لأبدأ الآن بالكلام عن هذا الجهاز الذي يحقق شروط المائدة والسرير
وفنيهما أي شروط القيام الأربعة لحياة
الإنسان فيحافظان على الأولين أي قيامه
العضوي بالثانيين أي قيامه الروحي.
والفنان يضفيان المعنى على المائدة والسرير فيرفعانهما إلى رتبة هي
عين الرتبة التي يرفع بها الاستخلاف في الأرض الاستعمار فيها. وبذلك تكون المائدة
والجنس ثمرة الاستعمار في الأرض وفن المائدة وفن السرير ثمرة الاستخلاف فيها.
وهذا الرفع يضفي على
الوجود
الإنساني بعد المنشود المحرر من طغيانين يفقدان الإنسان قدرتيه أعني: الجهاز المبدع لأدوات الاستعمار في الأرض والجهاز
المبدع لغايات الاستخلاف فيها، وتلكما هما منزلة العقل الراجح أداة
والإرادة الحرة غاية. والوسيط المحدد للعلاقة بين الجهاز الأداتي ـ العقل الراجح ـ والجهاز الغائي ـ الإرادة
الحرة ذو التفاتين: أحدهما يفصل بين الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها، والثاني
يصل بينهما فيصبح الذوق ذوقين: أحدهما يفسد الغاية فيجعلها في خدمة الأداة والثاني يصلحها فيعيد
الأداة لدورها في خدمتها.
وبهذا المعنى نفهم أن رجحان العقل يتحدد بتحقيق حرية الإرادة: وذلك
هو معنى التعريف الخلدوني للإنسان بكونه رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق
له.
وهو تغيير جذري لمفهوم الإنسان: فهو لا يختلف عن الكائنات الحية
بالمعرفة ـ إذ كلها لها هذه القدرة المناسبة لسد حاجاتها ـ بل هو يتميز عنها
بغايتها المتجاوزة لسد الحاجات إلى ما يضفي عليها معنى يتجاوزها فيكون الوصل مع
شروط ما تطلبه الإرادة الحرة من الطبيعة ومن التاريخ وبذلك يتميز الإنسان عن بقية
الحيوان وهو معنى "بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له".
فيكون العقل الإنساني أداة مطلوبة لغيرها ولها دور العلة الفاعلة
فعلا يحقق شروط الاستعمار في الأرض لسد الحاجات العضوية أولا والمكملات الذوقية
التي تضفي عليها معنى جماليا يزين أدوات حماية الكيان العضوي في المسكن والملبس
والمأكل والعنفوان الرامز إلى السلامة البدنية والصحة على ألا تكون على حساب حرية إرادته وكرامته.
والثاني مطلوب لذاته وهو العلة الغائية الأسمى وهما جوهر الحرية
والكرامة. وهذا الجهاز المطلوب لذاته والعلة الغائية هو الإرادة الحرة وهو أصل
الذوق القيمي الأسمى الذي من دونه يصبح الأكل والنكاح مجرد عملية حيوانية لا
تتجاوز الفعلين إلى الفنين الدالين على الحرية والكرامة من حيث هما إبداع يحاكي
مثاله الأعلى أي الجنة في الرمزيات
القرآنية. فيكون الفعل الإرادي الحر غاية قيام الإنسان وشعوره بمعاني الإنسانية
بلغة ابن خلدون وهو يعتبره المميز الجوهري لمعنى "الرئاسة بالطبع بمقتضى
الاستخلاف الذي خلق له" (الإنسان):
ـ فالجهاز المعرفي يتعلق بالمائدة
والسرير وهو أداة لتحقيق مطلوبهما شرطين للوجود والبقاء واكتشاف شروط سد حاجتهما
وإبداعه وأعني جهاز النظر والعقد. وكلاهما انفعالي ولا يصبح فاعلا إلا بما يتجاوز
به التلقي إلى بث المقيس عليهما خلال
التساخر التبادلي والتساخر التواصلي في
الجماعة.
ـ الجهاز القيمي يتعلق بفن المائدة وفن السرير وهو أداة لتحقيق
مطلوبهما واكتشاف شروط سد حاجتهما وإبداعه وأعني جهاز العمل والشرع وكلاهما فعلي
ولا يصبح منفعلا إلا بما يتجاوز به سد الحاجات الذاتية إلى ما يرفعه إلى حقيقة
التساخرين التبادلي العادل والتواصلي الصادق.
وفي الحالتين فإن الأمر كله متعلق بالمعرفة والقيمة والأولى أداة
فاعلية والثانية دافع غائي لتحقيق وظيفتي الإنسان في الوجود بوصفه مستعمرا في
الأرض (الأولى) ومستخلفا فيها (الثانية).
من يتصور العقل جهاز قرار أو جهاز اختيار فهو كمن يعتبر آلة الحساب وتنظيم المعلومات هي التي تقرر في أي جهاز آلي دون أن يكون فيه وظيفة تشبه الإرادة التي توازن بين المعطيات وتختار ما تريده حتى لو ناقض الحسابات التي يجريها الجهاز لعلل أخرى ليست في متناول الجهاز. والجهاز يمكن أن يعمل لأهداف خيرة أو لأهداف شريرة: فالعلم يمكن أن يؤسس لأدوات التهديم تأسيسه لأدوات البناء والطب للدواء والداء إلخ..
والقصد أن المعرفة علة فاعلة لسد الحاجات التي تتعلق بالمائدة
والسرير والقيمة علة غائية لسد حاجات فن المائدة وفن السرير: إذ كلاهما يمثل الذوق
الذي يتعالى عن مجرد سد الحاجة إلى معناها الذي هو عين الحياة الإنسانية المتخلصة من الإخلاد إلى الأرض برؤية آيات الله
في الآفاق وفي الأنفس، بحيث إن الذوق هو الذي يحدد معنى
العلاقة بين الآفاق والأنفس فيكون ما يخصصه الإنسان من رعاية لذاته وحماية يخصصه
للحياة عامة وشروطها خاصة فيدرك معنى خليفة في الأرض أي راعيا لها ومحافظا عليها وليس مفسدا فيها وسافكا للدماء
كما ظنت الملائكة التي شككت في أهليته للاستخلاف.
وهو ما يقتضي إعادة النظر في مفهوم العقل. فهو في القرآن ليس قدرة
مبدعة بل هو جهاز فهم لما يتلقاه الإنسان من آيات أو رموز وخاصة فهم اللسان وجهاز
علاج للمعلومات التي يتلقاها من الطبيعة والتاريخ فيه وخارجه وجهاز حساب وتنظيم
لها حتى يكون للإرادة حرية الاختيار على علم بإمكانات سد الحاجات بصنفها وبشروط تحقيقها.
ومن يتصور العقل جهاز قرار أو جهاز اختيار فهو كمن يعتبر آلة الحساب
وتنظيم المعلومات هي التي تقرر في أي جهاز آلي دون أن يكون فيه وظيفة تشبه الإرادة
التي توازن بين المعطيات وتختار ما تريده حتى لو ناقض الحسابات التي يجريها الجهاز
لعلل أخرى ليست في متناول الجهاز. والجهاز يمكن أن يعمل لأهداف خيرة أو لأهداف
شريرة: فالعلم يمكن أن يؤسس لأدوات التهديم تأسيسه لأدوات البناء والطب للدواء
والداء إلخ..
لكن ما حصل هو أن التحريف جعل الذوق بمعزل عن الأخلاق في حين أنه هو
الذي يؤسسها. ذلك أن الإبداع الذوقي من شرطه أن يكون تفضيلا للجميل على القبيح
وللخير على الشر وللحر على المضطر وللمتعالي على المتداني لأنه هو جوهر الحياة
ومعناها.
وهذا الجهاز الثاني الذي سميته الإرادة محكوم بالذوق المفاضل بين
المحمود والمرذول لذاته في علاقة مع المأكول والمنكوح الحرين وليس المضطرين.
وسنرى أن ما تبيحه الضرورة هو ما تقدره الحرية التي تصله بما في
الإنسان من قدرة على الجهاد قيميا واستعمال الاجتهاد معرفيا لمقاومة الضرورة من أجل الحرية استراتيجية حيوية تستمد قيمتها من الغائية الروحية وليس من الأدوات
المادية: فمن دون صمود الإرادة في مواجهة الضرورة يصبح الإنسان خاضعا لها سواء
كانت عدوانا من الطبيعة أو من التاريخ.
فما يغلب على التواصلين بين المأكول والآكل والمنكوح والناكح وخاصة
دور ما يتصفان به من تجاذب هو الذي يجعل فني المائدة والسرير هما المحركان
الفعليان تحريك الغاية لما يشرئب إليه في الكائن الحي من حيث هو كائن حي حر وغير
مضطر فضلا عما يضيفه نظام الإدراك.
ونظام الإدراك هو النظر والعقد للعلاقة بالطبيعة وبالتاريخ شرطين
للمائدة والسرير وهو نظام العمل والشرع للعلاقة بالإنسان من حيث هو فاعل في
الطبيعة والتاريخ بفني المائدة والسرير عندما يتجاوزان المضطر إلى الحر من
الأفعال: وحينها يولد الفن الجميل والذوق الجليل أعني ما يتألف منه الحب المتعين
مثلا في العلاقة بثمرة اللقاء بين الجنسين (الأبناء) أو بين الصديقين (التواصي
بالحق والتواصي بالصبر في السراء وفي الضراء) .
فكيف يكون النظر والعقد علاقة بين الآفاق والأنفس فيهما وخارجهما
علما وأنهما كلاهما مضاعفان لأن الآفاق هي الطبيعة والتاريخ خارج الإنسان والأنفس
هي البدن (في علاقة بالطبيعة والتساخر التبادلي) والروح (في علاقة التاريخ
والتساخر التواصلي)؟
ففي الأنفس نجد الطبيعي والتاريخي أو الفطري والمكتسب. وفي الآفاق
نجد الطبيعي والتاريخي الذي هو ما أضافه الإنسان للطبيعة. ويمكن أن نسمي التاريخي
ثقافة لأن القصد ليس التاريخ من حيث هو معرفة الأحداث التاريخية بل الأحداث
التاريخية نفسها ومنها علمها الذي هو أحد الأحداث في التاريخ أو في الثقافة.
وقد عرف ابن خلدون الفكر بهذه الوظيفة. وهو لم يستعمل
"العقل" في كلامه لأن العقل بالمعنى القرآني الذي يفهمه ابن خلدون جيدا
حتى وإن واصل استعمال دلالته الطاغية على
الفلسفة بمعنى قدرة الفكر وقدرة القرار
العاقل فقال: "وأما الأفعال الحيوانية لغير البشر
فليس فيها انتظام لعدم الفكر الذي يعثر به الفاعل على الترتيب فيما يفعل إذ
الحيوانات إنما تدرك بالحواس ومدركاتها متفرقة خلية من الربط لأنه لا يكون إلا
بالفكر. ولما كانت الحواس المعتبرة في عالم الكائنات هي المنتظمة وغير المنتظمة
إنما هي تبع لها اندرجت حينئذ أفعال الحيوانات فيها فكانت كلها مسخرة للبشر".
"واستولت أفعال البشر على عالم الحوادث
بما فيه فكان كله في طاعته وتسخره. وهذا معنى الاستخلاف المشار إليه في قوله تعالى
"إني جاعل في الأرض خليفة". فهذا الفكر هو الخاصة البشرية التي تميز بها
البشر عن غيرهم من الحيوان. وعلى قدر حصول الأسباب والمسببات في الفكر مرتبة تكون
إنسانيته" (المقدمة الباب السادس الفصل الحادي عشر).
وإذن فالعقل للتلقي والفهم والفكر للترتيب بمعنيين:
ـ الترتيب المشروط في الفهم أو ترتيب المعلومات المتلقاة من موضوع
المعرفة ويسميه بالطبع وهو معرفي بمعنى أن الإنسان يحدد علاقات الأشياء الموضوعية
بقدر علمه بالأسباب الطبيعية.
ـ الترتيب المشروط في الفعل وهو أو ترتيب الغايات المطلوبة فيه
ويسميه بالوضع وهو قيمي بمعنى أن الإنسان يحدد قيم الأشياء بالقياس إلى ما يريد
بقدر إرادته للغايات القيمية وليس في ذاتها.
وكلاهما يفترض حرية الإنسان شرطا في البحث عن العلل في الترتيب الأول
بالفرضيات المتعددة وشرطا في تنظيم غاياته في الترتيب الثاني. ومن هنا جاء الأول
شرط الثاني من حيث العمل على علم والثاني شرط الأول من حيث البحث عن سد الحاجات
التي هي إضافية إلى ما يريده الإنسان من العلم من أجل العمل.
عندما يعلم الإنسان أن الضرورة في الطبيعة وفي التاريخ شرطية بمعنى أن علاقة العلة بالمعلول لأن يتغير المعلول إلا إذا غيرنا العلة ومن ثم فالعلة مشروطة بالمعلول الذي هو بخلاف التصور هو غاية العلة. فإذا كانت لنا غاية أخرى نبحث لها عن علة تحققها وذلك شرطه الحرية الشرطية عند الإنسان لكنها غير شرطية عند الخالق وإلا لكانت مضطرة بالشرط.
وهذا عين ما سميته علاقة الحرية الشرطية (إضافتي في الغائية التي
تفسر علوم الإنسان) بالضرورة الشرطية (نظرية أرسطو في الغائية التي تفسر علوم
الطبيعة). والفرق بين المعنيين هو الذي يغيب في ردود ابن رشد على الغزالي لظنه أن
نفي الغزالي للضرورة السببية يحول دون إثبات وجود الله ولا يعتقد أنها توحد سببية
الحرية التي هي الخلق والأمر ، وكلاهما يوجد ويصور دون ضرورة سببية. وحتى
الملحد فهو مضطر لمثل هذا المفهوم لأن البداية إذا تصورها علة ذاتها فهو سيجعلها
سببا سابقا على ما يسببه فيكون من ثم فعلا غير مضطر بخضوع لغيره.
فعندما يعلم الإنسان أن الضرورة في الطبيعة وفي التاريخ شرطية بمعنى أن
علاقة العلة بالمعلول لأن يتغير المعلول إلا إذا غيرنا العلة ومن ثم فالعلة مشروطة
بالمعلول الذي هو بخلاف التصور هو غاية العلة. فإذا كانت لنا غاية أخرى نبحث لها
عن علة تحققها وذلك شرطه الحرية الشرطية عند الإنسان لكنها غير شرطية عند الخالق
وإلا لكانت مضطرة بالشرط.
حرية الإنسان مشروطة بمعنى أنها لا يمكن أن تجري بما يخالف الضرورة
الشرطية لأنها شبه مساحة للإرادة الإنسانية بصورة لا تخرجها عن الإرادة الإلهية
الخالقة والآمرة: وذلك في حدود ما يتوفر عليه من تجهيز هو عين الإرادة غاية والعقل
أداة. فلا يمكن للإنسان أن يؤثر في مجرى الأحداث بصورة تنافي ما تخضع له من قوانين
في الطبيعة ومن سنن في التاريخ.
فتكون حريته مشروطة بهذه القوانين والسنن وهو المقصود بالكسب في
المدرسة الأشعرية. وكل ما في الأمر هو أن هذه الفسحة ـ المارج ـ التي تؤسس للحرية
الإنسانية يتم إطلاقها عند من يتصور غياب العلم بالمشروطية دليل غياب الشروط فيصبح
قول المعتزلة مقبولا فتكون الحرية عندهم غير مشروطة: وهو دليل الخلط بين عدم العلم
بالوجود وعدم الوجود.