لكي نفهم ما جرى في الحادي عشر من شباط/ فبراير 2011
وإعلان المخلوع تخليه عن السلطة وتكليف القوات المسلحة وليس إلى الثوار
بإدارة شؤون البلاد، لا بد من فهم طبيعة الحكم والدولة في
مصر أولا، وهنا لا بد من
العودة إلى مصطلح الدولة العميقة (Deep State) الذي انتشر
وبقوة خصوصا في الأيام الأخيرة لحكم
مبارك؛ الذي بدا وكأنه واجهة لمجموعة أو
مجموعات تحكم أو تتحكم في المشهد برمته.
وحسب بعض
المراكز البحثية فإن مصطلح الدولة العميقة يعد مصطلحا حديثا نشأ في
تركيا في تسعينيات القرن الماضي للتعبير
عن "شبكات من المجموعات وضباط القوات المسلحة الذين أخذوا على عاتقهم حماية
علمانية الدولة التركية بعد قيامها على يد مصطفى كمال أتاتورك، ومحاربة أي حركة أو
فكر أو حزب أو حكومة تهدد مبادئ الدولة التركية العلمانية"، وكان ذلك أول
تعريف وظهور لمفهوم الدولة العميقة.
هذا التعريف أو الوصف الذي ارتبط بالدولة التركية نظرا لتكرار
الانقلابات على الحكومات المنتخبة من الشعب، لفت الأنظار إلى فكرة من يحكم "في
الظاهر" ومن يحكم "من الباطن"، فالحكومات المنتخبة تبدو على السطح
وتتحرك في الشارع بينما المهيمن الحقيقي على التنفيذ على الأرض قوة أخرى غير ظاهرة
(تعيش في الظل) لا ترى بالعين المجردة؛ اللهم إلا في الذكرى السنوية لوفاة القائد
أو الزعيم المؤسس، وهم قادة
الجيش أو المجلس العسكري بزيهم وشكلهم المهيب وكأن
الرسالة هي "نحن من يحكم وليس من قمتم بانتخابهم".
هذه المحاولة لم تقتصر على تركيا بل كانت في عدة دول في أفريقيا
وأخرى في أمريكا اللاتينية، والعجيب أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وكبار
معاونيه، وعلى رأسهم ستيف بانون (Steve Bannon) الذي كان
كبير الخبراء أو المخططين الاستراتيجيين لترامب عند توليه السلطة في كانون الثاني/
يناير 2017، يستخدمون نفس المصطلح للتعبير عما يجري لإدارة ترامب من ممانعة
ومضايقات وتسريبات لملفات وفضائح لا يمكن لأحد الوصول إليها إلا كبار النافذين في
السلطة، ممن أرادوا أو رغبوا في إعاقة سلطة ترامب المنتخب من الشعب. وقد وصف ستيف
بانون هذه الشبكة بأنها الدولة الإدارية (
Administrative state) أي دولة الموظفين غير المنتخبين، ثم أصبح استخدام رجال
ترامب الغاضبين لمصطلح الدولة العميقة متكررا لوصف هذه الشبكات الحكومية غير
المنتخبة.
منذ انقلاب العسكر على السلطة المدنية في تموز/ يوليو 1952 وحتى نهاية عصر مبارك، كان كل الرؤساء يأتون تباعا من المؤسسة العسكرية وليس للشعب دور في اختيارهم، فالرئيس يأتي ويُفرض ثم يُستفتى عليه. وكلنا نعرف نتيجة الاستفتاءات مسبقا وهي لا تقل بحال عن 99 في المئة، ولم تجر انتخابات رئاسية ولو شكلية إلا في عام 2005
ومن المضحك أن المذيع عمرو أديب
علق ساخرا على ما كان يجري مع ترامب من
محاولة إعاقة لسياساته بالقول "يفعلون معه ما كنا نفعله مع الرئيس مرسي".
معظم المعاجم تعرّف الدولة العميقة (
Deep State) بأنها شبكة
علاقات ونفوذ داخل أجهزة الدولة تتكون من أشخاص غير منتخبين، تعمل ضد الأجهزة
والمؤسسات المنتخبة، وتعرف بأنها حكومة ظل خفية تعمل ضد الرئيس والإدارة المنتخبة.
الحال في مصر بالتأكيد مختلف عن الوضع في تركيا، إذ أن منظومة الحكم
العسكري منذ 1952 تشكل بنفسها الدولة الظاهرة والدولة العميقة في نفس الوقت، ولا
تكاد تستطيع أن تميز بينهما. فمنذ انقلاب العسكر على السلطة المدنية في تموز/ يوليو
1952 وحتى نهاية عصر مبارك، كان كل الرؤساء يأتون تباعا من المؤسسة العسكرية وليس
للشعب دور في اختيارهم، فالرئيس يأتي ويُفرض ثم يُستفتى عليه. وكلنا نعرف نتيجة الاستفتاءات
مسبقا وهي لا تقل بحال عن 99 في المئة، ولم تجر انتخابات رئاسية ولو شكلية إلا في
عام 2005 بعد تعديل المادة 76 من الدستور، ليتم انتخاب الرئيس من الشعب وليس
باستفتاء أو بموافقة مجلس الشعب.
وبالمناسبة، فقد
رفضت بعض أحزاب المعارضة ترشح مبارك من الأساس، واعتبرت قوى المعارضة وعلى رأسها الإخوان المسلمين أن
التعديل الدستوري تم تفصيله لمنع ترشح أي عضو في الجماعة، لأن التعديل الدستوري
اشترط موافقة 250 عضوا بالمجالس النيابية للمرشحين من غير الأحزاب. ولم تمض الأمور
على ما يرام بالنسبة لمبارك، فقد أعلنت بعض الأحزاب عن
تنظيم احتجاجات ضد فوزه
بالانتخابات.
في مصر كنا أمام حاكم له صلاحيات واسعة، ولكنه أدار الدولة العميقة المكونة
من (الثالوث) عناصر
الأمن المتوحش والجيش المسلح والمخابرات بما لديها من اسم
وسمعة سيئة ازدادت سوءا بعد تورطها في استضافتها لمراكز الاستجواب والتعذيب للمشتبه
بهم في تفجيرات السفارات الأمريكية في أفريقيا عام 1995 وما بعدها في تفجير برجي
نيويورك في الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001.
وبمرور الوقت تمت إضافة عنصر جديد للثالوث وهو رجال جمال مبارك، ليتحول
الثالوث إلى "ثالوث +1". كان معظم رجال جمال مبارك قادمين من مجال
الاقتصاد والإعلام، وبرزت على السطح شخصيات مرافقة ومؤيدة ومدافعة عن فكرة تواجد
مبارك الابن في الساحة السياسية، مثل الصحفي عبد الله كمال والدكتور محمد كمال وأسامة
سرايا، وحتى الدكتور محمد عبد المنعم سعيد، رئيس مجلس إدارة الأهرام والصحفي والمعلق
السياسي المعروف. وقد أصبح الحديث عن رجال جمال مبارك حديثا عاما تناقلته الصحافة
وكبار الكتاب (اقرأ
مقال رجال جمال مبارك للكاتب الصحفي مجدي
الجلاد).
كانت مهمة رجال جمال مبارك هي السيطرة على الاقتصاد وتحويله إلى اقتصاد
رأسمالي بالكامل، مع القضاء على البقية الباقية من شركات القطاع العام وقطاع الأعمال،
والدخول في شراكة مع الشركات العابرة للقارات والدول المعروفة بـ"transnational"، وبالتالي
الاستفادة من شبكة العلاقة الدولية في تقديم جمال مبارك للخارج على أنه صانع
التحول وصاحب الفكر الجديد (قارن ذلك بما يفعله ابن سلمان الذي نجح إلى حد كبير في
تقديم نفسه في ظل وجود أبيه الملك سلمان على رأس الحكم في المملكة).
أدار مبارك العلاقة بين "الثالوث +1" بطريقة مكنته من السيطرة
وإحداث التوازن، فالجيش تحول إلى مؤسسة اقتصادية لها دور في عمولات التسليح وبناء
مشاريع تخص المؤسسة العسكرية، كما أن الجيش له حصة في تشكيل الوزارة وتعيين
المحافظين وإدارة المرافق الكبرى في البلاد وذلك شريطة عدم التدخل الظاهر في
الحياة السياسية.
أما وزارة الداخلية وعن طريق ما يعرف بأمن الدولة فلها اليد الطولى في
الإدارة المحلية بالكامل، وهي مسؤولة عن إدارة المحافظات والنقابات والهيئات، وعن إجراء
الانتخابات وتزويرها على أي مستوى من المستويات من انتخابات النقابات العمالية
والمهنية والمجالس النيابية، وتعيين المحافظين وعمداء الكليات ورؤساء الجامعات،
وتعيين كبار القيادات في المؤسسات الصحفية والإعلامية، وللداخلية نصيب مفروض في
تعيينات الوزارة وفي المحافظين وعادة ما يكون وزير الحكم المحلي من جهاز الشرطة.
أما المخابرات فنصيبها في الحكم كان احتفاظ مبارك برئيس الجهاز عمر سليمان إلى
جواره، بمعنى الاستماع والإنصات إليه جيدا، وقد كان عمر سليمان على عكس وزير
الدفاع أكثر صلة وقربا من مبارك وربما كان مبارك يحترم آراءه أكثر في عدة ملفات
سياسية داخلية وخارجية. كما كان للمخابرات نصيب في حركة المحافظين وفي تشكيل
الوزارة أيضا، ناهيك عن تكليف مبارك لعمر سليمان بإدارة ملف القضية الفلسطينية، وخصوصا
العلاقات مع الكيان الصهيوني والعلاقات مع ليبيا وبعض دول أفريقيا بالتنسيق أو
بدونه مع وزارة الخارجية المصرية، على النحو الذي ذكرته في المقال السابق.
نجح مبارك في منع الصدام بين "الثالوث +1" عدة مرات وفي تحجيم محاولات الداخلية التجسس على المؤسسة العسكرية، وهو الأمر الذي تبين بعد اقتحام الثوار لمقرات أمن الدولة، إذ عُثر في مقرات أمن الدولة على ملفات تخص تجسس جهاز أمن الدولة على قيادات المؤسسة العسكرية
نجح مبارك في منع الصدام بين "الثالوث +1" عدة مرات وفي تحجيم
محاولات الداخلية التجسس على المؤسسة العسكرية، وهو الأمر الذي تبين بعد اقتحام
الثوار لمقرات أمن الدولة، إذ
عُثر في مقرات أمن الدولة على ملفات تخص تجسس جهاز
أمن الدولة على قيادات المؤسسة العسكرية، وهذه الملفات قد وقعت في أيدي الثوار
ولكنها سُلمت للجيش الذي أخفاها ولم يعد أحد يعرف عنها شيئا، لا بل تبرأ السيسي من
مساعدة الجيش للثوار في اقتحام المقرات و
قال في خطاب بمناسبة الاحتفال بيوم الشهيد
عام 2019 "إن الشائعات التي ظهرت خلال 2011 كانت تستهدف مؤسسات الدولة واحدة
واحدة"، مشيرا إلى أن "أولى الشائعات التي لاحقت الجيش هي اتهامه بخيانة
الشرطة ووزارة الداخلية عبر ترتيب اقتحام مقرات أمن الدولة".
وقعت حادثتا تصام مشهورتان بين الجيش والداخلية الأولى في الثمانينيات، حين
وقعت أحداث الأمن المركزي في 25 شباط/ فبراير 1986، وساعتها طالب مبارك وزير
الدفاع آنذاك أبو غزالة بالأمر بنزول الجيش إلى الشوارع خصوصا في المنطقة المركزية،
وقد توترت الأجواء إذ اعتبرت الداخلية الأمر بمثابة عدم ثقة بقدرتها على السيطرة. والمرة
الثانية في عام 2009 حين تم الاعتداء على طالب بالكلية الحربية في أحد أقسام
الشرطة عام 2009 في مدينة 15 مايو بمنطقة حلوان، وعلى إثر ذلك أمر قائد الكلية
الحربية بتحريك مجموعة من الضباط إلى قسم الشرطة واحتلاله وإهانة كل من فيه،
وكتبوا على الجدران عبارات مسيئة للشرطة المصرية. وانتهى الأمر بالتصالح بين
المتصارعين.
ورغم كل ذلك كانت نتيجة إدارة البلاد اقتصاديا واجتماعيا كارثية بدرجة
كبيرة، ما ساهم في زيادة منسوب الغضب الشعبي الذي وصل ذروته بمحاولة توريث جمال
مبارك. وهنا أقتبس لاثنين من الباحثين، أحدهما اقتصادي هو د. أحمد النجار والآخر
سياسي هو د. عمرو حمزاوي.
كانت نتيجة إدارة البلاد اقتصاديا واجتماعيا كارثية بدرجة كبيرة، ما ساهم في زيادة منسوب الغضب الشعبي الذي وصل ذروته بمحاولة توريث جمال مبارك
يصف الباحث الاقتصادي المصري الدكتور أحمد النجار عملية الخصخصة والبيع
الفاسد للأصول المصرية إبان عصر مبارك في كتابه "الانهيار الاقتصادي في عصر
مبارك.. حقائق
الفساد والبطالة والغلاء والركود والديون"، الذي نشرت وكالة
رويترز بعض
مقتطفات منه وأنقل هنا بعضا منها. فهو يصف معايير خصخصة الشركات مثلا
بأنها كانت تمثل "الفساد المنهجي" الذي يتمثل في تقييم أصول هذه الشركات
حيث كانت تباع بنحو 3 في المئة من سعر الأرض المقامة عليها، مستشهدا بفندق مقام على
جزيرة بنهر النيل في العاصمة وتبلغ مساحته 21 ألف متر مربع. ويقول إن هذا الفندق
عرض للبيع عام 1993 وكان سعر المتر لا يقل عن 30 ألف جنيه مصري، أي أن قيمة الأرض
وحدها تساوي 630 مليون جنيه (أكثر من 185 مليون دولار بأسعار ذلك العام)، ولكنه
بيع "إلى أمير سعودي، بمبلغ 75 مليون دولار. ويرى أن الثمن الذي بيع به
الفندق لا يتجاوز قيمة الأرباح الصافية لتشغيله في أربع سنوات. ويسجل أن بيع كثير
من الفنادق والشركات والأراضي تم "بلا مبرر، وللفساد".
ويقول الباحث المصري في مؤسسة كارنيجي عمرو حمزاوي في
مقال له عن أداء
الاقتصاد في الفترة من 2000-2010، وهي الفترة التي كان يديرها جمال مبارك من خلال رئيس
الوزراء أحمد نظيف: "لم يزد إسهام القطاع الصناعي في الناتج المحلي بين عامي
2000 و2009 سوى بنسبة 2.4 في المئة، ليصل إلى 38 في المئة في مقابل 48 في المئة
لقطاع الخدمات. بل وتراجع إسهام القطاع الزراعي من 16 في المئة في 2000 إلى 13.8
في المئة في 2009. ثم يزداد المشهد الاقتصادي
المصري قبحا عندما نطالع النِسب والأرقام الخاصة بالفقر وبالفجوة بين فقراء
وأغنياء المصريين. وفقا للتقديرات الدولية تصل اليوم نسبة المصريين الذين يعيشون
دون خط الفقر إلى 25 في المئة (محددا بدولار أمريكي كدخل اليوم الواحد)، وتتراوح
نسبة من يعيشون على خط الفقر بين 15 في المئة و20 في المئة" (انتهى الاقتباس).
ونكمل فصول رواية العشرية السوداء الأسبوع المقبل إن شاء الله.