طوال قرون عدّة، ظلّ جزء كبير من العالم الإسلامي مسرح صراعات مذهبية عقدّية قوّضت ولا تزال وحدته السياسية والمجتمعيّة وعطّلت دورته الحضارية ومساراته التنموية. صراعات عقدية مذهبية تُبينها محاضن الجماعات الدينية المسلحة والخلاف السني الشيعي في كثير من الدول الإسلامية سواء بين الدول أو حتى داخل الدولة القطرية الواحدة. وقد تجلّت الصراعات العقدية في كثير منها في شكل صراعات سياسية أو مذهبية أو حتى حقوقية كما هو الشأن في دولة البحرين وفي منطقة الأهواز العربية ذات العقيدة السنية الخاضعة لسلطة جمهوريّة إيران الشيعية، ونفس النزاع قائم في كلّ من العربية السعودية وباكستان وأفغانستان. ويبقى المثال الأكبر على هذا التنازع العقدي السياسي قائما داخل العراق ولبنان واليمن.
وبالرغم ممّا تُخلفه النزاعات العقدية المذكورة من دمار بائن في النسيج المجتمعي فإنّ الوضع العقدي المعاصر يخالف في جوهره طبيعة العقيدة الإسلامية التوحيدية والوحدوية التي تنبذ نصوصها التأسيسية وتشريعاتها العنف والخلاف والاقصاء، بل إنّها تنسج أدوارا إيجابية في النفس والمجتمع والتاريخ، مثلما تدلل على ذلك الآية الكريمة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [البقرة: 208]، حيث فُسّر السّلم على أنّه الصلح والسّلام والإسلام.
ولئن نجحت الشعوب المسيحية في فرض معالجة سياسية لخلافاتها العقدية التي كانت القادح لتاريخ طويل من الصراعات الدموية بين كنائسها الكاثوليكية والبروتستانتية والتي بلغت أوجها في حرب "الثلاثين عاما" التي انتهت فقط بصلح "وستفاليا" الأوسع عام 1648 م، فإنّ المقاربات الإسلامية المقارنة لم تنجح بعد في رتق النزاع العقدي الطويل.
وعلى أهمية جهود التقريب المذهبي بين السنة والشيعة وجهود العديد من المفكرين لفهم المسألة العقدية والدينية عموما في إطار تجديدي من مثل ما قام به طه عبد الرحمن في كتابه "العمل الديني والتجديد العقلي" وعبد الكريم سروج في كتابه "بسط التجربة النبويّة"، إلا أن "مجمل هذه البحوث بقيت رهينة مستوى الظواهر التداولية والخطابية دون أن تغوص في البنية الأولية المجردة للعقيدة".
لفهم أعمق لمستويات الظاهرة العقدية والمذهبية، تنفرد "عربي21" بمحاورة الباحث الدكتور صالح الأعجيلي، الذي نشر مؤخرا كتابه ـ أطروحة الدكتوراه ـ "هويّة العقيدة الإسلاميّة: البنية الكليّة والبنى الجزئيّة"، والذي حاول خلاله "صياغة منوال نظريّةٍ للهويّة العقديّة الكلّيّة وصولاً إلى صياغاتٍ نظريّةٍ للهويّات العقديّة الجزئيّة".
والدكتور صالح الأعجيلي باحث بمركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية بتونس (سيراس)، حاليّا، وبمركز البحوث والدراسات في حوار الحضارات والأديان المقارنة بسوسة- تونس، سابقا، متحصّل على الدكتوراه في اللسانيات، وعلى الدكتوراه في أصول الدين. عضو بعديد المخابر البحثية والمنظمات العلميّة، شارك في عديد الندوات الوطنية والدولية، له عديد المقالات البحثية المنشورة وعديد المؤلفات المفردة والمشتركة. يشتغل حاليا على مجال اللسانيات الدينية وقضايا الفكر الإسلامي.
س ـ مرحبا دكتور، لنميّز بداية بين الهوية العقدية والهوية المجتمعية؟
ـ تهتمّ الهوية المجتمعية بالمشتركات بين الفرد والمجموعة التي ينتمي إليها، سواء كانت مشتركات قيمية أو مادية ويمكن أن تتقاطع هويات مختلفة مجتمعية في الفرد الواحد: هوية إثنية وأخرى سياسية وأخرى رياضية وأخرى ثقافية وأخرى طبقية وأخرى دينية أو مذهبية. وتُدرس هذه الهوية عادة في نطاق علم النفس الاجتماعي ولها أبعاد أنثروبولوجية ثقافية، بينما تمثّل الهوية العقدية مبحثا إيمانيّا (لاهوتيّا).
ثمة فرق بين الطرح اللاهوتي الإيماني وبين المقاربة النفسية الاجتماعية التي تدرس الهوية العقدية باعتبارها جزءا من الهوية المجتمعية فالأولى تهتمّ بعلاقة الفرد بالله من جهة التصوّر الاعتقادي وأثره في الحياة الأخروية والثانية تهتمّ بعلاقة الفرد بالمجتمع من جهة المشترك الاعتقادي وأثرها في الأداء المجتمعي الدنيوي.
س ـ طيب نأتي الآن إلى موضوع أطروحتك ـ الكتاب، هل يمكن تأسيس الهوية العقديّة على الاختلاف؟
الهوية مسار احتماليّ لا يتّسم بالثبوت الواحديّ. وتنتُجُ من تحليل عبارة "الشيء هو هو" هويّات متعدّدة: هوية المطابقة تُؤسِّس إلى الجمود والعنف والإقصاء، بينما هوية المشابهة تؤسّس إلى التنوّع والتفاهم والنماء والالتقاء، في حين أنّ الهوية التراتبيّة تؤسّس إلى النسبيّة من جهة التضمّن والإضافة والاحتواء.
الحضارات الغربية تبنّت هوية المطابقة فكان تاريخها إقصائيّا بشكل وحشيّ. وهذا النوع من الهوية الذي يعتبر الآخر جحيما وعدوّا يجب التخلّص منه كان بسبب الإرث التوراتي الذي يدعو صراحة لقتل الآخر وإفناء نسله وهو ما وقع حرفيّا من إفناء الحضارات الأصلية في أمريكا وأستراليا وأفريقيا وهو ما حاولوه مع الحضارة الإسلامية لكنهم وجدوا جذورا عميقة لا تُقلع.
على العكس من ذلك، تبنّت الحضارة الإسلامية الهوية المشابهة والهوية التراتبية واعتبرت الآخر ليس "هو" الذي نسعى إلى تغييبه بل "أنت" الذي نحرص على حضوره الحضاري. لقد أنشأ الإسلام دوائر هووية إنسانية وقبلية ودينية وأسرية وفردية. وتأصيل ذلك على التوالي: قال الرسول صلى الله عليه وسلّم: "كلكم من آدم وآدم من تراب" وقال الله تعالى" إنا جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" وقال في علاقة الأنبياء بأقوامهم الكافرين: "وإلى عاد أخاهم هودا" وقال تعالى: "إنما المؤمنون إخوة" وقال تعالى: "وأولو الأرحام بعضهم أولياء بعض" وقال تعالى: "إنّ إبراهيم كان أمة" ولذلك لا تزال الحضارات القديمة ولغاتها وأديانها قائمة في المنطقة التي فتحها المسلمون وتمتّعوا بالحماية والرعاية الرسمية والأهلية والدينية لأنهم في ذمة الرسول أي في حمايته.
لقد بحثتْ هوية المشابهة والهوية التراتبية التي أسّس لها الإسلام على المشتركات بين أتباعه والملل الأخرى وهي مشتركات تجاوزت البشر إلى سائر المخلوقات البيئيّة والكونية باعتبارها تشارك المؤمن في التسبيح بحمده تعالى: "وإن من شيء إلا يسبّح بحمده" ولذلك كانت الحضارة الإسلامية حضارة محافظة على التنوّع الإنساني لأنّ الاختلاف من آيات الله ومحافظة على البيئة والكون، لأنّ الطبيعة مشاركة له في الخلق وفي العبودية وهي معه في علاقة تسخير لا علاقة صراع كما هي في العقل الغربي، وإنّه حتى نعيش هذا العالم المختلف فلا بدّ من توزيع الذات الإنسانية العامة بين الأنا والأنت والهُوَ توزيعا يحقّق الاختلاف على شاكلة العالم المختلف لِنَراهُ.
س ـ إلى أيّ حد بقيت دراسات الهوية العقدية رهينة البحث في الظواهر العقدية دون أن تغوص في بناها وأسسها؟
ـ لعلي لا أكون مبالغا إذا قلت إن بحثي الأكاديمي لم يتوصّل إلى وجود مراجع تتناول الهويّة العقديّة من جهة بحثها في بنية الهويّة العقديّة الأوّليّة اللّغويّة المنطقيّة، بمنهجيّة لسانيّة ومنطقيّة. ونفرّق هنا جيّدا بين الكتب التي تناولت مضامين الهويّة العقديّة وتلك التي اهتمّت بالنظر في المناهج المتبّعة لتناول مضامين الهويّة العقديّة كما نفرّق داخل هذا الصنف الأخير بين من نظر في تلك المناهج بمناهج تقليديّة وبين من نظر فيها بمناهج حديثة ومعاصرة، لكن ما وجب التأكيد عليه أن مقاربتنا تفرّدت بسلك طريق مغايرة في دراسة الهوية والعقيدة وإنّ تـقاطعت في أحيان مع بعض الاستنتاجات أو الجزئيات في بعض الكتب سواء استصفاءً أو اتفاقًا؛ ذلك أننا اتخذنا آلية تفيد من الدراسات اللغوية والمنطقية الرياضية وإن كنا لا ندعي الإحاطة التامة بجميعها. إنّنا نعتبر ما طرحناه دراسة مخصوصة ذات انسجام داخليّ خاص.
س ـ ماهي حدود صياغةِ نظريّةٍ للهويّة العقديّة الكلّيّة؟
ـ إنّ البحث عن النواة الدنيا للعقيدة الاسلامية ودراستها مرحلة أساسية للنظر قُدُما في بنية العقيدة، وقد تبييّن لنا تأسّسها على المستويات. هذه المستويات تبدأ من التجريد وصولا إلى التعيين على أنها جميعا لها معنى وجوديّ فهي موجودة فعلا وليست كيانات عدمية، فالإمكان درجة في الوجود لا مقابل للوجود.
وتكمن طرافة بحثنا في إقامة البنية العقدية على مثال البنية اللسانية ضمن إطار نظريّ يدّعي وجود الدراسات العقدية ضمن نطاق الدراسة اللسانية مع الحفاظ على خصوصيات بسيطة. وقد دافعنا على أنّ البنية العقدية في مستوييها الأعلى والذي يليه مباشرة هي محتوى العقيدة في مرحلة الوَحدة الأصولية. وأشرنا إلى أنّ الوحدة في تَيْنِكَ المستويين قائمة على الفقر الدلاليّ والثراء الاحتماليّ وأنّ الوحدة إنما هي في بعض وجوهها تعدد إمكانيّ وأنّ الوجوب العقدي إنما هو وجوب في إمكان يحكُمُه الوسع على قدر الطاقة التصوّرية.
هذه الطاقة التصوّرية ـ التي تتأثّر بالعمر والبيئة الثقافية والإرث الحضاريّ والتجارب العقلية والمواهب الربّانيّة ـ تؤسّسُ المستويات المتبقية في تشكّل البنية العقدية وهي مستويات نازلة من الأعلى إلى الأسفل ومِن المجرّد إلى المتعيّن ومن المقولات النحوية إلى المقامات السياقية ومن الدلالات الذهنية إلى المقاصد الخطابيّة ـ تلك المستويات المتبقّية من تشكّل البنية العقدية تؤسّس إلى الاختلاف الفِرَقِيِّ في تاريخ الإيمان/العقيدة.
س ـ تعتقد كل واحدة من الطوائف والفرق الإسلامية قديما وحديثا أنّها على الحق الذي كانت عليه ملّة الإسلام المُوَحَّدة في عقيدتها وأنّ غيرها على باطل، كيف نحلّ هذه المعضلة؟
ـ هذه من المشاكل المعضلة في التاريخ الإسلامي فالهويّة العقديّة لملّة الإسلام رهينَة حديث مُجرَّح في المتن والسند فقد ساق ابن حزم أنّ أصل الحديث هو افتراق الأمة على نيف وسبعين فرقة وأنّ القول بأنّها كلها هالكة إلا واحدة زيادة موضوعة، وبيّن ابن حزم أنّ أصل الحديث نفسه ليس محلّ إجماع بصحته ولذلك تجنبه البخاريّ ومسلم لأنه ليس على شرائطهم، كما كان المدة الزمنية التي بقيت فيها الأمة موحّدة عقديّا هي الأخرى رهينة حديث آخر في خيريّة الزمان رواه الشيخان "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَتُهُمْ أَيْمَانَهُمْ، وَأَيْمَانُهُمْ شَهَادَتَهُمْ"، فقد انحصرت المدة في قرونٍ ثلاثة فُسّر فيه القرن تارة بالجيل من الناس وتارة بفترة زمنيّة محددة تساوي مئة عام؛ وذلك لِيُوَاطِئَ زمنُ هذا الحديث زمنَ طائفة مَا أو علَمًا مِن الأعلام لغايات مذهبية ضيّقة. وقد تعقّب هذا الحديثَ أهل التجريح ورأوا فيه من ظاهر التعارض في متنه لمتون أحاديث أخرى ما يوجب تخريج معناه على وجه يدرأ تعارضه مع غيره.
ومن المهمّ أن نذكّر أن الهداية والوصول إلى الصواب واتباع الصراط المستقيم والانتساب إلى الهويّة العقدية لملّة الإسلام ليست رهينة زمن بعينه مهما علا شأن ذلك الزمن بذاته أو بِمَن فيه، ذلك أن وجود الرسول الأكرم (ﷺ) لم يعصم أحدا من الضلال؛ فكم هم مَن قاتلوه (ﷺ)، كما أنّ غيابه لم يمنع أحدا من الهداية؛ فكم هم محبّوه وناصِرو دينِه بعد موته (ﷺ).
س ـ هل كانت التصوّرات العقديّة للمسلمين الأوائل على عهد الرسول واحدة؟
ـ إنّ الحالة العقديّة الإسلامية الأولى هي تأكيد على معانٍ قليلة وتسامح في التصوّرات العقليّة المختلفة بين الناس لبقيّة المسائل العقدية في إطار تلك المعاني القليلة. إنه مثال الصراط المستقيم الذي فسّره القدامى بأنه الطريق الواسع، فهو صراط يَسَعُ كثيرا من التصوّرات. ولا يمكن أن يعني الصراط ذلك التصوّر الغيبيّ الذي يصوّر الصراط ممرّا على جهنّم يتّسم بالدقّة والحدّة فهو أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف لأنّ هذا المعنى التصوّريّ التمثيليّ لا ندرك كنهه؛ إذ إنّ الصراط برغم ذلك التصوّر الغيبي يمشي عليه الناس مشيا مختلفا من كونه كالبرق إلى كونه حبوًا وهو ما لا يتناسب مع فهمنا العقليّ لمفهوم الدقة والحدّة.
لا نظنّ أنّ التصوّرات العقلية العقديّة للمسلمين الأوائل على عهد الرسول (ﷺ) واحدةٌ على مستوى التجريد أو على مستوى التجسيد. فتمثّلات بعض الأعراب قريبي العهد من العقيدة الوثنية المجسّمة، أو بعض أهل الكتاب وقد كانوا تشرّبوا تصوّرا معيّنا للإله، أو حتى تمثّلات كثير من الصحابة المقرّبين من الرسول من ذوي الاستعدادات العقليّة والتجارب الروحية السابقة عن الإسلام لم تكن واحدة، واستتباعا لا نحسب أنّ تلك التمثّلات هي واحدة عند المسلمين حتى بعد هذا الزمن الطويل من رسوخ الإسلام. إنّها تمثّلات مختلفة أقرّها الإسلام جميعا في إطار المعاني البسيطة الأولى للعقيدة الإسلامية وهي التوحيد والكمال الإلهيّ الذي ليس كمثله شيء والإيمان بمحمّد رسولا وبالقرآن منزّلا من عند الله؛ ذلك أنّ الإسلام هو الدين الذي يراعي اختلاف الناس في قدراتهم واستعداداتهم ومواهبهم وإدراكاتهم وأعمارهم وعوائدهم ومتعلّقاتهم وحضاراتهم وأزمنتهم وأحوالهم.
س ـ كيف تحوّلت العقيدة الواحدة إلى عقائد مذهبيّة وما هو الخطر المحدق؟
ـ نقرّ ابتداء أنّ اليقين في العقيدة مجاله ضيّق، أي أنّ المعاني العقديّة اليقينيّة محدودة وأنّ دائرة الإمكان في العقيدة واسع. فالنظريّة لا تحتمل كثرة المسلّمات المعطاة لأنّ كثرة المعاني المُحدِّدة للهويّة تجعل المنتسبين إليها قليل والعكس صحيح. فكلّما كانت الهويّة ذات معان قليلة إلاّ كانت أوسع وأكثر انتشارا، وهذا في المنطق معروف في حدّ المفاهيم ومصاديقها. فإذا اتسعتْ دائرة اليقينيات تحوّلتْ العقيدةُ الكلّية والنظريّةُ العامة إلى عقيدة جزئيّة ونظريّة خاصّة. والمعنى هو تحوّلُ عقيدة الدين إلى مذهبٍ لطائفة من أتباع ذلك الدين؛ وهذا ما عبّرنا عنه بوَحدة عقديّة وجوبية منتجة للإمكان.
إنّ هذا المسار من الدين إلى المذهب ومن العقيدة الكلية إلى العقيدة الجزئية هو مسار طبيعيّ في تشكّل الهويّات وبناء النظريّات، وإنّما المشكل الحقيقيّ هو في وضع بُنى عقديّة دنيا موضع بنى عقديّة عليا وهو أمر يخصّ المُعتقِد، كما هو ناتج عن تبنيّ احتمالاتٍ للبنية غيرِ وظيفية تُنتِجُها البنية بشكل مُفْرِط تماما كما تُنتج البنيةُ اللغويّة الأوّلية احتمالاتٍ مُفرطة غير وظيفية. فلئن كانت تلك الاحتمالات مُبرّرة من جهة البنية شكلا فإنّها معارضةٌ لها من جهة الوظيفة التداولية التي لها. وهذا هو الإشكال الواقع في الأدبيات الكلاميّة وغيرها.
تسمح اللّغة بالاستبدال الحرّ بين أنا ونحن من جهة تهوين اختلافات الهويات الفردية بهدف إيجاد مشتركات جماعية تعقد به بناء الجماعة؛ ورغم ذلك يبقى فضاء الاختلاف في نسيج الجماعة ثابتا يتحرّك فيه الإبداع الفردي اجتهادا وتأويلا وابتداعا، فتتعايش الحرّية الفردية مع الضرورة الجماعية، وتُديرُ به الهويّةُ الجماعية اختلافَ الهويّات الفردية.
س ـ هل اشتغلتم على اتجاهات عقدية معيّنة أم بقيتم في مستوى نظري خالص؟
ـ نعم، صحيح أنه لم يكن مِن مُتضمَّن هذا البحث النظر في كلّ هذه الاتجاهات ولكن متضمّنه أن يَنظر في التعدّد الاحتماليّ؛ فتناول ثلاثة نماذج من البنيات الجزئية العقدية: البنية الجزئية العقدية الكلامية والبنية الجزئية العقدية السلفية والبنية الجزئية العقدية الصوفيّة. وقد فصّلنا لكل اتجاه على حِدَةٍ معالمه الكبرى المخصوصة ورَبْطُناه بالبنية العقدية الأوليّة العليا للعقيدة المتّسمة بالثراء الدلاليّ الاحتماليّ والفقر الدلاليّ المعيّن وبالوسائل التي تُحوِّل تلك الاحتمالاتِ إلى تعييناتٍ وتلك المجرّداتِ إلى ملفوظات.
وكانت التفاصيل المتعلّقة بالهويّة العقدية لكل اتجاه محدّدة بالنظر في أشهرِ قضيّةٍ كلاميّةٍ اعتبرها أصحاب المقالات أمَّ المسائل الكلامية، وأنّ غيرَها من المسائل تبعٌ لها. وهذه القضية هي مسألة الذات والصفات وطبيعة العلاقة بينهما، وهو ما يتناسق مع اعتبار "الله" جل جلاله بؤرة الهوية العقدية الكليّة.
وكما هو معلوم ليست هذه كل الاتجاهات العقدية التي ذكرها الغزالي في "المنقذ من الضلال" و"الاقتصاد في الاعتقاد" وهي الاتجاهات العامة الخمسة لتناول العقيدة: الاتجاه الكلاميّ والاتجاه الفلسفيّ والاتجاه الصوفيّ والاتجاه الباطنيّ. والاتجاه السلفي.
س ـ في إطار الجدل المحموم على الهوية الإسلامية في كثير من البلدان الإسلامية كيف تنظرون إلى هذا النقاش الدائر، هويّة المشابهة أم هويّة المطابقة؟
ـ نظريا ما يصلح بالبلاد الإسلامية عموما هو هوية المشابهة حيث البحث عن المشتركات، لا هويّة المطابقة حيث البحث في الآخر عن الذات، كما يصلح بها الهوية التي ترى الآخر شرطا لقيام هويّتها. لكن من المهمّ ملاحظة أنّ الهوية الإسلامية يجب أن يتحلى بها الحاكم من جهة التخلّق بصفات الله مع البقاء في وضعه البشري فصفات الرحيم والعدل والحكم والسلام والرشيد والصبور والصادق في القول "ومن أصدق من الله قيلا" هي ما يجب أن تكون عليه هوية الحاكم الإسلامية، لكن الحاكم العربي يذهب دائما إلى تمثّل صفاتٍ إلهية تخصّ الله وحده باعتبار مقام الألوهية الذي ينفرد به دون سائر خلقه وهي الصفات التي توعّد الله من يحاول أن يشاركه فيها بأشدّ عقاب وأسوء عاقبة وتلك حال الحاكم العربي وذلك مآله على مرّ التاريخ ما سلك ذلك المسلك المشين في التشبّه بالله.
حوار حول الإسلام بين القرضاوي وجيل كيبيل والقديدي (1من3)