لم تجف الدموع بعد، من مشاهد الموت والفقد والألم التي
خلعت القلوب خلعاً، ما زالت العيون مشدوهة من جلال ورهبة ما رأته، والأنفاس محبوسة
مع من خُنق تحت الرُّكام، والأرواح مُزلزلة من هول ما لاقاه إخواننا المتضررون إثر
زلزال تركيا وسوريا. نعم؛ الله تعالى هو أرحم بهم، وهو الذي خلقهم وهو الذي
يتولاهم برحمته، يدبر الأمر كيف يشاء، وهو القائل: "لِلَّهِ ٱلْأَمْرُ مِن
قَبْلُ وَمِنۢ بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍۢ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ" الروم: 4،
وقال: "لَا يُسْـَٔلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـَٔلُونَ" (الأنبياء:
23).
ليس لنا أن نعترض على حكمته -سبحانه وتعالى- وعلينا أن
نسلم بأنه هو الحكيم الخبير، وتبقى عقولنا عاجزة عن إدراك بعض الحِكَم الإلهية،
لأنها قاصرة ومخلوقة من ضعف، يعتريها النقص عن فهم وإدراك ما أُخفيَ عنها.
الزلازل إحدى آيات الله في الكون، سنّة كونية ماضية،
مثلها مثل البراكين والطوفان والأعاصير، لها أسباب طبيعية جيولوجية، فتحدث نتيجة
تحرك الصفائح التكتونية سواء اقتراباً أو ابتعاداً، ومن كُتب له الموت بسببها مات
شهيداً، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: "الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في
سبيل الله" متفق عليه.
ومما لا شك فيه أنه -سبحانه وتعالى- يريد بالعباد
الخير والسعادة في الدارين، وهذا لا يتحقق إلا بلفت الأرواح وجذب النفوس لحقيقة
الوجود بهزها وزلزلة كيانها وتذكيرها وتنبيهها وتخويفها، لأنها مجبولة على
التراتبية وإلف معهود الأمور، فتأتي هذه الكوارث لتوقظها وتبصّرها لما خلف الأسباب
إلى المُسببات.
ما زال الركام ممدداً بثقله العنيد على جثامين الشهداء
المتهالكة، غير آبه بضعفهم وقلة حيلتهم، وما زال البرد يقتات على ما تبقى من
أجسادهم، وما زال دُجى الظلام يوحش وحدتهم، وما زالت رائحة الموت السابحة في آفاق
الكون تزكم أنوفنا، وما زال الحزن يعتصر قلوبنا، لكنها الإرادة الإلهية التي لا
مفرّ منها، وما لنا حيلة إلا التّسليم والرضا، رضينا يا ربنا يا من توحّد بالعز
والبقاء، وقهر عباده بالموت والفناء.
هذا الفزع الذي عشناه وما زلنا نعيشه، هو صورة مصغرة
عن يوم الفزع الأكبر، فنسألك اللهم أن تؤمننا وأن لا تجمع علينا فزع الدنيا
وهمومها وفزع الآخرة وكدرها.
كل نفس ذائقة الموت؛ لكن لا نعلم كيف سنقاد إلى الموت،
أو بالأحرى كيف سيُقاد إلينا، لكن كل ما نرجوه أن نلقاه على الحال الذي يرضيه عنا،
أن نلقاه ونحن على طاعة وعمل وعلم وأن نكون مُخلصين ومُخلَصين غير فاتنين ولا
مفتونين.
الدرس الوحيد الذي أريد التركيز عليه في هذا المقام،
والدروس والعبر كثيرة جداً لا تحصى ولا تُعد، لكن أكثر ما تعلّمته من أحداث
الزلزال الأخير، أن قدرة الله طاغية ونافذة، أمره ما بين كاف ونون واقع، وأن
الدنيا قائمة على المحن والابتلاءات والأحزان والفتن، قال تعالى: "أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ
أَن يُتْرَكُوٓا۟ أَن يَقُولُوٓا۟ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ" (العنكبوت:
2).
فالسلامة من الفتن لم تكتب للمؤمنين، فقد يصاب المؤمن بفقد الأحباب والمال
والصحة، وهذا كله مُحتَمل، أما الفتنة في
الإيمان والعقيدة فهذا أصعب اختبار
وفتنة، وإن هذه المحن التي تأخذ كثيراً من البشر سواء بالزلازل أو غيرها من أكثر
الأمور التي تعرض المؤمن للتفكير الطويل في الأسباب والحكمة من ذلك، فما ذنب
الأطفال الأبرياء؟ لماذا يفنيهم الموت؟ ولماذا يتركون أيتاماً؟ ولماذا تقطع
أطرافهم؟ أفكار لا يقبلها عقل، ولا يحتملها قلب، لكن يقطع كل هذه الهواجس ويقتل كل
هذه الأفكار سيف التسليم الجامح القادم من أعماق أعماقنا صادحاً بصوته: رضينا
ربنا، وسلّمنا لك تسليماً كاملاً لا يخالطه شك ولا تردد بأنك الرحمن الغفور الرحيم
الودود اللطيف الخبير، ويبقى الدعاء الذي لا يفارق ألسنتنا: اللهم ارحم ضعفنا،
واسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك، ولا تفتنا في ديننا ولا في دنيانا،
وتوفنا وأنت راضٍ عنا يا أرحم الرّاحمين.
* عضو هيئة علماء فلسطين- عضو ائتلاف العالمات والداعيات