بدا اقتحام، أو
للدقة تسلل وزير الأمن القومي
الإسرائيلي إيتمار بن غفير إلى الحرم القدسي الشريف
حافلاً بالدلالات وحتى التداعيات المستقبلية، وللوهلة الأولى يمكن الاستنتاج أن النتائج
جاءت مختلفة تماماً عما توقعه أو أراده بن غفير باستثناء التبجح العالم ثالثي والتعاطي
الديماغوجي مع مصوتيه وجمهوره اليميني العنصري والمتطرف.
بداية، لا بد من
الإشارة إلى أن بن غفير أدين حتى وفق القانون الإسرائيلي بالتحريض على العنصرية
ودعم تنظيم إرهابي، وهو أحد تلامذة وأتباع الحاخام العنصري الفاشي مئير كهانا -المدان
إسرائيلياً أيضا- ومن المروجين لأفكاره ويرفع صوره في مكتبه وبيته إضافة إلى صور تلميذه
باروخ غولدشتاين، منفذ جريمة الحرم الإبراهيمي في الخليل العام 1994، والتي قتل وأصاب
فيها عشرات المصلين
الفلسطينيين الآمنين، وهم سجود بصلاة الفجر. ورغم الجريمة وبسبب
أداء سياسي سيئ ومتخاذل من السلطة الفلسطينية، وُضعت منذ ذلك الحين نواة تقسيم الحرم
الإبراهيمي زمانياً ومكانياً، فيما بدا مكأفاة لغولدشتاين وأفكاره العنصرية
الدموية بدلاً من معاقبته وجمهور المتطرفين والمستوطنين الداعم له، ورغم تواجد الغالبية
في الحكومة الإسرائيلية لتفكيك البؤرة الاستيطانية -يقيم فيها بن غفير- في قلب مدينة
الخليل، كما كان يردد دائماً يوسي ساريد، زعيم حزب ميريتس والوزير الإسرائيلي آنذاك.
سعى بن غفير أساساً إلى تنفيذ وعده الانتخابي لجمهوره اليميني المتطرف بمواصلة اقتحام المسجد والحرم القدسي؛ الخاضع للوصاية الأردنية وحماية الشعب الفلسطيني بقاعاته وساحاته الكاملة (144 دونما)، كما سعى كذلك إلى تأكيد جديته في إعطاء اليهود حق الزيارة المفتوحة والصلاة في المسجد وساحاته، ما يعني تكريس التقسيم الفعلي للحرم زمانياً ومكانياً
وبالعودة إلى
اقتحام بن غفير المسجد
الأقصى والحرم القدسي الشريف، لا بد من الإشارة أولاً إلى أن
التوصيف الدقيق للحدث هو تسلل في الصباح الباكر جداً وحتى تحت جنح الظلام وبحراسة
مشددة، وبعد الإعلان أصلاً عن تأجيل الاقتحام لتخفيف ومنع ردود الفعل الفلسطينية
والعربية والدولية.
سعى بن غفير أساساً
إلى تنفيذ وعده الانتخابي لجمهوره
اليميني المتطرف بمواصلة اقتحام المسجد والحرم
القدسي؛ الخاضع للوصاية الأردنية وحماية الشعب الفلسطيني بقاعاته وساحاته الكاملة (144
دونما)، كما سعى كذلك إلى تأكيد جديته في إعطاء اليهود حق الزيارة المفتوحة والصلاة
في المسجد وساحاته، ما يعني تكريس التقسيم الفعلي للحرم زمانياً ومكانياً كما هو
حاصل الآن في الحرم الإبراهيمي في الخليل.
بالعموم ورغم
العنجهية والغطرسة، كان التسلل تحت جنح الظلام بمثابة اعتراف إضافي بأن المسجد محتل
والسيطرة الفعلية والجدية عليه هي بيد ملاّكه الأصليين والشرعيين، المسلمين العرب
الفلسطينيين، لا الاحتلال وسطوته العسكرية غير الشرعية.
التسلل وكما رأيناه
أكد من جهة أخرى أن الخشية الإسرائيلية كانت ولا تزال من ردّ الفعل الفلسطيني
الشعبي في القدس والضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948، كما حدث فعلاً في هبة
الشيخ جرّاح وباب العامود التي أفشلت محاولات بن غفير والمؤسسة الرسمية لتقسيم
الحرم وتهجير أهالي الأحياء المحيطة به. وفي السياق نالت دعم العالم كله، رسمياً
وشعبياً وسياسياً وإعلامياً، بعدما كشفت عن حقيقة الاحتلال كما مظلومية الشعب
الفلسطيني وقضيته العادلة.
التسلل أكد أيضاً
أن لا خشية إسرائيلية كبيرة من تصعيد على جبهة غزة، ورغم بعض التضخيم السياسي غير أن
تقديرات الأجهزة الأمنية الرسمية التي قدمت لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وبن
غفير نفسه أكدت عكس ذلك، كما أسهبت وسائل الإعلام الإسرائيلية في الحديث عن رد فعل
خجول أو منضبط من حماس في غزة، كونها لا تزال ملتزمة بالتفاهمات التي تم التوصل إليها
بوساطة مصرية العام قبل الماضي 2021، والمستندة بدورها إلى سلسلة من التفاهمات
المتتالية منذ حرب غزة الأولى 2009، وتشمل دخول آلاف العمال 20000 تقريباً للعمل في
إسرائيل، كما استمرار تحويل أموال المساعدات القطرية للأُسر المتعففة، ودعم فاتورة
الكهرباء، والأهم من ذلك ربما التسهيلات التجارية المصرية نفسها عبر معبر رفح وبوابة
صلاح الدين التي زاد دخول الشاحنات عبرها بنسبة 90 ففي المائة خلال العام الماضي
ليبلغ عددها 38 ألف شاحنة، مقابل 21 ألفا عام 2021، و15 ألفا فقط العام 2020. وهذا
مهم جداً لحماس وسلطتها، كون الشاحنات تحمل معظم ما ترفض إسرائيل إدخاله عبر معبر
كرم أبو سالم، تحديداً مواد ومستلزمات البناء إضافة إلى الوقود بمختلف أنواعه التي
تمثل العمود الفقري للحياة الاقتصادية والاجتماعية بغزة.
من جانبها استغلت
سلطة رام الله تسلل بن غفير كما ينبغي، وسعت إلى تكريس شرعيتها وتحسين شعبيتها أمام
الشارع والجمهور الفلسطيني الغاضب والمستنفر ضدها بعد تأجيلها؛ وللدقة هروبها من الانتخابات
العامة عام 2021، إضافة إلى الظهور غير ذي الصلة والمنفصل عن الواقع في مواجهة الهجمة
الإسرائيلية الدموية ضد الفلسطينيين خلال العام الماضي، والتي أدت إلى استشهاد
مئات المواطنين وإصابة واعتقال الآلاف منهم في أعلى إحصائية منذ العام 2006.
أدى تسلل بن غفير للأقصى إلى ردّ فعل مقبول بل وحتى جيد من المطبّعين الجدد في الإمارات والمغرب والبحرين؛ الذين خشوا من التداعيات السلبية لممارسات الحكومة الإسرائيلية السلبية على سيرورة التطبيع في ظل أجواء الرفض الشعبي القاطع والحازم التي تجلّت في مونديال قطر الأخير، حيث أشار الملك الأردني عبد الله إلى هذه النقطة تحديداً في حديثه لقناة سي إن إن
في السياق نفسه، سعت
السلطة بوضوح إلى الرد على حكومة نتنياهو ومحاصرتها منذ أيامها الأولى وزيادة الضغوط
عربياً وإقليمياً، في محاولة لفرض العزلة الدولية عليها منذ أيامها الأولى.
إلى ذلك، أدى تسلل
بن غفير للأقصى إلى ردّ فعل مقبول بل وحتى جيد من المطبّعين الجدد في الإمارات والمغرب
والبحرين؛ الذين خشوا من التداعيات السلبية لممارسات الحكومة الإسرائيلية السلبية على
سيرورة التطبيع في ظل أجواء الرفض الشعبي القاطع والحازم التي تجلّت في مونديال
قطر الأخير، حيث أشار الملك الأردني عبد الله إلى هذه النقطة تحديداً في حديثه
لقناة سي إن إن، في 28 كانون الأول/ ديسمبر، مؤكداً على استحالة تجاهل القضية الفلسطينية
والمضي في التطبيع وتدفئة العلاقات مع إسرائيل بعيداً عن التوصل إلى حل عادل يرتضيه
أصحاب القضية الفلسطينية أنفسهم.
وبالنسبة للمطبّعين
القدامى فقد رأينا رد فعل خجولا من النظام المصري رغم شعوره بالحرج، كون تسلل بن غفير
حصل مباشرة بعد اتصال الجنرال عبد الفتاح السيسي مع نتنياهو لتهنئته بتولي الحكومة
الجديدة مهامها، حيث تلقى وعداً بالتهدئة والحفاظ على الوضع الراهن في فلسطين كلها،
ورغم ذلك جاء البيان المصري تجاه التسلل عاماً وهادئاً جداً ومعبّراً عن الأسف
تجاه الحدث، ولم يتضمن حتى مصطلح الإدانة المعهودة، مع دعوة الأطراف إلى ضبط النفس،
في مساواة بين الجلاد والضحية والظالم والمظلوم.
رد الفعل الأقوى
للمطبّعين القدامى جاء من الأردن الذي فهم خلفيات الحدث، وكان الملك عبد الله قد أشار
إليها أيضاً في حديثه ذي السقف المرتفع مع القناة الأمريكية لجهة سعي تل أبيب إلى تغيير
الواقع الراهن والنيل من الوصاية الهاشمية، وإحراج النظام الأردني أمام الشعب،
علماً أنه يعاني أزمات داخلية أيضاً في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وعدم
امتلاك النظام الإرادة لاتخاذ خطوات جدية وجذرية للإصلاح السياسي باعتباره القاعدة
الصحيحة لمواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ومحاربة الفساد المنهجي والمؤسساتي
بالبلاد.
إقليمياً ودولياً،
كانت ردود فعل قوىة أيضاً لتركيا والسعودية وأمريكا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي
والصين وروسيا، والمجتمع الدولي بشكل عام.
تكمن خلفيات ردود الفعل تلك، تحديداً الأمريكية والأوروبية والغربية بشكل عام، في الرغبة بعدم تبدل المشهد الفلسطيني الراهن في ظل الاستنزاف بملفات أخرى، والسعي لعدم انفجار الأوضاع كي لا تفيض على الإقليم برمته
وتكمن خلفيات ردود
الفعل تلك، تحديداً الأمريكية والأوروبية والغربية بشكل عام، في الرغبة بعدم تبدل المشهد
الفلسطيني الراهن في ظل الاستنزاف بملفات أخرى، والسعي لعدم انفجار الأوضاع كي لا تفيض
على الإقليم برمته، مع غياب أو عدم امتلاك الجدية للضغط على الدولة العبرية من أجل
التوصل إلى حلّ سياسي وفق الحلّ الأدنى المقبول فلسطينياً وعربياً ودولياً والمعروف
بحلّ الدولتين.
في كل الأحوال، أكد
الحدث أهمية المقاومة الفلسطينية بكافة أشكالها الشعبية والسياسية والدبلوماسية والإعلامية
لمواجهة السياسات الإسرائيلية، وصعوبة وربما حتى استحالة تنفيذ الأجندة المتطرّفة
لحكومة نتنياهو- بن غفير- سموتريتش التي تواجه مقاومة عنيدة من الفلسطينيين، كما
رفض قاطع من القوة الإقليمية والدولية المستنزفة في جبهات وملفات أخرى والساعية إلى
الحفاظ على الوضع الراهن في فلسطين إلى أجل غير مسمى بما في ذلك الاحتلال نفسه. أما
تغييره إيجابياً لمصلحتنا فيحتاج بالضرورة إلى فعل مختلف ليس من الشعب الفلسطيني المستعد
دوما للتضحية، وإنما من الطبقة السياسية المنقسمة والعاجزة بكافة أطيافها
ومكوناتها.