كتاب عربي 21

تأخرت كثيرا يا شيخ

1300x600
أخيرا صرح الشيخ راشد الغنوشي لموقع "الجزيرة نت" بأنه "عازم على التخلي عن رئاسة حركة النهضة في مؤتمرها القادم، ولن يجدد ترشحه". أعلن ذلك بكل وضوح لأول مرة، متخليا عن أسلوب المناورة التي كان يستعمله من قبل ليهرب من الجواب، وحتى يترك الباب مفتوحا أمام نيته في البقاء على رأس الحركة.

وبهذا الإعلان يكون الغنوشي قد فتح الباب أمام تغييرات قد تكون هامة داخل حركته، أو أن تكون بمثابة الرجة الأخيرة التي بعدها يبدأ البناء بالتفكك والسقوط.

اللافت للنظر أن هذا الإعلان لم يحدث ردود فعل شعبية وسياسية، تعاملت معه جميع الأطراف الحزبية والإعلامية ببرود كخبر عادي تجاوز زمانه وفقد أهمية. لو تم اتخاذ هذا القرار بعد عودة الغنوشي من المنفى خلال الأسابيع الأولى من سقوط رأس النظام لتغيرت أشياء كثيرة داخل حركة النهضة وفي تونس، لو أقدم على هذه الخطوة عند انعقاد المؤتمر العاشر لمنح حركة النهضة فرصة لإخراجها من المنحدر العميق الذي وقت فيه، وربما قامت بتصحيح مسارها وتغيير سياساتها، لو فعلها قبل أن يلقي بنفسه في جحيم رئاسة البرلمان ويدخل في نزاع مباشر مع الرئيس سعيد حول من يحكم ومن يقود، ولتجنب سياسة الترذيل الذي تعرض لها من خصومه وفي مقدمتهم عبير موسي، وهو ما وفّر فرصة ذهبية لرئيس الدولة حتى يقلب الطاولة على الجميع، ويغير قواعد اللعبة جذريا وينهي أسطورة النهضة التي لا تقهر.
بهذا الإعلان يكون الغنوشي قد فتح الباب أمام تغييرات قد تكون هامة داخل حركته، أو أن تكون بمثابة الرجة الأخيرة التي بعدها يبدأ البناء بالتفكك والسقوط

أخيرا، لو استقال الغنوشي بعد 25 تموز/ يوليو من رئاسة الحركة، وأصدر بيانا اعترف فيه بأن المرحلة الجديدة تستوجب مراجعات وسياسات بديلة وقيادة شابة، لأعطى فرصة مهمة لاحتمال قيام جبهة سياسية واسعة ضد السلطة القائمة، ولأدى ذلك إلى ميزان القوى مختلف في البلاد.

توالت تلك المحطات تباعا، والرجل ثابت في موقفه، متمسك بموقعه، واثق من اختياراته، رافض الاستماع لنصائح المخلصين له، مستعد للتضحية بالعديد من أبنائه ومساعديه الذين دافعوا عنه طيلة مسيرته وأخلصوا له في المنعرجات الصعبة، وقدموا في المقابل تضحيات عالية، لكن الكثير منهم انتهى به المطاف إلى الانسحاب والاستقالة والتشرد السياسي والتنظيمي بسبب الخلافات المزمنة مع الزعيم القائد. ومع كل محطة تمر وكل فرصة تضيع يضيق المجال، ويتعقد الطريق، وتزداد عوائق التصحيح والإنقاذ، وتتسع المسافة بين الحركة والمجتمع بشكل تراجيدي، حتى أصبحت الحركة من وجهة نظر الكثيرين بمثابة العبء الذي تجب "إزاحته والتخلص منه" لفتح المجال أمام احتمال حصول تغيير شامل وعميق في البلاد.

كان بورقيبة يردد أن القائد أو الزعيم إذا فشل في تحقيق الأهداف التي وعد بها حزبه أو شعبه لن يرحمه التاريخ، وقد كان هو أول من شمله هذا القانون القاسي، حين أراد أن يبقى مدى الحياة في القصر الرئاسي رغم الإنجازات الهامة التي قدمها للتونسيين والتونسيات. ثم تكرر السيناريو مع خلفه الرئيس ابن علي الذي اضطر لمغادرة البلاد ودفن في مقبرة البقيع؛ عندما طال استبداده وعناده وأغرته السلطة حتى أعمته.
كيف ستكون الملامح المستقبلية لحركة النهضة بدون مؤسسها راشد الغنوشي؟ ستحمل الأسابيع والأشهر القادمة الإجابة عن هذا السؤال. لكن المؤكد أن الانتقال القيادي لن يكون سهلا، فمكانة الرجل في أوساط أنصاره وازنة، ولا يمكن الاستهانة بحالة الفراغ الذي سيتركه خلفه

حكمة القيادة تكمن في حسن التقاط لحظة الانسحاب من المسؤولية، سواء بحكم عامل السن، أو استجابة من القائد لحاسته السادسة التي تشعره بأن لحظة الانسحاب قد حانت، وأن ساعة تشبيب القيادة قد دقت، وأن عليه أن يساعد على تحقيق التداول الفعلي على الرئاسة والزعامة حتى يجنب الحركة الوقوع في صراع الأبناء على السلطة والنفوذ، ويدفع بهم نحو تدمير رأس المال البشري الذي تم تجميعه بمشقة وتضحيات عالية الكلفة.

الآن، كيف ستكون الملامح المستقبلية لحركة النهضة بدون مؤسسها راشد الغنوشي؟ ستحمل الأسابيع والأشهر القادمة الإجابة عن هذا السؤال. لكن المؤكد أن الانتقال القيادي لن يكون سهلا، فمكانة الرجل في أوساط أنصاره وازنة، ولا يمكن الاستهانة بحالة الفراغ الذي سيتركه خلفه. كان الرجل شخصية محورية تجمع بين الأبوّة والقيادة العنيدة والجسر بين مختلف المجموعات المتنافسة والمتصارعة داخل الحركة، والعنصر الجامع بين أجيالها. إذ بقي طيلة المرحلة السابقة يحتكر أدوات النفوذ الأساسية في جماعة أو حزب ذي تنظيم مركزي حاد، رغم الجرعات المتتالية من الممارسة الديمقراطية التي حقن بها الحزب عبر مراحل.
ما تجدر الإشارة إليه أن حركة النهضة اليوم أصبحت أضعف بكثير مما كانت عليه قبل سنوات قليلة؛ حركة مرهقة، ومقسمة، يتقاذف قادتها مسؤولية الانهيار والفشل، وهي في حاجة ملحّة لوقفة تأمل قد تساعدها على القيام براجعات جديدة وعميقة

إنه الصندوق الأسود للحركة، يحتكر المعلومات الأساسية، وبقي القناة الرئيسية التي عبرها يحتكر لفترة طويلة التدفقات المالية وصرفها على مختلف نشاطات الحزب بما في ذلك أجور مختلف الكوادر المتفرغة داخل التنظيم. كما أنه يشكل الواجهة الرئيسية لعلاقات الحزب الداخلية والخارجية، فهو بحكم شخصيته القوية يقترب من حيث الأدوار -مع اختلاف السياقات والأوزان والظروف- من زعماء كبار في مستوى ياسر عرفات؛ الذي بقي يخنق حركة فتح ويمسك بجلابيب منظمة التحرير إلى آخر نفس في حياته.

ما تجدر الإشارة إليه أن حركة النهضة اليوم أصبحت أضعف بكثير مما كانت عليه قبل سنوات قليلة؛ حركة مرهقة، ومقسمة، يتقاذف قادتها مسؤولية الانهيار والفشل، وهي في حاجة ملحّة لوقفة تأمل قد تساعدها على القيام براجعات جديدة وعميقة. حركة تفتقر بعد الغنوشي لشخصية قيادية وازنة تكون قادرة على ترميم صفوفها وتجميع الحد الأدنى من كوادرها، وتشبيب صفوفها، وإعادة الحماس لأبنائها، وترميم ثقة الأنصار فيها.

والسؤال الكبير والمزعج للنهضويين وأصدقائهم: إلى أي مدى ستنجح الحركة في الحفاظ على رص صفوفها؟ أم أنها متجهة حتما نحو التفكك والانقسام بعد أكثر من نصف قرن من الوجود؟