دخل العراق منذ تسعينيّات القرن الماضي في
دوّامات وعواصف مُهلكة وغاضبة كلّما هدأت واحدة عادت أخرى أشدّ وأقسى، وكأنّ قدر
العراقيّين ألا يعرفوا الراحة والاستقرار والأمان الجسديّ والفكريّ.
وعندما نتمعّن الساحة العراقيّة ببعض
التركيز يُمكننا أن نُحدّد بالعموم، وليس بدقّة، بعض منابع الخراب الظاهرة
والخفيّة كونها مؤامرات مُتداخلة ومُركّبة (ومحميّة بالقانون غالبا)!
وتتمثّل مشكلة العراق الأساسيّة بزيف ادّعاء
وجود ديمقراطيّة في بلاد تنهشها عصابات طالحة كانت بالأمس تقتل وتسرق علانية،
واليوم ترتكب جرائمها بدهاء وخفاء وتحت مظلّة القوانين النافذة!
وهذا الحال المُعتلّ لم يمنع غالبيّة
السياسيّين من تزييف الحقيقة والقول إنّ العراق يتمتّع بديمقراطيّة "مثاليّة"!
والواقع أنّنا أمام خرافة كبيرة تُطبّق وفقا
لمبدأ "اكذب اكذب حتّى يُصدّقك الناس"!
ويُمكن، جدلا، القبول بفرضيّة وجود
ديمقراطيّة، ومشاركة شعبيّة يُمثّلها "برلمان مُنْتَخَب"، لكنّ الوقائع
لا تتّفق مع هذه الأطروحة التي ولدت ميْتة نظرا للوعي الشعبيّ المُتفهّم لزيف الشعارات
الديمقراطيّة!
محاولة حَبْس إرادة الشعب ضمن دائرة البرلمان كونه "مُنْتَخَبا" خطوة قاصِمة لظهر المواطنين بالأدوات الديمقراطيّة، وإلا فإنّ الانتخابات، حتّى النزيهة فضلا عن المشكوك بصحّتها، لا تعني مُصادرة إرادة الناس، والتنكُّر لأصواتهم
إنّ محاولة حَبْس إرادة الشعب ضمن دائرة
البرلمان كونه "مُنْتَخَبا" خطوة قاصِمة لظهر المواطنين بالأدوات الديمقراطيّة،
وإلا فإنّ الانتخابات، حتّى النزيهة فضلا عن المشكوك بصحّتها، لا تعني مُصادرة
إرادة الناس، والتنكُّر لأصواتهم بمجرّد بداية الفصل التشريعيّ!
وهنالك مئات الأدلة على سَقم الديمقراطيّة
العراقيّة، ومنها المقولة الشهيرة لرئيس الوزراء الأسبق نوري
المالكي (2006-2014)،
بأنّه "لا أحد يمكنه أخذ المنصب ثانية"!
وكذلك لاحظنا، الاثنين الماضي، غياب رئيس
الجمهوريّة السابق برهم صالح عن مراسم تنصيب خلفه عبد اللطيف رشيد ببغداد، وهنالك
مَن يقول بأنّ "الرئيس الخاسر" يَمرّ بعاصفة غضب لعدم انتخابه!
ولم يتبيّن هل غضبه على رفاقه في الاتّحاد
الكردستانيّ أم على الحُلفاء الرافضين لعودته!
والغصّة الديمقراطيّة طالت محمد السوداني،
رئيس السلطة التنفيذيّة المُرتقب، الذي يدّعي بأنّه مستقلّ، والحقيقة أنّه من
قيادات حزب الدعوة بزعامة المالكي، وأنّ ادّعاء "الاستقلال" لا يَنطلي
على أحد، وهذا جزء من سياسات "التزييف الديمقراطيّ"!
الغصّة الديمقراطيّة طالت محمد السوداني، رئيس السلطة التنفيذيّة المُرتقب، الذي يدّعي بأنّه مستقلّ، والحقيقة أنّه من قيادات حزب الدعوة بزعامة المالكي
ومع التسليم باستقلاليّة السوداني، فإنّ
مهمّة
حكومته، إن مُرّرت الأسبوع القادم، ستكون مُعقّدة، وربّما ستكون معارضة مقتدى
الصدر هي الأخطر عليها، وبالذات مع وصفها من قبل وزير الصدر، عبر تويتر في اليوم
التالي للتكليف، بأنّها حكومة "ائتلافيّة تبعيّة مليشياويّة مُجرّبة لم تلبّ،
ولن تُلبّي طموح الشعب"!
وستُجابه السوداني أيضا مشكلة إرضاء القوى
السياسيّة التي وافقت على
ترك الصدر والمضيّ معه، وهذا يشير إلى احتماليّة التناحر
على الكعكة الوزاريّة ومئات المناصب الرسميّة الأخرى!
ولا يُمكن تغافل الآفات الجسيمة الأخرى
ومنها
السلاح المُنفلت، واللا مساواة، والكوارث الاجتماعيّة والإنسانيّة
والاقتصاديّة، وملفّات التهجير والمقابر الجماعيّة، والجفاف والفساد الإداريّ، وتصاعد
الفقر والبطالة الحقيقيّة والمُقنعة. وقد أكّد السوداني الاثنين الماضي، بمناسبة
اليوم العالميّ لمحاربة الفقر، أنّ "تخفيف الفقر من أولويّاته، وسيعمل لتحسين
الصحّة والتعليم للفئات الفقيرة".
لقد بلغ الخراب درجات لا يُمكن تخيّلها،
ورغم ثروات العراق الطائلة نشر يوم الثلاثاء الماضي مقطعا مصوّرا لأكثر من 90
طالبة بمدرسة قاسم الفريجي بمدينة الناصرية، وهنّ يفترشن الأرض وبلا مقاعد دراسيّة
في "كرفان حديديّ" يتّسع لعشرين طالبة فقط!
وهذه أحوال عشرات المدارس، فأين تبخّرت موازنات
العراق الضخمة؟
وعود السوداني بعمله للجميع غير دقيقة، لأنّ حكومته وفقا للتسريبات المؤكّدة ستكون "حكومة المكوّن الواحد" (13 وزارة للشيعة، وست وزارات للسنّة، وأربع وزارات للكرد وواحدة للمسيحيّين)، وعليه فإنّ البهرجة الإعلاميّة المُرافقة للحكومة المكلّفة هي فعّاليّات مُكرّرة ببيانات وخطابات كافّة رؤساء الوزراء السابقين
إنّ وعود السوداني بعمله للجميع غير دقيقة،
لأنّ حكومته وفقا للتسريبات المؤكّدة ستكون "حكومة المكوّن الواحد" (13
وزارة للشيعة، وست وزارات للسنّة، وأربع وزارات للكرد وواحدة للمسيحيّين)، وعليه
فإنّ البهرجة الإعلاميّة المُرافقة للحكومة المكلّفة هي فعّاليّات مُكرّرة ببيانات
وخطابات كافّة رؤساء الوزراء السابقين، لكنّ التجارب كشفت بأنّ وعودهم ليست حقيقيّة،
وأنّها جزء من سياسات تنويم الشعوب!
هذه العقبات المُفْزِعة تتزامن مع
تَشعّب
الفساد في غالبيّة مفاصل الحياة، وآخرها التوجّه نحو "تجارة المقابر"،
حيث شرعت شركة "أديم الأرض" في العام 2021، ودون موافقات رسميّة، ببناء "المقبرة
النموذجيّة" بمدينة النجف وعلى مساحة قُدّرت بـ6300 دونم!
وتجاوزت أسعار القبور حاجز الثلاثة ملايين
دينار (أقلّ من ألفي دولار)، رغم حصول الشركة على الأرض بطرق غامضة أو بسياسة وضع
اليد وكأنّنا في القرون الوسطى!
وتجدّد الجدل هذا الأسبوع حول المقبرة لعدم
استيفائها الشروط القانونيّة، حيث باع أحد المتنفّذين الأرض التابعة للدولة "دون
سند قانونيّ"!
الديمقراطيّة لا تعني التسلّط على رقاب المغلوب على أمرهم، بل تهدف لضمان سلامة الوطن والمجتمع بتطبيق القانون العادل والحازم!
وكشفت التحقيقات بأنّ محافظ النجف السابق لؤي
الياسري طالب بتخصيص 500 مليار دينار (690 مليون دولار تقريبا) كدفعة أولى للمشروع!
فهل المستثمر يُسدّد الأموال للدولة في المشاريع
الاستثماريّة، أم أنّ الدولة تتكفّل بالنفقات؟
ثمّ هل الشعب المَدْفون في حياته بحاجة لقبور
نموذجيّة، أم يُفترض العمل لتأمين حياة المواطن وبعد موته يُقْبر بالمدافن العاديّة؟
إنّ الديمقراطيّة لا تعني التسلّط على
رقاب المغلوب على أمرهم، بل تهدف لضمان سلامة الوطن والمجتمع بتطبيق القانون العادل
والحازم!
ينبغي التفكير العلميّ والمنطقيّ بواقع
حال العراقيّ الذي وصل لمرحلة اليأس من الحياة، ولا أظنّ أنّ هذه القضايا الحَرِجة
تُعالج بفعّاليّات وقرارات تقليديّة، بل يُفترض مداواتها بالقوّة العادلة والقاصمة
لظهر المُخرّبين والفاسدين، وليس بالتصريحات "الديمقراطيّة" المزيّفة!
twitter.com/dr_jasemj67