عندما
اشتعلت درعا بالمظاهرات المضادة للنظام السوري مطالبة بالحرية والكرامة وانتقل هذا
الحراك إلى مدن أخرى كحمص وبانياس السورية، استجابت مدينة قامشلي التي تقطنها
غالبية كردية وخرج الناس أغلبية شبابية تهتف تضامنا مع درعا وشعبها ومع كل المدن
الثائرة وقتئذ (كان من أبرز الشعارات المرفوعة: واحد واحد واحد.. الشعب السوري
واحد)، وتشكلت تنسيقيات شبابية ثورية في مدن كردية كقامشلي والحسكة ورأس العين
والدرباسية وكوباني وعفرين وغيرها من البلدات الكردية.
وفي
عام 2012 اشتد الخناق على النظام بعد الانشقاقات الكبيرة في صفوف الجيش السوري،
بخروج العديد من الضباط من سلك الجيش وإعلانهم انشقاقهم عن النظام -احتجاجا على
ممارسة القمع ضد الثوار- وتشكيل الجيش الحر. نتذكر حسين هرموش الذي انشق وذهب إلى
تركيا
وفيما بعد سُلم للنظام في عملية غامضة ولا يُعرف مصيره حتى الآن، ومن ثم رياض الأسعد
ومصطفى الشيخ ومالك الكردي وغيرهم.
شعر
النظام بحجم وخطورة الاحتجاجات الهائلة في العديد من المحافظات والمدن السورية،
لذلك لجأ إلى مراوغة بأسلوب ثعلبي وهو الاتفاق مع حزب العمال الكردستاني التركي
على تأمين مناطق التواجد الكردي وانسحابه (النظام) من هذه المناطق، أي تسليمها
لهذا الحزب عبر حزب الاتحاد الديموقراطي السوري (ب ي د) مع الإبقاء على المربع الأمني،
وذلك لكي يخفف من الضغط عليه ويتفرغ لمواجهة الجيش الحر والشعب السوري في باقي
المناطق.
لهذا
كنا نشاهد أن المظاهرات في المدن الكردية كانت تواجه بالضرب بالهراوات والسكاكين
وغيرها من الأساليب المنعية؛ من قبل شباب ينتمون إلى حزب العمال الكردستاني، مما
اضطر الشباب الكردي إلى التزام بيوتهم وبعضهم لجأ إلى الهجرة إلى بلاد الله
الواسعة، خصوصا وأنّ الأحزاب الكردية السورية لم تساند هؤلاء الشباب الثوري في
مظاهراتهم وذلك تجنبا للاصطدام مع حزب العمال الكردستاني المدعوم من النظام وإيران.
فيما
بعد ومع أحداث كوباني 2014، وسيطرة داعش على محافظة الرقة ودخول الأمريكان على خط
الأزمة السورية، حصل تعاون أمريكي مع "ب ي د"، وتشكل جيش يسمى
قسد ومجلس
سياسي يسمى مسد. هذا التعاون حصل دون أي تعهد رسمي أو اتفاق سياسي رسمي بين
الطرفين، وإنما فقط اتفاق عسكري لضرب داعش ونجح هذا التحالف في هزيمة داعش وزج أعضائه
في سجون كبيرة وعائلات في مخيمات ضخمة (مثل الهول).
حصلت أخطاء
كثيرة لدى قسد في تعاملها مع السكان العرب في المناطق التي وقعت تحت هيمنة قسد، ضخّمت
تركيا هذه الأخطاء بغية زرع الفتنة العربية الكردية، التي تتنافى والعلاقة
التاريخية بين العرب والكرد في
سوريا عبر مئات وآلاف السنين، وللأسف استجاب لهذه
البروباغندا التركية شرائح من الإخوة العرب، مما شكل حالة عدم ثقة بين العرب والأكراد
سببها طرفان متنازعان في تركيا هما الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني التركي،
فكانت النتيجة انجرار فصائل محسوبة على المعارضة السورية والجيش الوطني وغيره إلى المخطط
التركي بالاستيلاء على مدن كردية عفرين 2018 وسمي بغصن الزيتون، وتل أبيض ورأس
العين 2019 وسمي بنبع السلام، مما أدى إلى هجرة العديد من السكان الكرد من قراهم
ومدنهم وتحولهم إلى نازحين في المناطق المجاورة لتلك المدن، إذ سكنوا المخيمات وتعرضوا
للجوع والبرد وغياب خدمات التعليم والصحة وغيرها من المشاكل الناجمة عن النزوح
والتهجير القسري.
العديد
من الفعاليات الكردية الواعية والنشطاء الكرد والمثقفين انتقدوا تصرفات "ب
ي د"، وتجسد ذلك بعدة نقاط منها نقطة أساسية أنّ التواجد العسكري لقسد كان من
المفترض أن يبقى فقط في المناطق الكردية لحمايتها والدفاع عنها، وليس من أي داع
للهيمنة على مناطق أخرى ذات غالبية عربية حتى لا تحدث احتكاكات وحساسيات عربية
كردية. وهذه النقطة أثبتت صحتها عند احتلال عفرين من قبل تركيا والفصائل المسلحة
المؤيدة لها، إذ لم تدافع أمريكا عن هذه المنطقة الكردية المحسوبة على "ب ي
د".
وهنا
تأتي النقطة الثانية وهي أن التحالف مع الأمريكان والتحالف الدولي لم يتم بموجب
وثيقة تعاون سياسية يتم بموجبها تأمين مصلحة الطرفين، أي حماية المناطق الكردية من
الاحتلال التركي أو من قمع النظام السوري، وأن تقوم قوات قسد بضرب تنظيم داعش
بالتعاون مع قوات التحالف الدولي برئاسة أمريكا (وللأسف لم يتم توقيع أي وثيقة من
هذا القبيل)، لذلك قامت تركيا باحتلال مناطق كردية أخرى هي رأس العين وتل أبيض عام
2019، أيضا دون أي رد فعل إيجابي تجاه الكرد من قبل أمريكا رغم أنها تعتبر قسد
حليفاً لها، والسبب طبعاً أنّ التحالف بين قسد وأمريكا تحالف أمني عسكري بغاية محاربة
داعش، تماما كما تم الاتفاق مع النظام على استلام المناطق الكردية من النظام دون
مقابل للكرد، أي الاستلام عند بدء الثورة أثناء ضعف النظام تحت ضربات المعارضة في
الداخل السوري والتسليم عند نهاية الحرب بعد استعادة النظام لقوته.
في كل
فترة يهدد الرئيس التركي بعملية برية عسكرية، وهذه
التهديدات مستمرة ومتجددة، في الآونة الأخيرة يهدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان
بعملية برية في الشمال السوري، وهو يستهدف غالبا مناطق عين العرب (كوباني) ومنبج
وتل رفعت، واحتمال أن يقوم الجيش التركي بهذا الهجوم في منتصف شباط أو أوائل آذار/
مارس 2023 بالتعاون مع فصائل محسوبة على المعارضة السورية المقيمة قياداتها في
تركيا.
تركيا
تتذرع بحزب العمال الكردستاني وأنه يشكل تهديداً لها من الأراضي السورية المتاخمة
للحدود التركية (علماً أنه لم تطلق رصاصة واحدة من هذه المناطق باتجاه تركيا، وعلما
أن المسؤولين في قسد يعلنون مرارا عدم علاقتهم التنظيمية مع حزب العمال الكردستاني
وكان آخر تصريح للجنرال مظلوم عبدي قائد قسد لقناة العربية ينفي وجود تلك العلاقة).
وتريد
تركيا أن تغير من اتفاقية اضنة، التي تتضمن السماح للجيش التركي بالتدخل إلى الأراضي
السورية إلى عمق خمسة كيلومترات إذا كان هناك تهديد للأمن القومي التركي، لتتضمن 32
كم إلى داخل الأراضي السورية، وهذه نقطة تفاوض أساسية مع النظام السوري إذا اجتمع أردوغان مع بشار الأسد، إضافة إلى ذلك تشكيل منطقة آمنة في المناطق الكردية وغير
الكردية شمال سوريا، وترحيل السوريين إليها من تركيا وتغيير التركيب الديموغرافي
في هذه المناطق. لكن يبدو أنّ الاتصالات بين الطرفين جمدت الآن ربما بتدخل إيراني مستتر
مع النظام السوري.
في
الجانب الكردي هناك مشكلة مجتمعية تتضمن أنّ من يتضرر من الهجمات التركية هم أبناء
الشعب الكردي وقسم من المكونات الأخرى وبعض المهاجرين من المدن السورية الأخرى
القاطنين في هذه المناطق، وذلك سواء بالنزوح المحلي أو الهجرة الخارجية ناهيك عن
الخسائر في الأرواح والأموال والعقارات.
فعاليات
المجتمع المدني الكردية والنخب المثقفة والناشطين المستقلين وبعض الأحزاب الكردية؛
تدعو قيادة "ب ي د" والإدارة الذاتية وقيادة قسد ومسد إلى فك الارتباط
بينها وبين حزب العمال الكردستاني لسحب ذريعة تركيا في الهجوم، لكن هذا الطلب لا
يلقى آذانا صاغية لدى الجهات المذكورة، مما يضع المجتمع الكردي بين جهتين متضادتين
متنازعتين والمتضرر الأكبر هو الشعب الكردي وباقي المكونات المتعايشة معه. هذا
يحصل رغم الجهود الأمريكية الكثيفة والسعي الأمريكي في هذا الاتجاه، لكن دون جدوى.
وللعلم حاولت أمريكا التقريب بين المجلس الوطني الكردي و"ب ي د"، وجرت
حوارات عديدة والتوصل لنقاط معينة لكن لم يستمر الحوار الذي سمي بالحوار الكردي-
الكردي بسبب عوائق عديدة.
عمليا
الكرد يدفعون ثمن أخطاء "ب ي د" غير القادرة على الانفصال عن "ب ك ك"،
ويدفعون خسائر باهظة جراء الهجمات التركية، هذا علما أن الاتفاق الكردي الأمريكي عبر
قسد لا يتضمن -كما قلنا- أي جانب سياسي إنما فقط إمني عسكري وهو محاربة داعش، وأمريكا
معروفة بأنها تتخلى عن الحلفاء بأي وقت، وهذا حدث ويحدث في أكثر من بقعة في العالم.
لقد
كتبت المقال لكي يطلع القارئ العربي (والكردي بالطبع) على حيثيات الواقع الكردي في
المناطق التي تعرضت والتي هي مهددة بالتعرض للهجمات التركية، خاصة وأن أردوغان
يريد أن يكسب الانتخابات التركية القادمة.