مرت أسابيع على الضجة المفتعلة حول ما يسمى
الحوار الوطني ولم نر على أرض
الواقع شيئا إيجابيا ملموسا، فقد كان من المفترض أن تبدي السلطة بعض الاهتمام
لمطالب البعض ممن شاركوا في الحوار، وخصوصا مطلب الإفراج عن
المعتقلين السياسيين
أو الموقوفين بغير محاكمة منذ سنوات، ولكننا فوجئنا
بتصريح لوزير العدل نشر في الصحف يوم 19 تموز/ يوليو الجاري؛ يفيد بأن
العفو الرئاسي لا يشمل كل من لم يصدر بحقه حكم، وبالتالي فعشرات الألوف من
المعتقلين على ذمة قضايا خارج أجندة المناقشة في الحوار الوطني، وهذا يعني أن الجزرة
التي كان الجميع يتوقع الحصول عليها للتباهي بها أمام الرأي العام وإقناعه بضرورة
الحوار قد أخفاها النظام حتى حين.
ليس هذا فحسب، بل إن وزير النقل كامل الوزير، وهو جنرال عسكري لطالما
اصطحبه رأس النظام في جولاته وعنّفه تارة ومازحه تارات أخرى على الهواء مباشرة،
والذي بشر
المصريين بتحسين خدمة النقل العام وتعهد في 26 نيسان/ أبريل 2021 بتحسين
مرفق السكة الحديد (عاهدت
السيسي والشعب على تطوير السكة الحديد، وخطة محكمة لذلك)
والخبر منشور في
موقع مبتدأ التابع لأحد الأجهزة السيادية في مصر.. فاجأنا قبل
يومين وتحديدا في 24 تموز/ يوليو 2022 بقرار رفع أسعار خدمة السكك الحديدية بدءا
من شهر آب/ أغسطس المقبل، رغم أنه لم يقم بتطويرها، وغيّر استراتيجيته من تطوير السكك
الحديدية إلى إنشاء
خط مونوريل سيكلف الدولة المليارات (حوالي 26 مليار
دولار، أي ما يقارب نصف تريليون جنيه مصري).
الدلالة الرئيسية أن السلطة التي تدعو المختلفين معها إلى الحوار تفرض مزيدا من سياسة الأمر الواقع، فالحوار لن ينتج عنه الإفراج عن المعتقلين السياسيين
ما دلالة الخبرين الذي ذكرتهما أعلاه؟ الدلالة الرئيسية أن السلطة التي
تدعو المختلفين معها إلى الحوار تفرض مزيدا من سياسة الأمر الواقع، فالحوار لن ينتج
عنه الإفراج عن المعتقلين السياسيين الذين يراهم النظام أو مؤسساته الأمنية
والقضائية أنهم "لا معتقلين" و"لا سياسيين"، بل جنائيون وربما
مجرمون دون حتى إحالتهم للمحاكمة.
والدلالة الثانية هي أن النظام لا يعبأ لأنات المواطنين ولا لشكاواهم المتكررة من سوء الخدمات عموما ومن
خدمة السكة الحديدية على وجه الخصوص، وبالتالي فهو رغم الوعود المتكررة غير قادر
أو غير قابل لفكرة إصلاح هذا المرفق العظيم والرخيص نسبيا؛ لأنه لا يفكر في الشعب
بل يعتبر إدارة المرافق إدارة استثمارية يجب أن يتربح منها النظام. وهذا
غريب وعجيب في عالم إدارة الدول والمؤسسات الحكومية، إذ أنها لا تسعى إلى الربح،
ولذلك تسمى مرافق عامة أو خدمات عامة تنفق عليها الدولة من مجموع ما تحصله من
ضرائب يقوم بسدادها المواطنون؛ وليس منّة من أحد ولا تبرعا من مسؤول أو رجل أعمال.
هنا يبدو الخلاف كبيرا والهوة عميقة بين من دعا إلى الحوار ومن ظنوا أنه
سيكون حوارا جادا؛ تتوقف فيه السلطة عن اتخاذ المزيد من القرارات التي تصب المزيد
من غضب الشعب على نار الواقع المشتعل بفعل مواقف السلطة التي لا يراقبها أحد ولا
يحاسبها أحد، وهي ماضية في خطة صندوق النقد الدولي التي ستغرق البلاد في بحر
الديون، وهو بحر بلا شطآن متعدد الطبقات متلاطم الأمواج، كله ظلمات بعضها فوق بعض.
الحوار المزعوم لم يكن نابعا من ضمير سلطة تريد العودة إلى الشعب، بل هو نابع من عقل سلطوي ملتو مراوغ خبيث يتحين الفرصة لتصدير فكرة أنه نظام ديمقراطي كلما واجه أمواجا عاتية من النقد اللاذع خارجيا، ولكن وبعد أن تهدأ الأمواج والعواصف يعود سيرته الأولى
ما جرى يؤكد لك أن الحوار المزعوم لم يكن نابعا من ضمير سلطة تريد العودة
إلى الشعب، بل هو نابع من عقل سلطوي ملتو مراوغ خبيث يتحين الفرصة لتصدير فكرة أنه
نظام ديمقراطي كلما واجه أمواجا عاتية من النقد اللاذع خارجيا، ولكن وبعد أن تهدأ
الأمواج والعواصف يعود سيرته الأولى "حية تسعى"؛ لا تبالي إن لدغت شعب
بأكمله أو التهمت كل مصادر عيشه فلن يهتز لها جفن.
مضت الأسابيع وتجول رأس النظام ما بين السعودية وألمانيا وصربيا وفرنسا،
وعاد لنسمع المتحدث باسم الرئاسة يشير إلى أن العالم كان يرغب في الاستماع إلى
وجهة نظر مصر في ما يجري، وكأنه يطمئن الشعب بأن العالم المأزوم اليوم في حاجة
ماسة لنظام الحكم في مصر، وبالتالي فلن يضغط على النظام من أجل إرضاء بعض
المتحاورين "واللي مش عاجبه يشرب من البحر"، أو مما تبقى من مياه نهر
النيل.
كما كتبت في المقالين السابقين، فإن النظم المأزومة لا تفكر في الشعوب بل
تفكر في كيفية بقائها قابعة في السلطة، لا تفكر في
التغيير لأن التغيير يعني
زوالها أو زوال قبضتها الحديدية، ولكنها تفكر دوما في وضع آليات جديدة للاستمرار
وبشروطها حتى لو انهار كل شيء.
الوضع الراهن في البلاد لا يؤهلها للتحول الديمقراطي المنشود منذ ثورة 25
يناير (2011)، فلا النظام مؤهل أو مستعد لذلك، ولا الإقليم الذي نعيش فيه ولا
العالم الذي يقدم الدعم للنظام مستعدان لكي ينفرط عقد النظام لصالح الشعوب،
وبالتالي فالنظام مطمئن لذلك وتقوم استراتيجيته على ترسيخ وجوده لأطول فترة ممكنة.
ليس هذا فحسب، بل إن النظام العسكري الحالي يعمل ألف حساب لوقوع الأسوأ ويرتب
أوراقه بحيث يتمكن من مواجهة الأصعب وهو الثورة أو الغضب الشعبي، والذي يراه البعض
غير ممكن في هذا التوقيت.
فما الحل؟
في رأيي المتواضع فإن أي محاولة للانخراط في حوار مع النظام في الوقت
الراهن هي إضاعة للوقت والجهد ولن ينتج عنها أي إصلاح يرتجى، وذلك للأسباب التي
طرحتها ويعلمها الجميع.
ترك النظام يغرد وحيدا ويفتش تحت الأنقاض عمن يشاركه الحوار، والنتيجة أنه سيجد نفسه يعود إلى نقطة الصفر، وسيجد نفسه مضطرا للمضي قدما في مشروعه التدميري حتى يصل إلى نقطة تدمير الذات
هذا لا يعني أن نتوقف عن التفكير في حلول إيجابية لصالح الوطن وليس لصالح
النظام إلا إذا ظهرت منه بوادر إصلاح وتغيير حقيقية، وهذه مرهونة بإجراءات بناء
الثقة المتعارف عليها والتي لا نرى منها شيئا حتى الآن، بل على العكس نرى مزيدا من
العناد والإصرار على نفس النهج الأحادي والذي لن يتوقف إلا في حالة اصطدامه بحائط
صد كبير يوقف سرعته التدميرية ويقضي على نفسه بنفسه.
ترك أو إهمال النظام يمكن أن يكون جزءا من استراتيجية العمل المعروفة
بالمعارضة السلمية أو غير التداخلية (Passive opposition) على غرار
ما قام به غاندي في بعض فترات حياته السياسية، بمعنى ترك النظام يغرد وحيدا ويفتش
تحت الأنقاض عمن يشاركه الحوار، والنتيجة أنه سيجد نفسه يعود إلى نقطة الصفر،
وسيجد نفسه مضطرا للمضي قدما في مشروعه التدميري حتى يصل إلى نقطة تدمير الذات (Self-destruction).
ولحين ذلك فإن على المعارضة في الداخل والخارج أن تنكفئ على نفسها من أجل إعداد
مشروع بناء الدولة من جديد، وهذا ما سنتحدث عنه في المقال القادم إن شاء الله.