شردهم ستالين ويتحدون بوتين الآن