رغم
الوضع الاقتصادي الكارثي الذي شبهه بعض الخبراء الاقتصاديين بوضع
تونس قبل انتصاب
"الكوميسيون المالي" سنة 1869، ورغم تعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي
بحكم بعض تصريحات الرئيس المناقضة لالتزامات حكومته، ورغم أهمية الاستقرار السياسي
في جذب الاستثمارات الخارجية وتشجيع الاستثمار الداخلي، يبدو أن حاكم قرطاج ومَن
وراءه في المنظومة السلطوية قد اختاروا التعاطي مع "الأزمة المركّبة"
بعيدا عن أية تنازلات أو تسويات أو تشاركية مع أي طرف داخلي كان (رفض مبادرة
الاتحاد للحوار الوطني رغم أنه حليف موضوعي للنظام). بل يبدو أن الرئيس وفريقه قد
اختاروا الدفع بالاستقطابات السياسية إلى حدها الأقصى، خاصة بعد الحكم
بإحالة زعيم
حركة النهضة راشد
الغنوشي في تهمة التآمر من أجل "تبديل هيئة الدولة وحمل
السكان على مهاجمة بعضهم بعضا". وهو قرار قضائي جاء بـ"
تججير الاجتماعات
بمقرات حركة
النهضة.. وبمقرات جبهة الخلاص الوطني بتونس الكبرى"، كما ورد في
برقية بعث بها وزير الداخلية إلى السلطات المعنية يوم 18 نيسان/ أبريل الحالي وأكدتها أغلب وسائل الإعلام المحلية.
منذ
أن أعلن الرئيس عن إجراءاته يوم 25 تموز/ يوليو 2021،
كنا قد أكدنا في أكثر من مقال وفي أكثر من مداخلة إعلامية أن تونس لن تعرف
السيناريو التركي (لن يخرج الشعب للدفاع عن منظومة حكم فاشلة) ولا السيناريو
المصري (لن تدخل الدولة في مواجهة مفتوحة ضد حركة النهضة بمنطق
الاستئصال)، وهو ما
أسميناه بـ"الاستحالة المزدوجة". وقد أكّدت الأحداث صوابية استشرافنا
الذي ما زلنا نعتبره صالحا رغم التصعيد السلطوي الأخير ضد حركة النهضة وجبهة
الخلاص الوطني.
فإيقاف
رئيس الحركة وحظر الاجتماعات داخل مقراتها وداخل مقرات جبهة الخلاص الوطني
(باعتبارهما المعارضة الراديكالية الأهم للرئيس) هي خطوة متوقعة بل ضرورية سواء
نظرنا إليها بعقل السلطة أو باستحقاقات المشروع السياسي للرئيس، ولكنها خطوة لا
يمكن أن تقود إلى السيناريو المصري أو غيره من السيناريوهات الدموية (على عكس
مخاوف الكثير من النهضويين وغيرهم من خصوم النظام الحاكم، وعلى الضد من أحلام
اليسار الاستئصالي خاصة في الوطد وفي بعض التشكيلات القومية)، وقد تكون ضرورية
لحمل أغلب الفاعلين الجماعيين (وليس فقط الإسلاميين) الذين ما زالوا يؤمنون بمشروع
العيش المشترك وبالإرادة الشعبية؛ على القيام بالمراجعات أو النقد الذاتي
لخياراتهم التكتيكية والاستراتيجية التي أوصلت البلاد إلى ما هي عليه سياسيا
واقتصاديا، بل قيميا.
في
كلمته الأخيرة بمناسبة الاحتفال بالذكرى السابعة والستين لعيد قوات الأمن الداخلي،
كرر الرئيس تلك "الكلمات المفاتيح" التي لا يكاد يخلو منها أي خطاب من
خطاباته منذ 25 تموز/ يوليو 2021.
فكل خطابات الرئيس تقوم على بناء ثنائيات لا متكافئة بينه وبين خصومه (أو خصوم
الدولة والشعب لأنه يحتكر تمثيلهما معا). فالرئيس وأنصاره -من المدنيين وحاملي
السلاح- وطنيون صادقون لا تعنيهم السلطة ولا امتيازاتها، ولا يهمهم إلا الوطن
ومصالح الشعب، وهم يؤدون واجبا مقدسا هو "الحفاظ على الدولة ومؤسساتها وعلى
المجتمع وكيانه"، أما خصومه فإنهم لا وطنيون "يسعون إلى ضرب الدولة
ومؤسساتها وضرب الوطن.. لأن لا وطنية لهم"، وهم أيضا فاسدون غايتهم
"الاستلاء على مقدرات الشعب والتنكيل به".
ولا
شك في أن هذه المقدمات ستبرِّر من وجهة نظر الرئيس الالتجاء إلى "معجم
الحرب" سواء بالمعنى المجازي أو الحقيقي، بل ستبرر استمرار منطق
"الاستثناء" بعد دسترته وتحويله إلى سياسة عامة للدولة وأجهزتها في ظل
النظام الرئاسوي.
لشرعنة
موقفه من المعارضة الجذرية ومن الموالاة النقدية على حد سواء، ولرفع الحرج عن
الأجهزة الأمنية والقضائية المتهمة محليا ودوليا بالعديد من التجاوزات والتضييقات
على خصوم النظام الحاكم والعودة إلى ممارسات الدولة البوليسية زمن المخلوع، يضع
الرئيس ما تسميه الانتقادات الدولية بـ"الانحراف الاستبدادي" في مدار "حربٍ
تحرير وطني". فهو وكل أجهزة الدولة يخوضون معا "على نفس جبهة القتال حرب
تحرير وطني.. حرب تحرير من أجل فرض سيادتنا كاملة، والتي لن نتنازل عن أي جزء
منها".
وهو
بهذا المنطق يحصر خصومه جميعا في خانة "الخونة" أو "الأعداء"
الذين لا يمكن الانتصار في "حرب التحرير الوطني" إلا بعد القضاء عليهم.
ولا شك في أن في كل الحروب "خسائر جانبية" أو تجاوزات تقتضيها الضرورة،
ولكن لا ينبغي لذلك كله أن يطعن في "شرعية القضية" وفي
"وطنية" القائمين عليه، كما لا ينبغي لتأخر المنجز الاقتصادي (بل مواصلة
التفاوض مع صندوق النقد لعدم وجود خطة ب لدى الحكومة) أن يشكك
"الصادقين" في حتمية الوصول إلى التحرر الوطني. ولا شك في أننا هنا قد
خرجنا من دائرة السياسة إلى دائرة الإيمان.
إن
اللا مفكر فيه أو المقموع في هذا الخطاب هو طرح السؤال التالي: إذا كان مشروع
الرئيس هو حرب تحرير وطني (من عملاء الداخل وفاسديه، ومن الإملاءات الخارجية
والتدخل في الشأن التونسي)، فكيف يمكن أن يفسر لنا "تطبيع" هذا المشروع
مع منظومة "الاستعمار الداخلي" بمختلف مكوناتها الجهوية والأيديولوجية
والزبونية؟ ولماذا يحصرها في خصم سياسي معين دون بقية شركائه في "منظومة
الفساد"؟ وأين هي ملفات الفساد التي طالما شيطن بها "العشرية
السوداء"؟ ولماذا تحولت القضايا من قضايا فساد وهدر للمال العام إلى قضايا
جديدة تتعلق بالموقف من النظام الحاكم وبالسعي إلى إفراغ الحقل السياسي من أي صوت
معارض؟ وما هي البدائل الواقعية لإملاءات الجهات المانحة/ الناهبة؟ وكيف يمكن
التحرر الوطني في ظل الاعتماد على الرساميل البشرية والفكرية للمنظومة القديمة؛ التي
كانت وراء تحويل الاستقلال الصوري عن فرنسا إلى استعمار داخلي كرّس الجهوية
والتغريب والفساد المقنن والتبعية البنيوية للخارج؟
لقد
قلنا منذ الأشهر الأولى بعد 25 تموز/ يوليو 2021 (خاصة بعد صدور الأمر الرئاسي عدد 117 المؤرخ في 22 أيلول/ سبتمبر 2021) إن الرئيس يتعامل مع "حالة
الاستثناء" باعتبارها مرحلة انتقالية لتأسيس جمهورية جديدة، وهو أمر أكدته
الأحداث. كما قلنا في أكثر من موضع إن الرئيس يعتبر نفسه بديلا لا شريكا، فهو يبشر
بنظام جديد يلغي الحاجة للأحزاب وللا مركزية وينسف الديمقراطية التمثيلية وأجسامها
الوسيطة، أو على الأقل يعيد هندستها بصورة تحول سلطاتها إلى وظائف خاضعة لقصر
قرطاج باعتباره الممثل الشرعي الأوحد للإرادة الشعبية (تمثيلية لا تقبل سحب
الوكالة كما هو شأن نواب البرلمان، ولا تقبل المساءلة والمحاسبة كما هو شأن
الوزراء وباقي المسؤولين)، وكذلك باعتبار مشروعه السياسي (الديمقراطية القاعدية)
هي الأداة المثلى لتحقيق استحقاقات الثورة والاستجابة للانتظارات المشروعة للشعب،
على عكس ما قامت به نخب "الانتقال الديمقراطي" يمينا ويسارا من تزييف
للوعي ومن تدمير ممنهج للدولة وأجهزتها.
رغم
تقاطع مشروع الرئيس السياسي مع مشروع النواة الصلبة للمنظومة القديمة وقيام علاقة
"تعامد" (اعتماد متبادل) بينهما منذ إعلان الرئيس عن إجراءاته يوم 25 تموز/ يوليو 2021،
فإننا لا يمكن أن نفهم ما يقع في تونس إلا بالفصل –ولو منهجيا- بين مشروع الرئيس
وبين تلك المنظومة دون أن يعنيَ ذلك الذهول عن واقع أنهما شكلان معا منظومة سلطوية
واحدة، وهي منظومة غير متجانسة وتتحالف مكوناتها تكتيكيا لا استراتيجيا.
فإيقاف
زعيم حركة النهضة أو إغلاق مقرات حركة النهضة وجبهة الخلاص -ولا شك في أنه خيار
تصعيدي ستتبعه قرارات أخرى
لن تستثنيَ أي معارضة سياسية أو نقابية أو مدنية أو
إعلامية- هو أمر ضروري بالنسبة للنواة الصلبة لمنظومة الحكم، وذلك للتغطية على
الأزمة الاقتصادية وعلى برنامج "الإصلاح الهيكلي" الذي لن تستطيع تونس
رفضه مهما كانت المزايدات بالاستقلالية والسيادة ورفض الإملاءات، وهو أمر ضروري
أيضا لأنه سيحرف الرأي العام عن المتسببين الحقيقيين في تفقير الشعب وإذلاله
وإفشال أي مشروع لإعادة توزيع أكثر عدل للثروة والسلطة (منظومة الاستعمار الداخلي
بجناحيها المالي والأيديولوجي).
أما
الرئيس فإنه يهدف من وراء هذه القرارات إلى استمالة القوى الاستئصالية الرافضة
لوجود الإسلاميين في الحكم أو المعارضة على حد سواء وتقوية حزامه السياسي (حتى من
بين أولئك الرافضين لتوجهات "تصحيح المسار"). إنه يحتاج إلى "أضحية
مقدسة" أو كبش فداء ليعمّد مشروعه السياسي الجديد، وليؤكد أنه "لا عودة
إلى الوراء"، أي إلى ما قبل 25 تموز/ يوليو وليس -كما فهم البعض- لا عودة إلى
المنظومة القديمة وخياراتها الكبرى اقتصاديا وسياسيا قبل الثورة (خاصة تحويل
الإسلاميين إلى ملف أمني قضائي أو ملف حقوقي).
ولن
يجد الرئيس أفضل من حركة النهضة للقطع مع "الربيع العربي 1" وهدم منجزه الهش، ليس فقط باعتبار
أنها كانت وما زالت العدو الرئيس لأغلب القوى "الحداثية" على اختلاف
سردياتها ومواقعها في المرحلة التأسيسية وفي عملية الانتقال الديمقراطي، بل لأنها
كانت واسطة العقل في النظام البرلماني المعدّل وفي الديمقراطية التمثيلية، ولأنها
ما زالت تعتبر "تصحيح المسار" انقلابا ولا تعترف بشرعيته ولا بشرعية ما
تأسس عليه، ولأن وجودها ذاته يطعن في صدق السردية الرئاسية القائلة بانتهاء الحاجة
إلى الأحزاب وضرورة إيجاد وسائط أخرى لتمثيل الشعب.
ختاما،
فإن التطورات الأخيرة في تونس هي تطورات مفصلية سيكون لها ما بعدها، فالسلطة تتجه
إلى إحياء
مقاربة المخلوع للتعامل مع وجود الإسلاميين في الحقل السياسي. وقد تعمد
السلطة إلى حل حركة النهضة وتحقيق حلم أغلب القوى الاستئصالية التي صاغها الوطدي
منجي الرحوي في قوله "تونس ستكون أفضل بدون النهضة في الحكم وفي
المعارضة" (أي في السجون والمنافي، أو كملف حقوقي تشتغل عليه "القوى
الحداثية" كما هو الشأن زمن المخلوع). ولكنّ الأسئلة التي لم يطرحها الرحوي
ومن على شاكلته في اليسار الوظيفي هي التالي: بأي معنى ستكون تونس أفضل اقتصاديا
واجتماعيا وثقافيا عند غياب النهضة (وهل كانت أفضل عند تغييبها زمن حكم المخلوع
والمافيات العائلية)؟ وهل يمكن أن توجد ديمقراطية أو حريات خاصة وعامة باستهداف
الإسلاميين على أساس الهوية؟
ولكن
الأسئلة الأهم هي تلك التي يجب على حركة النهضة وقياداتها التوافقية -أو من سيأتي
بعدهم- الإجابة عنها: ماذا ربحتم من عدم فتح ملفات العهد القديم وتحميل كل الأطياف
الأيديولوجية (خاصة الوطد وبعض أطياف اليسار الاستئصالي) مسؤولياتها القانونية
والأخلاقية عن جرائم المخلوع ( بالمشاركة أو بالتحريض أو بالتبرير)؟ وماذا استفدتم
من فصل مسار المساءلة والمحاسبة وتفكيك بنية الاستبداد والفساد عن مسار المصالحة
وجبر الضرر؟ أو بصياغة أخرى: ماذا ربحتم من التطبيع مع المنظومة القديمة بشروط تلك
المنظومة اللا وطنية بعيدا عن انتظارات عموم المواطنين؟ وماذا ربح التونسيون من
وجودكم شهود زور في ديمقراطية صورية زادتهم فقرا وانقساما وخضوعا لوكلاء الداخل
وإملاءات الخارج إقليميا ودوليا؟
twitter.com/adel_arabi21