في صراع طويل كالصراع مع العدو الصهيوني، تداخل الديني والوطني تداخلا كبيرا بحكم اختلاف القوى الفلسطينية والعربية في انتماءاتها الدينية (مسلم ومسيحي)، أو انتماءاتها الفكرية والأيديولوجية (إسلامي ووطني وقومي وماركسي) ما انعكس على القضية برمتها سلبا أو إيجابا.
ذلك التداخل على اختلاف تفاعلاته وتداعياته، يثير جملة من التساؤلات عن طبيعة العلاقة بين الديني والوطني في القضية الفلسطينية، إن كانت تكاملية أم تنافرية؟ وكيف أدارت مختلف القوى الوطنية الفلسطينية والعربية على اختلاف انتماءاتها الدينية والأيديولوجية ذلك الملف الشائك؟
وعلى مدار عقود الصراع مع العدو الصهيوني هل نجحت تلك القوى في اجتراح رؤى قادرة على احتواء ذلك التنوع والاختلاف، بما يخدم القضية المركزية عبر توظيف كل المكونات الوطنية، وصهرها في بوتقة العمل الوطني مع احتفاظ كل طرف بتوجهه الديني والأيديولوجي؟ وما الذي تحتاجه حتى تتلافى مواطن الخلل، وتكون قادرة على تجاوز كل المعوقات التي تعترضها؟
وفي هذا الإطار يلفت الكاتب والمحلل الفلسطيني، ساري عرابي إلى أنه "لم يكن في فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، ثمة فرز أيديولوجي في الساحة الفلسطينية، وكان الخطاب السياسي في فلسطين عموما يدور في دائرة أفكار الوحدة الإسلامية أو العربية أو الشامية، إذ لم يكن ثمة تبلور حاسم وحاد الملامح لقوى وطنية بالمفهوم الحديث".
ساري عرابي.. كاتب وباحث فلسطيني
وأضاف: "وفي هذا السياق لم يكن التنوع الفلسطيني، الذي هو صورة من صور التنوع في المشرق العربي، ليتناقض جوهريا مع التطلعات العامة للتحرر من الانتداب البريطاني أو مواجهة المشروع الصهيوني، باستثناء الفرز الديني تجاه اليهود الذين انعزلوا عن المجتمع الفلسطيني وشكلوا نواة المشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني".
وواصل عرابي حديثه لـ"عربي21" بالقول: "بعد النكبة أخذت تبرز أربعة تيارات فكرية: الوطنية الفلسطينية التي تمثلها حركة فتح، والقومية التي تمثلها حركة القوميين العرب، وبعض الأحزاب الممتدة عن البعث، واليسارية التي يمثلها الحزب الشيوعي، والتيار الإسلامي الممثل أساسا بالإخوان المسلمين وبدرجة ثانية حزب التحرير".
وتابع: "تحولت حركة القوميين العرب إلى الماركسية في صورتي الجبهة الشعبية والديمقراطية، وبهذا صار التيار اليساري يضم إلى جانب الحزب الشيوعي قوى ماركسية جديدة، في هذه المرحلة لم يكن ليظهر أي استقطاب ديني، كون الثورة الفلسطينية ذات طابع علماني، ولا سيما حركة فتح التي اتسعت لجميع الاتجاهات الفكرية، بينما بقي اليسار الفلسطيني حينها يتبنى خطابا غير قادر على التكيف مع معتقدات الشعب الفلسطيني".
وطبقا لعرابي فإن "التيار الإسلامي، بالجملة كان مشغولا بالدعوة والبناء الذاتي والتنظير الفكري دون أن ينعكس ذلك طائفيا، وإنما الخطاب الأيديولوجي أو الهوياتي اقتصر على نقد فكرتي العلمانية والماركسية، فهو صراع فكري وليس طائفيا".
وذكر أنه "مع تأسيس حركة حماس وانخراطها في العمل الوطني، تضاعف حضور الصحوة الإسلامية، بمعنى أن المقاومة باسم الإسلام صبت في رصيد الحضور الديني من حيث المظهر والجوهر، لكن ذلك أيضا لم ينعكس في أي صراع طائفي، كونه أولا لا توجد حساسية طائفية في فلسطين، وكون مسيحيي فلسطين لم يتبنوا موقفا انعزاليا عن عموم الفلسطينيين، فثمة حالة اندماج اجتماعي بمعزل عن التمايز الديني".
وأوضح أن "وضوح التمايز الديني في إطار الاندماج الاجتماعي ظل حاضرا لدى جميع الفلسطينيين بلا أي حساسيات طائفية، فالنظر إلى الحضور المسيحي في فلسطين من خلفية الحساسيات الطائفية في المحيط العربي يفضي إلى تصورات مشوهة عن طبيعة المجتمع الفلسطيني، ومن ثم لم تكن الحركة الإسلامية لتقدم أي خطاب هوياتي طائفي إذ ليس ثمة تحد ديني أو طائفي، ولا ضرورة اجتماعية لذلك".
وأردف عرابي: "كما أن الخطاب الأيديولوجي تراجع مع تراجع قوة اليسار الفلسطيني وتقلصه، فضلا عن كون فتح بالرغم من علمانيتها لا تتبنى خطابا معاديا للدين، فهي أقرب للحركة الشعبية منها للحركة العلمانية الصلبة، وهذا ما حصر خطاب الحركة الإسلامية في المنافسة السياسية الداخلية والصراع ضد العدو الصهيوني، إذ لم يكن ثمة تحد يستدعي خطابا هوياتيا أو أيديولوجيا".
وختم بالقول: "بينما المشكلات ذات الطابع الاجتماعي أو الهوياتي إن حصلت فتعالج بقدرها وفي حدودها دون أن تتحول إلى خطاب اشتغال عام، وذلك من خلال العمل الدعوي والفكري والميداني المحصور في حدود المشكلة، ومن خلال رموز أقل انغماسا في العمل السياسي والتنظيمي".
من جهته قال أستاذ العلوم السياسية، بالجامعة الهاشمية في الأردن، الدكتور جمال الشلبي: "يجب علينا أن ندرك في العالمين العربي والإسلامي أن شكل الأنظمة السياسية قد تغير، فنحن في زمن الدولة، وهو ما يعني أن الكيان السياسي يتكون من فسيفساء دينية واجتماعية وفكرية متنوعة ومختلفة، وهو ما يؤسس لقبول الآخر بغض النظر عن الديانات والأيديولوجيات، فالمصلحة الوطنية يجب أن تتقدم على أية مصلحة أخرى".
ولفت في حديثه لـ"عربي21" إلى أن "تجليات التدين وتمثلاته في الحالة الفلسطينية لم تكن تنزع إلى الصور المتطرفة والتكفيرية منه، بل كانت تمثل الحالة الوسطية المعتدلة، فحركة حماس قوة وطنية فلسطينية بخلفية دينية، قامت وتأسست لتحرير فلسطين ومقاومة الاحتلال الصهيوني".
وتابع: "كما أن حركة حماس لديها مرونة في التعامل مع التنظيمات الفلسطينية الأخرى، من أجل تحقيق الوحدة الوطنية، والقضية برمتها تحتاج إلى بعد نظر، إذ إنها بحاجة إلى أن تتضافر جميع الجهود الوطنية والقومية والدولية لتحقيق الغاية المنشودة، ولا ينبغي أن يكون التوجه الديني عائقا أمام بلوغ ذلك الهدف وإنجازه".
وحتى تكون العلاقة بين الديني والوطني تكاملية، لا تنافرية نبَّه الشلبي على ضرورة "اتفاق جميع القوى الوطنية والدينية الفلسطينية على تحديد الهدف، ألا وهو تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني، وكذلك تحديد الوسائل الممكنة، والتعاون والتنسيق بكل أشكالهما بين تلك القوى، مع ضرورة تحييد الصراع الأيديولوجي حتى لا يكون سببا في تشتيت الجهود، وذهاب القوة في صراعات داخلية".
ولفت الشلبي إلى أن "حدة الخلافات بين التنظيمات الفلسطينية على أساس أيديولوجي (ديني) تراجعت في العقدين الأخيرين، نظرا لانهيار الاتحاد السوفيتي في تسعينيات القرن الماضي، وانحسار المد الشيوعي الماركسي، ولنضوج بعض التنظيمات الفلسطينية ذات الخلفية اليسارية واستشعارها بضرورة توسيع ميادين النضال المشترك لمقاومة الاحتلال، كما أن بعض تلك التنظيمات أصبح لديها تواصل مع بعض الدول، وانفتحت على إيران التي قدمت نموذجا في الانفتاح على مختلف القوى لدعم خيار المقاومة".
بدوره رأى الباحث الإسلامي المغربي، الدكتور حمزة الكتاني أن من "واجب التنظيمات الفلسطينية على اختلاف انتماءاتها الدينية والأيديولوجية توحيد هدفها وغاياتها، ألا وهو تحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعلى رأسها القدس الشريف، وهو ما يجعلها تلتقي على صعيد واحد لتحقيق تلك الغاية، وقضية القدس هي محل اتفاق الجميع، يتفق عليها المسيحي والمسلم، واليميني واليساري".
حمزة الكتاني.. باحث إسلامي مغربي
وأردف: "وكذلك من الضروري توحيد سبل التحرير واسترجاع الأراضي المحتلة" مشيرا إلى أن "السبل السياسية أخذت حظها الوافر، بطريقة مهيمنة على الوسائل الأخرى، ولكن النتائج كانت إلى حد كبير سلبية، فلذلك لا ينبغي الاعتماد على السبيل السياسي كسبيل وحيد، بل ينبغي تبني كل السبل والخيارات المتاحة، بما فيها المقاومة المسلحة، على طريقة تبادل الأدوار وتوزيعها عبر الأذرع السياسية والعسكرية المختلفة".
وشدد الكتاني في حواره مع "عربي21" على ضرورة "توافق كل القوى والتنظيمات الفلسطينية على زيادة مساحات الوحدة والاتفاق فيما بينها، ولا يكون ذلك إلا بالتنازل عن بعض الخلافات السياسية، من أجل تضافر الجهود، لتحقيق الأهداف المشتركة، ومع ذلك كله تبقى العقيدة والدين بعيدة عن كل المساومات، مع احترام كل طرف للأطراف الأخرى".
ولفت في نهاية حديثه إلى أن الجدل الديني الصاخب الذي رافق اغتيال الإعلامية الفلسطينية، شيرين أبو عاقلة، ما كان ينبغي أن يقع، لأن الواجب استثمار ما حدث لتوحيد العمل النضالي لكشف جرائم الاحتلال، وبيان وجهه القبيح الإجرامي الدموي، والتعاطف مع الفقيدة أبو عاقلة، والذي هو محل إجماع واتفاق الجميع، في إطار المقاومة والنضال الوطني الذي تلتقي عليه جميع القوى والفصائل والتنظيمات الفلسطينية.
فوضى دينية تُظهر هشاشة المرجعيات وانكماش دور العلماء
في التأسيس المعرفي لثقافة المصالحة في الفكر العربي
"مجاذيب الصوفية" سلب للعقول في محبة الله.. ما حقيقة الظاهرة؟