قال الكاتب البريطاني، رانديب رامش،
إنه بعد مرور عقدين على الغزو الأمريكي للعراق، تبدو الولايات المتحدة الأمريكية
مثل "ملوك آل بوربون"، الذين "لم يتعلموا شيئا، ولم ينسوا شيئا".
وتابع في مقاله المنشور في صحيفة
"
الغارديان" بأن حجة "الحرب على الإرهاب" أعطت واشنطن غطاء
سياسيا للسعي لمزيد من الهيمنة، وبدأت بتصنيف الأقطار الأخرى "إما معنا أو
علينا".
كما أن الكاتب سلط الضوء على الحرب
الروسية في أوكرانيا، وما أدى إلى اختلاف الرؤى بين أمريكا وحلفائها وبين بقية العالم. ويقصد
بالبقية هنا أولئك الذين وسعوا علاقاتهم بموسكو لا سيما الاقتصادية، إلى جانب صعود
الصين.
ولفت إلى أن أيديولوجيا الولايات
المتحدة تصور أن تعدد الأقطاب في العالم هو أمر خطر، وتبرير ذلك أنه كلما زاد عدد
الأقطاب زادت وتيرة الخصومات والمنافسات، وزادت فرص اندلاع الحرب.
وأكد أن الولايات المتحدة لم تفقد
بتاتاً رغبتها في أن تكون شرطي العالم، على خلفية أحداث الربيع العربي، ضاربا مثالا
بإرسال باراك أوباما قواته المسلحة إلى ليبيا رغم معارضة ألمانيا، وقرار الانسحاب
المتعجل من أفغانستان الذي صدم بريطانيا.
وتاليا المقال كاملا كما ترجمته
"عربي21":
خلال عقدين مضيا منذ حرب
العراق
الثانية، تبدو الولايات المتحدة مثل ملوك آل بوربون الذين لم يتعلموا شيئاً ولم
ينسوا شيئاً. وكان الغزو والاحتلال غير الشرعي للعراق حكاية إخفاق جيوسياسي وكارثة
سياسية محلية. ومن أجل فهم القرار الأرعن لشن الحرب، فإن على المرء أولاً أن يفهم
الاستراتيجية الأمريكية العظمى للهيمنة على العالم، وهو الأمر الذي ما فتئت واشنطن
تسعى في سبيله منذ عام 1945.
ووفرت "الحرب على الإرهاب"
غطاء سياسياً لمزيد من السعي من أجل الهيمنة، وذلك على الرغم من تهديد الحكومة
المحلية بالكذب والعنف. وكانت أفعال جورج دبليو بوش الهوجاء قد أثارت همسات من
القلق حول الضرر الحاصل، ولكن هذه ما لبثت أن تلاشت من أروقة السلطة. بل رفضت الولايات
المتحدة، بدلاً من ذلك، المضي قدماً، معتقدة أن الأقطار الأخرى "إما معنا أو
علينا".
ويكمن سر قوة الولايات المتحدة في
قدرتها على الهيمنة على المناطق الثلاث من العالم الأكثر أهمية لغاياتها الأمنية
والاقتصادية: غرب أوروبا، وشرق آسيا، والشرق الأوسط. وتعتمد القوة الأمريكية على
منع بروز منافس قوي في منطقة أوراسيا أو قوة وحيدة في الخليج تتحكم بمعظم احتياطات
النفط العالمية. ومع ذلك فإن التحالفات الصاعدة في يومنا هذا قد تفضي إلى هذه
المآلات.
ويفيدنا التاريخ بأنه عندما تصبح قوة
عظمى قوية أكثر من اللازم فإنها تهزم من قبل الجهود المكافئة والمقابلة التي
تبذلها القوى الرئيسية الأخرى. وما أقدم عليه فلاديمير بوتين من غزو غير قانوني
ودموي لأوكرانيا كشف النقاب بكل وضوح عن الاختلاف في الرؤى للصراع ما بين حلفاء
أمريكا وبقية العالم. وبقية العالم هذه هي التي ساعدت تجارتها الآخذة في الاتساع
مع موسكو
روسيا في الإفلات من قبضة العقوبات الغربية في كل شيء من النفط إلى
الشرائح الإلكترونية الدقيقة. وهذا الأمر، إلى جانب صعود الصين، كشف عن المساعي
التي تبذلها الولايات المتحدة للاحتفاظ بقوتها "أحادية القطب" في النظام
السياسي الدولي، وهي القوة التي اكتسبتها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في عام 1989.
تصور الولايات المتحدة اقتراب عالم
متعدد الأقطاب ومتنوع أيديولوجياً باعتباره لحظة خطر داهم. وتبرير ذلك هو أنه كلما
زاد عدد القوى العظمى زادت وتيرة الخصومات والمنافسات وزادت فرص اندلاع الحروب
بينها. ولكن يمكن للعكس تماماً من ذلك أن يكون صحيحاً كما في حالة كل من تركيا
والهند، فهما تعملان باستمرار على تجنب الانحياز إلى هذا الجانب أو ذاك في
النزاعات. في غير ذلك من المواقع، ثمة شروط أفضل قد تتوصل إليها تلك الدول التي
تحررت من السياسة الأمريكية الهادفة إلى إيقاع القوى الصاعدة في شبكة من الأحكام
والقواعد التي تعود بالفائدة على واشنطن. وما من شك في أن الصفقة التي أبرمت هذا
الشهر لإعادة العلاقات بين المملكة العربية والسعودية وإيران، بوساطة صينية، تسلط
الضوء على التنافس الصيني الأمريكي المتسارع.
في الشؤون العالمية، الطريق إلى جهنم
محفوف بالنوايا الحسنة. إلا أن السياسات ينبغي أن يحكم عليها بما يترتب عليها من
عواقب. وكانت الاستراتيجية التي تنهجها الولايات المتحدة منذ سبعينيات القرن الماضي
تهدف إلى إبقاء موسكو خارج منطقة الشرق الأوسط. إلا أن القرار المأساوي لغزو
العراق ثم احتلاله أثبت أنه كان بمثابة دعوة للقوى الأخرى للدخول إلى المنطقة. ولا
أدل على ذلك من أنه بحلول عام 2016 تم إبرام شراكة نفطية بين السعودية وروسيا،
وحظيت إيران بدعم روسي، وتكرس التواجد العسكري الروسي في سوريا. في تلك السنة، كان
أمام الولايات المتحدة واحد من خيارين، إما أن تنتخب مرشحاً رئاسياً مناهضاً للصين
هو دونالد ترامب أو مرشحاً رئاسياً مناهضاً لروسيا هو هيلاري كلينتون. وها هي الآن
يقودها رئيس، هو جو بايدن، يبدو أن لديه الاستعداد لمواجهة العملاقين المنافسين
معاً في نفس الوقت اعتقاداً منه بأن الولايات المتحدة يمكن أن تكون في أمان فقط في
عالم يتكون من دول ديمقراطية لها نفس الذهنية وتفكر بنفس الأسلوب. هذه الخصلة
المانوية في السياسة الخارجية الأمريكية، كما كان يعبر عنها بوضوح في خطابه جورج
دبليو بوش، لم تزل قائمة.
هذه الطبيعة الأمريكية النزوية
والمتمركزة ذاتياً يعرفها القاصي والداني، ويدركها العدو والصديق، على حد سواء.
كانت الولايات المتحدة على استعداد للاختلاف مع حلفائها القدامى لكي تقصف الشرق
الأوسط حتى تغير شكله بما يتناسب مع رغباتها. لم تأبه واشنطن بالاحتجاجات
الدبلوماسية التي أبدتها كل من فرنسا وألمانيا ضد الطبيعة غير القانونية للحرب
العراقية، التي قتل فيها مئات الآلاف من المدنيين. وكان من شأن النظام السياسي
الذي غرسته واشنطن في العراق أن عمق الانقسامات وحول البلد إلى مكان عصي على الحكم
من الناحية العملية الفعلية. وبينما راح النفط العراقي يتدفق إلى الأسواق
العالمية، فإنه جرى نهب ما يقرب من 150 مليار دولار تم تهريبها إلى الخارج. واليوم ما زال
الجيش الأمريكي يحتفظ بتواجد رمزي داخل البلاد لمكافحة تنظيم الدولة الإسلامية،
إلا أن النفوذ الحقيقي في العراق هو لإيران، التي تعتبر المليشيات الموالية لها
بمثابة بيضة القبان التي ترجح التصويت في السياسة العراقية. ومع كل ذلك، فقد تمكنت
الولايات المتحدة من تجاوز الإخفاق الذي منيت به في العراق بفضل الطفرة التي حصلت
في النفط والغاز الصخري والتي حولت البلد إلى قوة عظمى في قطاع الطاقة.
لم تفقد الولايات المتحدة بتاتاً
رغبتها في أن تكون شرطي العالم. فعلى خلفية أحداث الربيع العربي، بعث باراك أوباما
في عام 2011 بالقوات الأمريكية إلى ليبيا غير عابئ بمعارضة ألمانيا له داخل مجلس
الأمن الدولي. وما لبثت مهمة هذه القوات أن انحرفت عن الخطة التي كانت مقررة لها
لتصبح غايتها غير المعلنة تغيير النظام، الأمر الذي أشعل فتيل حرب أهلية. وجاء
قرار الانسحاب الأمريكي المتعجل من أفغانستان في 2021 من حيث لم يحتسب أحد، وكان
صادماً لبريطانيا، التي تكبدت ثاني أكبر عدد من الإصابات من بين البلدان الغربية
التي كانت تعمل مجتمعة على الحيلولة دون عودة الطالبان إلى البلاد. وفي ما يتعلق
بالحكمة من السماح للمسلحين بالاستيلاء على كابول، فقد اعتبرت وجهة نظر لندن في الأمر
غير ذات معنى.
ينبغي أن يكون لأوكرانيا عظة فيما
تكبده العراق من متاعب مريرة، وأن تعلم أن النجاح هو الغاية المرجوة في السياسة
الأمريكية دونما اعتبار لأي ضوابط قانونية أو أخلاقية. فبغض النظر عن كل ما يقال
بشأن "الدعم الذي لا يتزعزع"، فإن ثمة قيود محلية ساعدت حرب العراق على
تكريسها تحول دون التضحية بالأرواح الأمريكية في الحرب. ولذلك فإنه لن يتخذ بايدن
قراراً بإرسال قوات أمريكية للقتال ضد الروس، لأن ذلك سيعني إشعال حرب عالمية
ثالثة. وها هم المسؤولون في إدارته يتحدثون عن منظومة ما بعد الحرب في ساحة شرق
أوروبا، الأمر الذي يقلق بوجه حق الحكومة في كييف، التي تخشى من أن التعجيل بإنهاء
الحرب سوف يكون ثمنه التخلي عن جزء من الأراضي الأوكرانية لروسيا.
إلا أن واشنطن حققت حتى الآن ثلاثة
أهداف بارزة من أهداف سياستها الخارجية. أما الأول فهو تحويل بوتين إلى شخصية
منبوذة في العيون الأوروبية. وأما الثاني فهو إزاحة روسيا من مكانتها السابقة
كأكبر مورد للغاز إلى أوروبا، وبذلك أمكن تحرير القوى الكبرى في الناتو من الاعتماد
في مصادر طاقتها على موسكو. وأما الثالث، فهو أن القوة الاقتصادية الألمانية، التي
تعتبر بمثابة المحرك الذي تسير به منطقة أوروبا، لن تكون –كما كانت تراهن برلين–
معتمدة على الغاز الروسي العابر إلى البلطيق. وفي هذه الحالة سوف يكون الاتحاد
الأوروبي في المستقبل حليفاً أكثر طواعية للولايات المتحدة.
لا تريد الولايات المتحدة أن تبدو كما
لو كانت من يسحب البساط من تحت أقدام كييف. إلا أن التاريخ يعلمنا أن واشنطن سوف
تفضل السلام غير الكامل على حرب تستمر في الاشتعال إلى الأبد. ولم ينس بايدن، الذي
كان مؤيداً لغزو العراق، أن أوباما نجح في الانتخابات لأنه كان المرشح المعارض
للحرب. ولسوف تكون عينه على المرشحين الرئاسيين من الحزب الجمهوري الذين سوف
يقولون إن حماية أوكرانيا ليست من المصالح الحيوية للولايات المتحدة. فيما لو أمكن
الآن الإعلان عن انتصار أوكرانيا في الحرب، فلا ريب أن ذلك سيترك البلد في حالة
تحتاج معها إلى إعادة بناء. جزء كبير من ذلك يمكن أن تسدد نفقاته من أصول البنك
المركزي الروسي المجمدة حالياً في أيدي دول مجموعة السبع الكبار ودول الاتحاد
الأوروبي، وتبلغ قيمتها ما يقرب من 300 مليار دولار.
كما أنها لن ترغب واشنطن في أن تغرد لفترة
زمنية أطول من اللازم خارج سرب الرأي العام في أماكن كثيرة من العالم. لقد أثبت
العراق أن السياسة الدولية ليست مهمة رسالية عقائدية يقاتل فيها أهل الخير أهل
الشر. صحيح أن غزو بوتين لأوكرانيا أحيا التضامن بين البلدان الغربية، ولكن يتوجب على
واشنطن التوقف عن التظاهر بأن انتصار الهيمنة العالمية للولايات المتحدة بات قاب
قوسين أو أدنى.