لفت الكاتب والباحث المصري، الدكتور هاني نسيرة في كتابه الصادر حديثا (الإسلام المتخيل والنهضة المعاقة.. أزمة تصورات النهضة في الفكر العربي الحديث) إلى ما أسماه الأزمة المفهومية لدى جماعات الإسلام السياسي تجاه تصور الدولة، وما يتعلق بها من مفاهيم كالحاكمية وما إلى ذلك.
ويذهب الباحث نسيرة إلى القول بأن لدى جماعات الإسلام السياسي، كما في أوساط التدين الشعبي والتقليدي والتعليمي، مفاهيم متخيلة، بل إسلاما متخيلا غير الإسلام الحقيقي والتاريخي، يدور حول التفسير السياسي للإسلام، الذي ساهم في إنتاج الخطاب الراديكالي لتلك الجماعات.
أطروحة الباحث نسيرة، تتصادم مع المفاهيم المستقرة والراسخة لجماعات الإسلام السياسي، وعموم التدين الشعبي والتقليدي، التي تعتقد أن الإسلام الذي تتبعه هو الإسلام الحقيقي والتاريخي، بشموليته الناظمة لسائر شؤون الحياة، والسياسة أحد مناحيها، ما يثير أسئلة حول دقة وصفه لجماعات الإسلام السياسي بذلك، وهل تتبع بالفعل إسلاما متخيلا وفق أطروحته؟
وللتعرف على رأي نسيرة بشكل واضح ودقيق، كان لـ"عربي21" معه هذا الحوار، الذي أوضح فيه أنه يقصد بـ"الإسلام المتخيل الذي لا يقتصر وجوده في أدبيات وأوساط جماعات الإسلام السياسي فقط، بل منتشر في أوساط التدين الشعبي والتعليمي أيضا، هو ذلك الإسلام الذي يحصره أتباعه في مسألتي الحاكمية والصراع الداخلي التطهيري وصراع خارجي مع الآخر".
وأضاف: "هو الإسلام الذي لم يكتشف جوهر الإسلام في توحيده، وأخلاقه ومعاملاته، وفي منطقه الحضاري، وبنيته الحضارية، التي ركزت على الإنسان، وفي القرآن سورة باسم (الإنسان) وسورة (النساء)، الذي شجع على العلم، وأكدّ كل القيم النبيلة والإيجابية قبله، وطورها وأضاف إليها، وزرع قيما جديدة".
هاني نسيرة.. باحث مصري
وتابع: "وحصر الإسلام في مسألتي الحكم والصراع الداخلي أو الخارجي، وأنه فقط إمامة وحكومة إسلامية وفتوحات وانتصارات، بدءا من حادثة السقيفة ومرورا بأربعة عشر قرنا، يعد إشكالا كبيرا، إذ إن حصر الإسلام وحشره في هذه المفهوم، وبذر العنف والكراهية، هو عكس ما أراده الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي عُرض عليه الملك فرفض".
وأردف الباحث نسيرة: "وحينما يأتي أستاذ كبير مثل الراحل أبو الأعلى المودودي فيقول إن الألوهية هي السلطة والملك، والنبي عليه الصلاة والسلام يعرض عليه الملك فيرفض، فيجب علينا حينئذ أن ندقق ونراجع، فهذا التفسير السياسي للإسلام أضر بالمسلمين قديما منذ عصر الفتن، التي ظهرت بعد الفتنة الكبرى، ثم ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا، وهو ما أعاق العقل المسلم عن إحداث النهضة المطلوبة، وجعلت المسلمين يعيشون خارج الوعي التاريخي".
وردا على سؤال حول الخطأ الذي وقعت فيه جماعات الإسلام السياسي بخصوص تفسيرها السياسي للإسلام، ذكر نسيرة أنه تناول ذلك في كتابه بشكل موسع، وتتبع موارد التفسير السياسي للدين، بدءا من تأسيس حسن البنا، لمقولاته دين ودولة، ورسالة وحكم، وهو ما نقله عن محمد رشيد رضا، ثم أتى بعده أبو الأعلى المودودي، في المصطلحات الأربعة، فبات كل شيء عنده سلطة وحكما، فالإله يعني ملكا، والعبادة تعني حاكمية، والدين يعني حكما، ثم أتى سيد قطب ونسج على نفس الطريقة والمنوال".
وبيَّن أن كل ذلك كان "تكريسا (وأيقنة) للمسألة السياسية في الإسلام، وجعلها عقيدة، مع أن فقهاء أهل السنة والجماعة منذ القرن الثاني نفروا من تضخيم مسألة الإمامة، وهربوا من الفتن، وكان الإمام أبو المعالي الجويني، إمام الحرمين يؤكد أن مسألة الإمامة اجتهادية تقديرية، وكذلك كان موقف شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية، وهو ذات الموقف لحجة الإسلام الغزالي في "القسطاس المستقيم".
وأشار نسيرة إلى أن "فقهاء المسلمين العظام حرروا الدين من السياسية، ونفروا من (أيقنة) الحكم كما كان عند الخوارج، أو (أيقنة) السلالة والإمامة كما كان عند الشيعة، وكرسوا الدين بجوهره وروحه وأخلاقياته وعلومه، بعيدا عن الصراعات السياسية وحساباتها وانفعالاتها وتأثيراتها".
وأوضح أن "ظهور الإسلام السياسي كرد فعل على سقوط الخلافة العثمانية عام 1924، أعاد (الأيقنة) القديمة لمسألة الإمامة والحكم إلى سابق عهدها الأول، وأعاق اكتشاف المسلمين لتاريخيتهم، فالإسلام دين اكتشافي، يحث على المعرفة، على التعلم، على التواصل الحضاري، على التعايش، فكثير من الإشارات التي نجدها في النص الإسلامي المؤسس تدعو إلى ذلك وتحث عليه".
وخلص إلى القول "فهذه (الأيقنة) الحديثة اللاتاريخية التي صنعها الأستاذ البنا، وبعده المودودي، ثم سيد قطب، لا شك أنها كانت خطأ، وأنا في هذا لست إلا مكملا ومؤكدا ما انتقدهم به بعض الفقهاء، وأشرت إلى ذلك في كتابي الأخير (الإسلام المتخيل والنهضة المعاقة) كجهود وحيد الدين خان الذي كان رفيقا للمودودي، ثم فارقه وانقلب عليه، ورد عليه تفسيره السياسي للدين، وكذلك جهود الشيخ أبي الحسن الندوي، في كتابه (التفسير السياسي للإسلام)".
وعن تجليات التفسير السياسي للدين، لفت نسيرة إلى أن "ذلك يظهر بوضوح في أفكار وسلوكيات جماعات الإسلام السياسي التي ترى أنها هي الأحق بالحكم، لأنها هي الممثلة الوحيدة للإسلام، وأنهم هم أهل الحق والعدل، كما شاهدنا ذلك تاريخيا، وكما تجلى ذلك بوضوح في تنظيم الدولة الإسلامية، والتركيز على منطق الدولة والتمكين، وحصر الإسلام في السلطة والحكم بما يصاحبها من صراعات، وهو في تقديري أضر الإسلام كثيرا".
من جهته اعتبر الباحث في الفكر الإسلامي، الدكتور غازي العواودة "توصيف الجماعات الإسلام السياسي بأنها تتبع إسلاما متخيلا، غير الإسلام الحقيقي بأنه قول متعسف في حق فهم الجماعات الإسلامية، ودون فهم حقيقي واطلاع واقعي لما تحمله من فهم، أو ربما لما يحمله أصحاب هذه المقولة من ضغينة وحقد وحسد وكره لهذه الجماعات، خاصة بعد وصولها للحكم في مصر إبان الربيع العربي"، على حد قوله.
وتابع "أو لربما يكون محاولة لطمس وتغيير فهم الجماعات الإسلامية الشامل للإسلام، الذي تتبناه هي ومعظم المسلمين في الشكل القانوني والسياسي لدولة الإسلام، وشكل الإسلام عندما يحكم، وهو ما يتعارض جوهريا مع واقع العالمين العربي والإسلامي في شكل الحكم، وتطبيق الشريعة، وتداول السلطة والأنظمة الاقتصادية والتربوية والاجتماعية والسياسية".
وأردف في حديثه لـ"عربي21": "وربما يريد هؤلاء أصحاب هذه المقولة السعي لتغيير الفهم الأصيل للإسلام لدى الجماعات الإسلامية وعموم فئات الناس والباحثين خدمة للأنظمة القائمة، ودعما لاستمراريتها والمحافظة عليها، وربما يشكل دعما للدول الاستعمارية التي تسعى لحكم الطبقات السياسية والعلمانية في العالمين الإسلامي والعربي لتسهيل استمرار استنزاف خيراتها، وبقاء ضعفها لما تعرفه هذه الدول من قوى ذاتية في الإسلام، تدفعه لتحرير الأمة من ربقة الاستعمار وذيوله".
وأكد الباحث الأردني العواودة أن "الإسلام الذي تنادي به الجماعات الإسلامية، هو هو منذ سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية، ولم يتغير، وهو الفهم الإسلامي العام للإسلام من حيث شكل الدولة الإسلامية، فهي دولة مدنية (ليست دينية)، تعاقدية، دستورية، دولة مواطنة، دولة برلمانية، دولة تدوالية للسلطة.. وهذا الشكل للدولة يتعارض مع وجود الحكام والدول القائمة على الحكم المتوارث في الممالك والجمهوريات، ويتعارض مع مصالحها وارتباطاتها، وأغلب الحركات الإسلامية ترى هذا الفهم للإسلام في حياة الدول والشعوب".
وفي ذات الإطار، أبدى الأكاديمي والباحث المغربي، الدكتور فؤاد هرّاجة اعتراضه على التوصيف القائل بأن جماعات الإسلام السياسي تحمل إسلاما متخيلا، مؤكدا أنه "لو صح هذا التوصيف، لما كانت في طليعة المجتمع، ولا نالت قبول المسلمين في المجتمع، بل إن التفاف الشعوب عليها، وإقبال النخب على الانخراط في تنظيماتها، مرده بالأساس إلى اجتهادها في تمثيل الإسلام في أحسن صوره".
وتابع: "لكن الخلل الذي أصاب العاملين من أجل بعث الأمة الإسلامية، يكمن في ثلاثة مزالق أساسية: يتمثل الأول في ظهور إسلام الزهادة بدعوة الروحانية وتزكية النفس، فانتهى أصحابه إلى الزوايا والهروب من المجتمع، ويظهر الثاني في الإسلام الفكري الذي أغرق الأمة في تنظيراته الفكرية الرامية لإصلاح العقل المسلم، أما الثالث؛ فهو بيت القصيد الإسلام السياسي الحركي، الذي أسرف في حركة التدافع مع الأغيار على حساب الجوانب الأخرى".
ووفقا لهراجة، فإن ذلك راجع إلى أن أشياع الإسلام السياسي الحركي "اعتقدوا أن الحل الوحيد والأوحد لإصلاح الأمة، هو الحكم أو المشاركة في السلطة من أجل إصلاح المجتمع، والتمكين لتعاليم الإسلام، ما يعني وجود خلل في اختيار مداخل التغيير والإصلاح، كانت وراء صورة الإسلام المعروضة في المجتمع".
وإجابة لسؤال "عربي21" حول الحل المقترح لمعالجة ذلك الخلل وتجاوزه، لفت هراجة إلى أن "الحل الناجع لهذه المعضلة يكون بالتماس المنهاج النبوي، حيث التوازن في كل المجالات الروحية والعقلية والتدافعية، فالرعيل الأول من الصحابة رضوان الله عليهم، لم يغلبوا سمة على أخرى، بل لزموا الوسطية والاعتدال (رهبان بالليل، فرسان بالنهار)".
وانتقد حركات الإسلام السياسي بقوله؛ "إن موطن الداء عند الكثير منها، يكمن في اعتبار السياسة بمداخلاتها ومخرجاتها جوهر مشروعها، في حين أن السياسة لا يجب أن تمثل إلا جزءا من اهتمامها؛ فالإسلام هو دعوة ورسالة العالمين، ولا تشكل السياسة إلا جزءا من تعاليمه".
وأكدّ في ختام حديثه "أننا بحاجة ماسة إلى تصحيح تصورنا للإسلام بوصفه رسالة للإنسان، جاءت لتعرفه بربه وتخرجه من الظلمات إلى النور، قبل أن يكون دولة وحضارة، فاستحضارنا لمغزى الرسالة والدعوة كفيل أن يحرر حركات الإسلام السياسي من غلواء السياسة، ويعيدها إلى وظيفتها الأساسية وهي الدعوة إلى الله، عملا بقوله تعالى: {قُلْ هَٰذِهِۦ سَبِيلِي أَدْعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ}.
التصدي للتطرف الديني بين أسئلة الجدوى وابتذال المعالجات
ما الأصلح للإفتاء.. الالتزام بمذهب واحد أم التعددية الفقهية؟
التجديد من خارج المؤسسات الدينية.. هل يحقق مقاصده؟