في الوقت الذي تضمن فيه العلمانية المحايدة أو (المعتدلة) الحرية الدينية للمتدينين، ما يمكنهم من ممارسة شعائرهم، وإظهار رموزهم، بحرية تامة، تُظهر العلمانية الصلبة أو (المتطرفة) تشددها إزاء ذلك كله، فتسعى للحد من إبراز الشعائر والرموز الدينية، وتعمل على تضييق مساحات تواجدها وظهورها في الشأن العام.
وقد يصاحب ذلك انتقاد نخب علمانية لتعاليم شرعية مقررة، أو مهاجمتها لبعض المظاهر والرموز الدينية، تحت عناوين كثيرة، وعناوين متعددة، غالبا ما تستفز المتدينين، وتؤجج نار المواجهة لديهم، وتلهب مشاعرهم لمزيد من التمسك والتشدد، وقد تُحدث في بعض تلك الأوساط مزيدا من الغلو والتطرف.
ووفقا لمراقبين فإن خطاب العلمانية الصلبة، بسلوكياته ومواقفه المختلفة، يتطلب جهودا مكثفة على المستويين الرسمي والشعبي لتفكيكه، والذي لم يعد يخفي خصومته لكثير من المظاهر الدينية، ويعلن بجرأة شديدة ممانعته لإعلان الأحكام الشرعية وتطبيقها في الشأن العام، وهو ما يثير تساؤلا هاما حول إمكانية وكيفية كبح جماح التطرف العلماني، والحد من غلوائه في مخاصمة الدين، ومهاجمة شعائرة وتعاليمه ورموزه.
ووفقا للباحث المصري في شؤون الحركات الإسلامية، الدكتور عمرو عبد المنعم فإن "وجود ذلك النسق من العلمانية الصلبة المتطرفة، يزيد بالفعل من التطرف المعاكس، الذي غالبا ما يصب في خانة التطرف الديني، ومن الجدير بالذكر أن خطورة التطرف العلماني هي تماما مثل التطرف الديني".
وأضاف أن "التطرف العلماني تيار منظم، يمتلك رؤية، ويمتلك تمويلا، ويوجه من قبل بعض القوى والدول، ظنا منهم أنه يمكن أن يواجه التطرف الديني بشكل كبير، ومن المؤكد أن كل أشكال التطرف مذمومة وخطيرة، سواء كان علمانيا أو دينيا أو إلحاديا، ويجب التحذير منه ومواجهته، والتصدي له".
عمرو عبد المنعم.. كاتب وباحث مصري
وعن كيفية كبح جماح التطرف العلماني، رأى عبد المنعم في حديثه لـ"عربي21" أن "العمل على مشروع وطني ديني فكري لكل دولة، يساهم في حماية المجتمعات العربية من التطرف العلماني، الذي تغذيه قوى ودول وتيارات مختلفة، تريد له أن يظهر بمظهر العقلانية والحداثة والتنوير والتقدم وما إلى ذلك".
وتابع: "وهنالك بعض العلمانيين من الكتاب والصحفيين يملكون مؤسسات صحفية، ويعدون ويقدمون برامج فضائية واسعة الانتشار، ويعملون ليل نهار لإظهار تلك التيارات وإبرازها، وتقديمها بنسق معرفي تنويري وحداثي، تتوافق مع الدين ولا تتعارض معه وفق تصوراتهم".
وأردف: "ومن طرق المواجهة الممكنة تحصين الشباب، والعمل على إيجاد مناخات وبيئات تربوية، وإشاعة الثقافة العربية والإسلامية، والاطلاع على تراث أئمة التجديد والإصلاح للإفادة منها في فهم الإسلام فهما مستنيرا، ما يمكن الشباب من مواجهة التطرف العلماني، بعقلية واعية ومستنيرة".
من جهته قال الكاتب والمدون الأردني، أحمد المدهون: "من الملاحظ ارتفاع وتيرة الخطاب العلماني الحادة، في مطلع القرن الحادي والعشرين، كما أنه طفا على المشهد الإعلامي والسياسي خطاب علماني يبدو مبرمجا، ويتبع أجندات غربية، تدعمه أنظمة ومؤسسات غربية بعباءة حداثية، مستفيدة بقوة من وسائل الإعلام الحديث".
وأضاف: "وهو خطاب يتميز بليونته الشديدة مع كل ما هو غير إسلامي ويتقبله ويتعايش معه ويتفهمه، في الوقت الذي يسلك سلوكا يمتاز بالخشونة والفظاظة مع الخطاب الإسلامي الذي ما زال متمسكا ومتشبثا بعقيدة الإسلام وكلياته ومقاصده وثوابته ومنظومته الأخلاقية والتشريعية".
وتابع لـ"عربي21": "وهذا الوضع ينذر بعواقب وخيمة في المجتمعات الإسلامية، لما يحدثه الشد والشد العكسي من نزعات متطرفة قد تنفجر في أي لحظة، وهذا الوضع يتطلب من كل العقول الراشدة التحلي بالحكمة، وتغليب لغة الحوار الهادئ، وأن تفتح القنوات للعلماء والفقهاء والمفكرين الإسلاميين الراشدين لتبديد الشبهات، وتفكيك الخطاب العلماني بوصفه خطابا يتجاوز عن عمد عقيدة الأمة وتاريخها وموروثها الإسلامي".
ورأى المدهون أن "على العلماء والمفكرين والمؤسسات العلمية والأكاديمية والإعلام والمثقفين والمؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي التعامل بشكل رئيسي مع الخطاب العلماني: واقعه وامتداداته وتأثيراته في واقع مليء بالمشكلات المعقدة، والتحديات المحلية والدولية".
وعلى صعيد الحلول الممكنة لكبح جماح التطرف العلماني، لفت إلى أنه "ليس ثمة حلول سحرية، وإنما هو التسديد والمقاربة، والبرامج والمشاريع البحثية والعلمية والإعلامية التي تهدف إلى زيادة الوعي بالصورة الإسلامية الصحيحة، وتفكيك التطرف بأشكاله المختلفة، وتفكيك بنية الخطاب العلماني وجذوره الفلسفية والنفعية، وارتباطاته الخارجية في عالم يفتقد إلى العدالة والسلام المجتمعي".
وبدوره رأى الكاتب والباحث السوري، أحمد الرمح أنه "لا يمكن الحديث عن تطرف علماني، وإغفال التطرف باسم الدين، لأن الدين لا تطرف فيه، بل هناك متطرفون دينيون، وهناك تطرف علمانوي لا علماني، وفي الوقت نفسه هناك أيضا تطرف إسلاموي لا إسلامي".
أحمد الرمح.. كاتب وباحث سوري
وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول: "التطرف العلمانوي هو الذي يجعل من العلمانية أيديولوجيا تقابل الدين، وهي ليست كذلك، والتطرف الإسلاموي يريد أسلمة كل مناحي الحياة، وهذا تحميل للإسلام ما لا يحتمل، لكن مع هذا فإن التطرف العلمانوي لم يستخدم العنف لإلغاء الآخر، على غرار التطرف الديني الذي جعل من العنف وسيلته للوصول إلى أهدافه".
وتابع: "العلمانية ليست ضد الدين، والدين ليس ضد العلمانية، لكن العلمانية ترسم الحدود بين الدين والدولة، وصحيح أنه يوجد علمانيون غير متدينين، ولكن هذا لا يعني أن كل علماني لا ديني، يقابله أن المتشددين دينيا يريدون إلغاء العلماني إلغاء فيزيولوجيا، وهذا التوجه من وجهة نظري ليس صحيحا، إذ لم يطرحه القرآن، ولا ممارسة النبي عليه الصلاة والسلام للرسالة قامت على هذا" على حد قوله.
وختم حديثه بالإشارة إلى إمكانية كبح جماح التطرف من كلا الطرفين "من خلال ترسيم حدود حقيقية بين مهمة الدين ووظيفة الدولة، ومن خلال تحقيق المواطنة الكاملة التي تؤسس الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، لكل المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية".
جماعات الإسلام السياسي.. هل تتبع بالفعل إسلاما متخيلا؟
التصدي للتطرف الديني بين أسئلة الجدوى وابتذال المعالجات
ما الأصلح للإفتاء.. الالتزام بمذهب واحد أم التعددية الفقهية؟