إنّ حلقة
توفيق حلاق في برنامج الذاكرة السورية على
تلفزيون سوريا مثيرة وثريّة، ولها لطائف
وفوائد في رسم صورة الديناصور الذي حكم سوريا نصف قرن، ورسم صورة المجتمع الذي كان يلوذ ببرنامجه.
قحطت أوروبا
وأمريكا فجفّت الأنهار وظهرت آثار ديناصور في نهر كولورادو، وفاضت أنهار الدماء في
سوريا، فظهرت آثار ديناصور في سوريا! ومن غرائب الأمصار وعجائب الآثار أن تستخدم
الآثار وحطام المدن السورية للتصوير السينمائي، وهو يشبه أن يبيع أهل الميت جثته
لتجار الأعضاء البشرية.
وكان
حلاق مذيعا رائداً في مجاله ومضماره، مثل رائد الفضاء محمد الفارس. صعد رائد
الفضاء السوري الوحيد محمد الفارس إلى الفضاء بصحبة السوفيات ومعونتهم، وصعد توفيق
الحلاق في الإعلام بمركبة برنامجه التلفزيوني من تحت الأرض. كان صاحب أول عروج إعلامي
من مجرة درب الجبّانة من تحت الركام، واشتهر في حلقة الصبية السورية المقيدة
بالأغلال والحديد، واسمها يسرى، في برنامجه الشهير "السالب والموجب"،
والعنوان يجانبه التوفيق، فاسمه اسم كهربائي، علمي.
شاع البرنامج
واشتهر، وكان في بياضه اسوداد، فهو برنامج يراعي شروط النظام الإعلامية القاسية،
وكان له نظّارة ومنتظرون. كانت أول صورة إعلامية لمجتمع بلاد العميان، وقد روى حلاق
في الجزء الأول من لقائه في الذاكرة السورية "ترجمته" وبضعاً من سيرته
وأخباره، وهي سيرة يمكن التقاط بعض الآثار منها لرسم صورة الديناصور السوري.
وليت
توفيق حلاق احتفظ بصور من الحلقة أو اجتهد معدو "الذاكرة السورية"
واتصلوا مع يسرى إن كانت على قيد الحياة، بعد مرور هذه السنين، أو معرفة مصيرها
وخبرها، وموجب سيرتها وسالبها. وقد ذكّر الرائد توفيق حلاق بالرائد محمد الفارس
رائد الفضاء السوري، وكان توفيق الحلاق أسعد حظاً منه في سوريا، أما محمد الفارس
فقد لاقى مصيراً يشبه مصير يسرى، وسميّت الحدائق والمنشآت باسم قرينه رائد الفضاء
الخائب السالب منير حبيب!
كان
اللقاء بالأسد حظوة ومنزلة ليس لها مثيل ولا ينالها إلا كل ذي حظ عظيم، والمكرّمون
بصحبته أو مصافحته ضربان: ضربٌ يؤثرهم
الأسد بصورة تذكارية معه فيعلقونها تميمة في
بيوتهم ومكاتبهم، تقيهم البأس ويفتحون بها الأبواب المغلقة، ويقتحمون بها السدود الكتيمة،
وضرب يبخل عليهم بالصورة فيباهي بالزيارة شفاهاً، فلا يصدقه إلا القليل.
بهرتنا
حلقة يسرى وهي صبية قيّدها والدها بالحديد وحجبها عن الناس، فعلمنا أنّ دمشق مدينة
مثل المدن الأخرى، وليست مدينة فاضلة، وبها ظالمون ومظلومون. حوّلت توفيق حلاق إلى
معتصم جديد، فقد أنجد صبية من الأسر وأنقذها بدهائه وكيده. وكان بطلها الأول بائع أعمى
يكنّى أبا محمود كما روى للذاكرة السورية. وقد أسرّ أبو محمود لتوفيق حلاق بسرِّ
الصبية الأسيرة الممثل داود يعقوب، وذكرها لحلاق من وراء البرزخ، كما في
قصص ألف
ليلة وليلة. وكان البائع الأعمى قد ارتاب في نقصان القضامة (حُمّص محمّص) من
القارورة، فكمن للّص في الليل، فسمع صوت خشخشة، وأطبق بيده على اليد التي تسللت في
الظلام من حفرة في الحائط فإذا بها يد الفتاة الأسيرة الجائعة!
هذه
قصة صالحة لفيلم سينمائي من أفلام العميان، حكاية تذكر بفيلم أمريكي شهير اسمه "عطر
امرأة"، أو بقصة هـ. ج. ويلز "بلد العميان".
شرّف
حافظ الأسد توفيق بلقاء طويل في القصر، امتد إلى ساعة ونصف، فحصه الحارس عناقا بتلمّسه
من الأعلى إلى الخصر، وهي طريقة حرس الأسد في تفتيش ضيوفه المكرمين عن جنب وهم
يشعرون، بينما مثل الأسد دور الزاهد المتبتل في القصر، وحضّه على العمل وكشف
الأخطاء من غير قيد ولا شرط. لكن الحلاق سيجد أنها خدعه، وأنه ممنوع من العمل، فالأسد
كان ممثلاً أبرع من مارلون براندو.
ووقف
الحلاق على مصداق النظرية التي حكم بها الأسد سوريا: "هو كويس بس اللي حواليه.."،
وكان الأسد قد عيّن حوله ألدَّ الناس وأكيدهم. وهي نظرية كان خطباء المنابر في
المساجد يذكرونها في خطب الجمعة: اللهم ارزقه البطانة الصالحة، وكأنّ البطانة
الصالحة تهطل مع المطر في السماء ولا يختارها الأسد ويصنعها على عينه.
كانت أول
قصة صحافية سوريا نسمعها في أوائل الثمانينيات، فسوريا كانت يوتوبيا، برامج
تلفزيونها سعيدة مقسمة على أيام الأسبوع: مع العمال، أرضنا الخضراء، برامج الشبيبة
والطلائع والشرطة في خدمة الشعب، وعلاء الدين الأيوبي؛ كولومبو سوريا ومرشدها
الروحي يقابل اللصوص التائبين، ومجلة التلفزيون الترفيهية، التي تعرض بعض أخبار
الفنانين، ونبذة عن فيلم الأسبوع، وبعض الرقصات والفقرات الكوميدية.
أين
الشعب؟ لن تجد الشعب في التلفزيون السوري.
لم
يكن الصحافي السوري يبذل جهد كبيراً كما في الدول التي تنعم بحرية الصحافة أو
ببعضها، وتقتضي من الصحافي البحث والتحري، فالناس تهرع إليه للشكوى. وقد روى كيف
كان يختار موضوعات حلقاته، فمعظمها من رسائل الناس الذين كانوا يستغيثون به، وقد استغاث
به سكان عمارة هدمها "اللي حواليه" في مركز مدينة دمشق، فحاول أن يلتقي
بالرجل الثاني في سوريا محمد مخلوف (خال أولاد الرئيس)، انتصارا للمظلومين الذين
اغتصبت عمارتهم.. وكان الأسد قد أوصاه أن يتصل به إن حزبه أمر، وأوصى محمد مخلوف
من جهة أولى أن يمنع الناس من الوصول إليه، ووجد رائد الفضاء السوري الأرضي الطريق
إلى الرئيس مسدوداً، وممنوع ظهور "ابن البلد".
وابن
البلد اسم برنامج أعدّه تعريفا بعلماء سوريا ونوابغها، فليس سوى ابن بلد واحد هو
الرئيس، بل ممنوع أن يكون البلد بلداً. كان برنامج ابن البلد هو الثاني للحلاق على
أنقاض السالب والموجب.
يقول
الحلاق إنَّ السالب والموجب عطل وأعيق ثم اغتيل، وإنّ النظام جاهد في تشويب لبن
البرنامج بماء آسن، وحاول دسّ حفلات عليه وتحويله إلى عرس. سوريا ليس فيها سالب،
هي موجب فقط.
الشعب
السوري هو الأعمى أبو محمود، وسوريّا هي يسرى الأسيرة التي لم نعرف مصيرها.
twitter.com/OmarImaromar