تسع سنوات وصوت الجميع محبوس والكلام ممنوع والانتقاد أشد منعا، فلا صحافة حرة ولا إعلام مستقلا ولا أحزاب فاعلة أو حتى قادرة على الفعل.
تسع سنوات ولا صوت يعلو فوق صوت الحاكم، فالكلمة الأولى والأخيرة ليل يلقيها على الناس أنى يشاء، صبحا أو مساء، ثم فجأة يتم الإعلان عن حوار مجتمعي لأن البلد تمر بظروف قاسية ويتوقع أن تمر بظروف أشد سوءا وكربا مما مرت به خلال السنوات التسع الماضية.
بعد تسع سنوات يطالب الحاكم الناس بالحوار، وربما يكون بعضهم أو جلهم قد نسي لغة الكلام، لذا فحين تكلم انفعل فغضب الجنرال من ارتفاع النبرة ومن مفردات الحديث الذي لم يتعود على سماعها من قبل ولم يسمح بتلفظها طوال الوقت، وبناء على ذلك فقد قرر الحاكم التنبيه على الشعب قبل أن يسمح بالحوار، وأعلنها صريحة: "لا حوار وأنت حاطط رجل على رجل"، و"لا حوار يتضمن أي انتقادات للإنجازات العظيمة"، ولا حوار يمس مقام السيادة بالطبع.
بعد تسع سنوات وإذ فجأة هبت رياح الكلام، وطلب من أبناء قبيلة 30 يونيو أن يحتشدوا وأن يأتوا صفا، وألا يسمحوا بعبور أو مرور أي عضو ثبت انضمامه لثورة 25 يناير المجيدة أو حتى قام بذكرها أو أشاد بها، ولو في لحظة انفعال طبيعي على صفحة فيسبوك أو تحدث عنها في إحدى تغريداته.
كون النظام مضطرا للحوار فهذا مما لا شك فيه، فالظروف الاقتصادية وحالة الفشل التام التي تقرأها في كلمات الحاكم وانفعالاته تعطيك فكرة عن حجم المأزق الذي يعيشه، وهو يدرك أن الأيام القادمة ستكون أكثر قتامة وعتامة، وهو لا يأمر بالحوار لأنه يرغب فيه، فهو عكس ذلك تماما، ولكنه فيما يبدو قد نُصح من جهات خارجية بتفعيل آلة الحوار المعطلة لتهيئة الرأي العام لقرارات أشد صعوبة
تخيل أن شعبا صمت أو أجبر على الصمت لتسع سنوات مطلوب منه التحاور وبلغة مهذبة وألا ينسى أن
الحوار منحة من ولي النعم، وبالتالي فالصمت في حضرة النظام جمال، وإلا فالعقوبة حاضرة، وفض السامر والقبض على المتحاورين سيتم في غمضة عين أو هو أقرب.
كشخص طبيعي اسأل نفسك: لماذا يضطر النظام إلى الحوار مع المواطنين أو إلى بعض الشخصيات العامة؟
أو بمعنى آخر: ما الذي يدفعه أو يجبره على ذلك؟
أو بمعنى ثالث: هل هو مضطر لذلك؟
وإذا كان مضطرا، فهل هذا يعني أنه مضطر للاستماع إلى من يتحاورون معه؟
ولو استمع وأنصت إليهم، هل هو مضطر لتنفيذ رغباتهم، لا أقول طلباتهم أو أوامرهم لأن الجنرالات اعتادوا ألا يقبلوا أوامر من أحد، وخصوصا من الشعوب التي يحكمونها جبرا وغصبا وعنفا؟
أما كون النظام مضطرا للحوار فهذا مما لا شك فيه، فالظروف الاقتصادية وحالة الفشل التام التي تقرأها في كلمات الحاكم وانفعالاته تعطيك فكرة عن حجم المأزق الذي يعيشه، وهو يدرك أن الأيام القادمة ستكون أكثر قتامة وعتامة، وهو لا يأمر بالحوار لأنه يرغب فيه، فهو عكس ذلك تماما، ولكنه فيما يبدو قد نُصح من جهات خارجية بتفعيل آلة الحوار المعطلة لتهيئة الرأي العام لقرارات أشد صعوبة على المواطن البسيط المطحون على مر السنين، ولم يجد في السنوات التسع الماضية من يحنو عليه.
قد تكون الجهة الآمرة بالحوار هي صناديق الإقراض والديون، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي أو حتى البنك الأوروبي. وقد تكون هذه الجهة هي جهة سيادية، ولا أعني بها سيادية في الداخل بل سيادية في الخارج، ولا أعني الإمارات أو السعودية فقط، ولكن أقصد جهة سيادية عالمية وتحديدا أمريكا. ففي تقديري أن تحريك الملف الداخلي بات شرطا لكي يزور الرئيس الأمريكي جو بايدن
مصر في مؤتمر المناخ المزمع عقده في شرم الشيخ هذا العام، أو شرطا كي يلتقط
السيسي الصور مع بايدن في الزيارة التي سيقوم بها للرياض قريبا أو كما يتوقع أن تكون قريبا، وبالتالي فلا بد من استجابة ولو جزئية لطلبات البيت الأبيض وإظهار نوع من التسامح مع الأوامر الأمريكية، أو لنقل الطلبات أو الرغبات الأمريكية، فليس من المعقول أن تدعم أمريكا النظام كل هذا الدعم ثم لا يستجيب لبعض رغباتها.
إذا كان الحال هو أن النظام مضطر للحوار فالنتيجة معروفة، وهي أن الحوار يتم لغرض وليس احتراما لا لقيمة الحوار وضرورته، ولا احتراما للشعب بوصفه صاحب الفضل على الجميع ولا تقديرا للساسة؛ لأن الحاكم أعلن غير مرة أنه لا فضل لأحد في وصوله إلى السلطة ولا أحد بمقدوره محاسبته سوى الله، بمعنى أنه مبعوث العناية الإلهية، جاء للسلطة بأمر من الله وسيرحل عنها بأمر منه سبحانه وتعالى.
النظام لا يرغب في أن يتولى الأمانة شخص مستقل وله رأي، وبالطبع يفضل ألا يكون من أنصار ثورة 25 يناير المجيدة حتى ولو كان شخصا مثل عمرو موسى، الدبلوماسي المعروف، أو محمد غنيم، الطبيب اليساري المشهور
الحوار مسألة مؤقتة وعرض زائل لأن عقل النظام لا يؤمن لا بالحوار ولا بالتشاركية السياسية ولا بالديمقراطية، ولذلك فأول ما قام به النظام هو إسناد عملية الحوار إلى أكاديمية التدريب وليس إلى رئاسة الجمهورية، وهي المكان الذي انطلقت منه الدعوة، ثم كانت المفاجأة في تعيين ضياء رشوان، رجل النظام ورئيس الهيئة المصرية للاستعلامات ونقيب الصحفيين ومقدم برنامج تلفزيوني، منسقا عاما للحوار دون تسمية أمين عام الحوار؛ لأن النظام لا يرغب في أن يتولى الأمانة شخص مستقل وله رأي، وبالطبع يفضل ألا يكون من أنصار ثورة 25 يناير المجيدة حتى ولو كان شخصا مثل عمرو موسى، الدبلوماسي المعروف، أو محمد غنيم، الطبيب اليساري المشهور.
الحوار المطلوب الآن هو محطة عابرة ولقطة فنية يتم تجهيزها وتصديرها إلى الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي، وهو حوار إن تم سيكون حوارا سريا ذا ضوابط شديدة. فممنوع الحديث وممنوع التعليق وممنوع النقد، وكل ما هو مطلوب هو إبداء آراء واستنباط أفكار للخروج من المأزق الراهن والمآزق المقبلة. أما المرحلة السابقة بكل ما فيها وبكل مآسيها وبلاويها، فأقصى ما هو مطلوب هو المرور عليها كما يمر الناس على المقابر صامتين إن لم يمروا عليها شاكرين ومهللين، وما دون ذلك فهو مرفوض.
المطلوب هو عبور مرحلة مصافحة بايدن والموافقة على شروط النقد الدولي، والتوافق على أن الحاكم غير مسؤول عما جرى وأن يديه مغسولتان من كل ما جرى، بما في ذلك الاعتقالات والإعدامات، وبيع الجُزر وضياع نهر النيل والخراب الاقتصادي، والدمار الاجتماعي الهائل الحاصل منذ تسع سنوات وإلى اليوم. وهذه هي شروط الحوار المعلنة والمعروفة للناس جميعا، من يرغب في الحوار ومن لا يرغب، من يتودد ويرغب بالليل وهو رافض بالنهار ومن يتودد بالليل والنهار متعللا بعلل واهية، كلهم يعلمون ماذا يدور في ذهن النظام وماذا يريد منهم.
لحين خروج الشعب من القمقم أنصح الجميع بتجاهل هذه الدعوة والتزام الصمت، حتى لا يؤوّل النظام أي تحرك أو تواصل أو تغريدة أو رسالة عبر الإيميل على أنها رغبة وشوق ولوعة من أجل اللحاق بقطار الحوار الذي لا أراه مستعدا للحركة
هل يمكن لأحد أن يجبر النظام على التغير أو إطلاق عملية
التغيير؟ بالطبع لا أحد إلا القوة القاهرة، وهي غضب الشعب العارم أو غضب الكفلاء أو بعضهم، أو اصطفاف المعارضة في الداخل والخارج ورفضها الحوار بطريقة لا تخطئها العين ولا تقبل التأويل والتفسير، وليس كما يفعل البعض من الرقص على السلالم والتمنع وهو الراغب في أن يرضى عنه النظام.
ولحين خروج الشعب من القمقم أنصح الجميع بتجاهل هذه الدعوة والتزام الصمت، حتى لا يؤوّل النظام أي تحرك أو تواصل أو تغريدة أو رسالة عبر الإيميل على أنها رغبة وشوق ولوعة من أجل اللحاق بقطار الحوار الذي لا أراه مستعدا للحركة، وكل ما في الأمر أن البعض يريد إقناع نفسه بأن قطار الحوار يتحرك حتى لو كان يعلم علم اليقين أن القطار بدون سائق..
وسنواصل الكتابة في الحوار المفقود الأسبوع المقبل إن شاء الله.
twitter.com/drzawba