أفكَار

فكرة التنظيم عند إسلاميي المغرب.. الضرورة والآثار الجانبية

الشبيبة الإسلامية بالمغرب أسسها عبد الكريم مطيع برفقة إبراهيم كمال سنة 1969

لا يمكن قراءة التجربة التنظيمية لحزب العدالة والتنمية دون الرجوع بفكرة التنظيم إلى جذورها الفكرية المؤسسة، وتتبع تطورها التراكمي والعملي خلال هذا المسار الذي امتد لأزيد من خمسين سنة.

فما من شك أن فكرة التنظيم كانت فكرة مبدعة لبناء عمل إسلامي إصلاحي مستمر في الزمان والمكان يسعى لتحقيق مستويات متقدمة من الفعالية والنجاعة، فالعمل الجماعي المنظم كان الميزة الأساسية التي ميزت الحركات الإسلامية المعاصرة، ومنها حركة التوحيد والإصلاح التي خرج منها حزب العدالة والتنمية في سياق سياسي مطبوع ببعض التفاصيل التي سنعود لها لاحقا.

نحاول في هذا المقال تتبع المصادر التي استلهمت منها هذه الحركة تجربتها التنظيمية، وذلك عبر الرجوع إلى مكوناتها التأسيسية الأصلية والبحث في الجذور التي استوحت منها هذه المكونات فكرة التنظيم وكيف تطورت المسألة التنظيمية داخل حركة التوحيد والإصلاح، قبل النظر في الملامح الكبرى للتنظيم عند حزب العدالة والتنمية وقراءته قراءة نقدية على ضوء مجموعة من الملاحظات.

شيء من التاريخ

التحقيب التاريخي للمسألة التنظيمية يستلزم العودة ـ ولو بشكل سريع ـ للمكونات التأسيسية لهذه التجربة وكيف استقبلت فكرة التنظيم، ومن المعلوم أن حركة التوحيد والإصلاح هي بناء تنظيمي وحدوي بين حركة الإصلاح والتجديد (1992) التي تعتبر امتدادا للجماعة الإسلامية التي انفصلت عن الشبيبة الإسلامية سنة1981، بينما رابطة المستقبل الإسلامي التي تم الإعلان عنها سنة 1994 هي اتحاد لثلاث جمعيات كانت تشتغل بشكل مستقل عن بعضها البعض، وهي جمعية جماعة الدعوة الإسلامية بفاس 1974 والجمعية الإسلامية بالقصر الكبير 1976 وجمعية الشروق بالرباط 1985 التي تعتبر امتدادا لمجموعة التبين التي انفصلت عن الشبيبة الإسلامية سنة 1977.

وهو ما يستلزم البحث في جذور المسألة التنظيمية عند الشبيبة الإسلامية أولا، وعند باقي المكونات ثانيا..

الشبيبة الإسلامية

أسسها عبد الكريم مطيع رفقة إبراهيم كمال سنة 1969، وقد عرفت بقوة التنظيم في صفوف التلاميذ والعمال ورجال التعليم.

ويمكن القول بأن أصول فكرة التنظيم داخل الشبيبة الإسلامية مرتبطة بالمسار التكويني لمؤسسها الرئيسي عبد الكريم مطيع، الذي كان عضوا في إحدى خلايا المقاومة المسلحة للاستعمار الفرنسي في مدينة مراكش سنة 1953 (خلية المقاوم محمد بن إبراهيم المصلوحي الضرير ـ فرقة حمان الفطواكي ـ حسب ما أوردته جريدة الاتحاد الاشتراكي في عدد 22 يناير 2009م).

 

ومعلوم أن عمل المقاومة كان يتسم بالسرية التامة، وبالحذر والحيطة المفرطة إلى حد أن اعضاء الخلية الفدائية الواحدة أو الفرقة غالبا ما يجهل بعضهم بعضا، إذ حدود المعرفة الشخصية لا تتجاوز اثنين الى ثلاثة، أما على مستوى المهام فهي محاطة بالسرية والكتمان.

كما تميز عملها بكتابة المناشر وتوزيعها لاستنهاض الهمم ونبذ شبح الخوف وبث يقظة الوعي الوطني في نفوس السكان، والدعوة إلى مناهضة الاستعمار الفرنسي والتصدي لعملائه وأعوانه. 

 

يمكن القول بأن أصول فكرة التنظيم داخل الشبيبة الإسلامية مرتبطة بالمسار التكويني لمؤسسها الرئيسي عبد الكريم مطيع، الذي كان عضوا في إحدى خلايا المقاومة المسلحة للاستعمار الفرنسي في مدينة مراكش سنة 1953..

 



ومن المعلوم أيضا أن العمليات الفدائية كانت تخضع لنوع من التخطيط والتنفيذ التسلسلي المحكم، فهناك من يخطط للعملية، ومن يدبرها، وهناك من يدرس خريطة مكانها وتحديد وقتها، وهناك من ينتدب لتنفيذها، وهناك من يوصل السلاح أو أداة التنفيذ لنقطة العملية، وهناك من يراقب ويحرس، وهناك من يوضع احتياطا على أهبة التنفيذ، إذا ما حصل خلل ما، ونادرا ما يعرف بعضهم بعضا، بالإضافة الى أن كلا منهم يتخذ اسما حركيا او مستعارا للتمويه والتضليل عن اسمه الحقيقي.

وبعد الاستقلال التحق عبد الكريم مطيع بصفوف حزب الاستقلال وبعده الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي غادره سنة 1965، كما خاض تجربة نقابية مع الاتحاد المغربي للشغل من خلال رئاسته لنقابة مفتشي التعليم.

من خلال قراءتنا لتجربة الشبيبة الإسلامية التي دامت حوالي 12 سنة وتعرضت لهزة كبيرة بعد حدث مقتل القيادي الاتحادي عمر ابن جلون، يمكن القول بأن الثقافة التنظيمية التي رسختها هذه التجربة والملامح الأساسية للتنظيم عندها تأثرت بمرحلة المقاومة واحتفظت بأساليبها في العمل الحركي، كما تأثرت بالسياق السياسي العام الذي كان مطبوعا بالصراع مع نظام الحسن الثاني بعد فشل محاولات التوافق بين الحركة الوطنية والنظام السياسي، ونهج الأحزاب المنحدرة من الحركة الوطنية (الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية) لنهج المعارضة السياسية، التي نحى بعضها منحى عنيفا، ومن هنا فكرة سرية التنظيم وما يرتبط بها من مناورات من قبيل أسلوب ازدواجية القيادة (شخصيات تمثل واجهات معروفة وإخفاء رؤوس التنظيم)، إخفاء المعلومات، إعطاء معلومات مغلوطة قصد التضليل، توزيع المنشورات بشكل سري.

وحسب بعض المصادر فإن جمعية الشبيبة الإسلامية نفسها كانت مجرد واجهة قانونية أما التنظيم الحقيقي فكان تنظيما سريا يترأسه عبد الكريم مطيع كما يترأس إلى جانبه تنظيما خاصا هو الذي يعتبره البعض مسؤولا عن اغتيال عمر بنجلون، وهو الحدث الذي سيكون سببا في فرار عبد الكريم مطيع خارج المغرب سنة 1975، وتولي ما سمي بالقيادة السداسية زمام التنظيم لمدة سنتين، وهي القيادة التي تعرضت لاتهامات خطيرة من طرف عبد الكريم مطيع، وكشفت مرحلتها عن نوع من الازدواجية القيادية (إحداهما ظاهرة والأخرى خفية) وهو ما سمح خلال هذه المرحلة بشروع بعض المجموعات في بلورة قناعات وأفكار جديدة مهدت الطريق أمام تنظيمات جديدة، من بينها مجموعة "التبين" 1976 ، والجماعة الإسلامية 1981.

وقبل الانتقال لتسليط الضوء على فكرة التنظيم عند هاتين المجموعتين، كثيرا ما يثور السؤال حول القيادة السداسية ومن هم أعضاؤها وأين انتهى بهم المطاف؟

القيادة السداسية

بعد اغتيال عمر ابن جلون القيادي البارز في صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية تم توجيه الاتهام لعبد الكريم مطيع في شهر دجنبر 1975 بالتحريض على اغتيال عمر بن جلون، كما تم اعتقال الرجل الثاني في التنظيم آنذاك إبراهيم كمال وعدد من الأعضاء الذين توبعوا بتهمة القتل، بينما فر عبد الكريم مطيع إلى المملكة العربية السعودية. في هذه المرحلة جرى الاتفاق على تدبير شؤون التنظيم من طرف قيادة جماعية تتشكل من ستة أعضاء، وهم: أحمد بلدهم، نور الدين دكير، عبد الكبير بن الشيخ، منار عثمان، نايت لفقيه، عبد الرحيم السعداوي.

هذه القيادات الستة كان تقوم بتسيير العمل التنظيمي بتوجيه من عبد الكريم مطيع المقيم في الخارج، منذ شهر كانون الأول (ديسمبر) 1975 الى سنة 1977، حيث بدأت الخلافات بين قيادة الداخل وقيادة الخارج وذلك بسبب "الاتهامات التي بدأ يروجها عبد الكريم مطيع وهي اتهامات تطعن في نزاهتهم واستقلاليتهم"، فحسب بعض المصادر التي عاشت تلك المرحلة فإن عبد الكريم مطيع كان يتعامل مع القيادة السداسية باعتبارها "واجهة شكلية فقط بينما يتعامل مع خطوط أخرى غير معروفة، اقتناعا منه أن مسؤولو الواجهة معرضون للاختراق"، فاختارت القيادة السداسية التواري عن الأنظار واعتزال التنظيم، ليخلفهم بعد ذلك عبد الحميد أبو النعيم وبيرواين، بينما كان في واجهة التنظيم الحاج علال العمراني وادريس مهندس والشيخ زحل، حيث كان عبد الكريم مطيع يحرص على إبراز فئة المعلمين في الواجهة (العمل الدعوي والمساجد..) في الوقت الذي كان يسعى لإنشاء خطوط خلفية موازية، بحيث كان التنظيم يتشكل من واجهة ظاهرة وخطوط سرية.
 
وحسب مصادر قيادية، فقد بدأت ملامح توجه لتنظيم خاص تظهر خاصة مع صدور مجلة "المجاهد" في الوقت الذي ربط فيه عبد الكريم مطيع علاقات مع نظام القذافي في ليبيا ومع السلطة الجزائرية التي كانت في علاقة متوترة مع المغرب آنذاك.

وبسبب هذه الازدواجية سرعان ما سيدخل التنظيم في اضطراب وارتباك، مما سيؤدي بتجميد عدد كبير من الأعضاء لعضويتهم، وانطلاق الإرهاصات الأولى للمراجعات الفكرية والتنظيمية والسياسية.

كما كان من نتائج الاتهامات التي وجهت للقيادات الستة، اختيارهم العزلة عن التنظيم وعدم التحاقهم بأي من التنظيمات التي كانت في الساحة أو التي تشكلت فيما بعد.

وقد رحل منهم اثنان إلى دار البقاء وهما عبد الكبير بن الشيخ، الذي أسهم في بناء التنظيم بمدينتي الرباط وسلا، سنة 1973م، وبعد الخلاف مع عبد الكريم مطيع اختار الهجرة إلى الديار البلجيكية، واستقر بمدينة بروكسيل، حيث اشتغل بالدعوة الإسلامية، حتى وافته المنية بسبب مضاعفات صحية يوم 7 أكتوبر 2020.

كما توفي أيضا نور الدين ذكير الذي كان من مؤسسي العمل التنظيمي للشبيبة بالرباط والتحق فيما بعد للعمل في أسلاك الوظيفة العمومية.

 

رغم التواصل الفكري الذي كان مع أدبيات الإخوان المسلمين في تلك المرحلة، ولا سيما من خلال كتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب، والذي أعاد علال الفاسي طبعه في مطابع الرسالة بالرباط، فإن الراجح أن فكرة التنظيم داخل الشبيبة الإسلامية، تبقى في نظرنا فكرة محلية أساسا، تأثرت بالبيئة المغربية والظروف السياسية السائدة آنذاك.

 



والخلاصات الأساسية من هذا الاستطراد التاريخي لاستعراض فكرة التنظيم عند الشبيبة الإسلامية وأبرز ملامحها يمكن إجمالها فيما يلي:

أولا ـ لقد تأثر النموذج التنظيمي للشبيبة بالسياق السياسي المطبوع بالتوتر بين أحزاب الحركة الوطنية والنظام السياسي، وبالثقافة السائدة آنذاك والمطبوعة بمناخ ضعف الثقة في السلطة السياسية والحذر من أساليب الاختراق والاحتواء، فقد كان عبد الكريم مطيع عضوا نشيطا في حزب الاتحاد الوطني للقوات للشعبية الذي عاش ظروفا صعبة في تلك المرحلة، وعاش محنة سنة 1963 حيث تم اعتقال القيادي الاتحادي الفقيه البصري ضمن الاعتقالات الجماعية في صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وقد توفى عدد منهم تحت التعذيب وكانت التهمة الموجهة إليهم هي "المس بالأمن الداخلي"، دون أن ننسى أن اغتيال المهدي بن بركة تم في سنة 1965، وقد أثر هذا الاغتيال في المناخ السياسي السائد آنذاك وطبعه بالمزيد من التوتر والصراع.

وفي هذا السياق أيضا يمكن قراءة الرسالة الشهيرة، التي نشرتها أسبوعية لوجورنال في سنة 1999 والتي كان الفقيه البصري قد بعث بها إلى رفيقه في التنظيم عبد الرحمان اليوسفي يكشف فيها عن ضلوع قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في محاولة انقلابية خلال السبعينيات.

حيث جاء في الرسالة المنسوبة للفقيه البصري: "في أوائل سنة 1972، أو أواخر 1971 قدم الأخ عبد الرحيم بوعبيد الأمين العام للاتحاد الاشتراكي ليعرض علينا نحن الثلاثة: عبد الرحمان اليوسفي، المهدي العلوي، وهو أحد قادة الاتحاد الاشتراكي سابقاً وأنا، مشروعا لاستلام الحكم، اتفق عليه هو والجنرال محمد أوفقير وادريس السلاوي، مستشار الملك الحسن الثاني، على أساس مساهمة الحزب بالسادة: عبد الرحيم بوعبيد، عبد الرحمن اليوسفي، حسن الأعرج، في تشكيل سلطة جديدة بعد الإطاحة بالحكم..." كما تكشف نفس الرسالة عن اتصالات الفقيه البصري مع بعض الضباط الصغار لنفس الغاية..

إذن لا يمكن فصل الثقافة السياسية والتنظيمية لعبد الكريم مطيع عن هذا السياق المشحون.

ثانيا ـ إن مفهوم سرية التنظيم يجد أصوله في خلايا المقاومة، هذه الخلايا التي ارتبطت بالحركة الوطنية المغربية في مواجهة الاستعمار الفرنسي، وسيتم استدعاء هذا المفهوم بعد تأسيس التنظيمات المرتبطة بعبد الكريم مطيع، وذلك في سياق الصراع مع النظام السياسي خلال منتصف الستينيات، وقد كان لهذا النوع من التفكير انعكاسات سلبية جدا، سواء من جهة العلاقة بين النظام السياسي والأحزاب الوطنية، أو من جهة التأثير على عنصر الثقة بين الأعضاء فيما بينهم وسيادة الشكوك فيما بينهم، فضلا عن آثاره التربوية والسياسية التي سنقف عليها فيما بعد.

ثالثا ـ رغم التواصل الفكري الذي كان مع أدبيات الإخوان المسلمين في تلك المرحلة، ولا سيما من خلال كتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب، والذي أعاد علال الفاسي طبعه في مطابع الرسالة بالرباط، فإن الراجح أن فكرة التنظيم داخل الشبيبة الإسلامية، تبقى في نظرنا فكرة محلية أساسا، تأثرت بالبيئة المغربية والظروف السياسية السائدة آنذاك.

رابعا، من خلال ما سبق، يتضح أن تنظيم الشبيبة أخذ بناء عموديا استند على تنظيم الخلايا في الأحياء والمناطق، واعتمد على التمييز بين العمل العام القائم على الدعوة في المساجد من خلال دروس الوعظ والإرشاد، وعلى التنظيم السري الذي كان نشيطا في توزيع المنشورات المعارضة للنظام السياسي..


ورغم تواري القيادة السداسية بسبب الحملة التي شنها عليهم عبد الكريم مطيع من الخارج كان التوجه العام هو البقاء معه باستثناء بعض الأفراد في الرباط وفاس الذين اتخذوا موقف " التبين " من هذه الاتهامات..

في الحلقة القادمة نسلط الضوء على تطور فكرة التنظيم داخل مجموعة التبين التي تشكلت في البداية من طرف 25 عضوا من أعضاء الشبيبة الإسلامية واجتمعت في سنة 1976 بمنزل الأستاذ عبد اللطيف السدراتي بهدف واحد هو رأب الصدع بين عبد الكريم مطيع والقيادة السداسية، قبل أن تتحول إلى تنظيم  فتي بأفكار ومواقف جديدة خاض غمارها مجموعة من الشباب..