تصدير:
"بين الزمن السياسي والزمن الديني، الإسلام السياسي يسقط ليلة القدر"
(العنوان العريض لصحيفة "الشعب" الناطقة باسم الاتحاد العام التونسي
للشغل، 20 نيسان/ أبريل 2023)
رغم
بنيتها الدينية الصرف، يبدو أن السرديات الإسكاتولوجية (علم الأخرويات أو علم
نهاية الزمن) قد استطاعت أن تتأقلم مع الفضاء العلماني منذ بدايات "الأزمنة
الحديثة"، بصورة أشد مكرا من أن ينتبه إليها أنصارها أو حتى خصومها حينا من
الدهر. وهو أمر أكدته الدراسات التي اشتغلت على أكثر الأطروحات رفضا للمنطق الديني
وتبشيرا بنهايته كالماركسية، فهذه الأطروحة -رغم ادعاءاتها الذاتية- هي في بنيتها
العميقة "طوبى" مسيحية مُعلمنة أو "كنيسة مقلوبة".
ولا
شك في أن سردية "نهاية التاريخ" للمفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما
القائلة بأن
الديمقراطية الليبرالية تمثّل "سبت التاريخ" أو الأيديولوجيا
الأخيرة للإنسان، لا تخرج عن هذه السرديات الإسكاتولوجية رغم نسقها الحجاجي المُعلمن.
أمّا في فضاء "التابع" أو الهامش، فإن موضوع "الأخرويات" كان
أساسا هو "الإسلام السياسي". فإذا كان الإسلاميون يعتبرون "غربة
الإسلام" مظهرا من مظاهر الانحدار نحو نهايات الزمان أو علامات الساعة، فإن
العلمانيين يعتبرون نهاية الإسلام السياسي شرطا لانبثاق حقل سياسي ديمقراطي -أو
انتظام سياسي طبيعي-، بعيدا عن وصاية "الموقعين عن رب العالمين".
بصرف
النظر عن التحيز المعروف الذي عرف به اتحاد الشغل ضد الحركات الإسلامية في تونس
وخارجها، وبصرف النظر عن مناصرة أغلب مكوناته الأيديولوجية (اليساريين، القوميين،
العاشوريين أو البيروقراطيين) للرئيس ولتصحيح المسار ورفض أي عودة لما قبل 25 تموز/
يوليو 2021، فإنّ عنوان صحيفة المركزية النقابية الوارد في التصدير، يعكس رغبة/ حلم
أغلب "القوى الديمقراطية" منذ المرحلة التأسيسية (إخراج حركة
النهضة من
الحكم والمعارضة على حد سواء، وتحويلها إلى ملف قضائي أو حقوقي).
ما يشترك فيه كل الرافضين لوجود أحزاب ذات مرجعية إسلامية، هو مفهوم "الاستثناء الإسلامي"، أي التعارض الجوهري والنهائي بين الإسلام والمبادئ المؤسسة للديمقراطية، أو الفلسفة السياسية الحديثة.
إننا أمام طرح يتجاوز مستوى التحليل التاريخي أو الوصف إلى مستوى الاستشراف أو "النبوءة"، فهو يعمم الحكم على الماضي والحاضر والمستقبل، ويختزل كل الإسلاميين في خانة واحدة.
وليس
يعنينا في هذا المقال أن نفكك تلك الرغبة/ الحلم أو أن نفسّر أسبابها العميقة؛
بقدر ما يعنينا أن نبحث -ولو بصورة أولية تحتاج إلى تفصيلات طيّ مقالات أخرى- في
قضيتين مركزيتين: أولا قضية تحوّل الرغبة إلى "استشراف" أو "نبوءة
ذاتية التحقق"، (بالمعنى الذي ضبطه عالم الاجتماع روبرت. ك. ميرتون)، ثانيا
قضية "التأطير" أو الدمغجة وتزييف الوعي، التي يمارسها أصحاب هذا الطرح
عندما يحملون المتلقي على المقابلة بين الزمن السياسي والزمن الديني، وليس بين
الزمن الديمقراطي
والزمن الاستبدادي.
دون
الدخول في مجادلة مفهومية مع خصوم "الإسلام السياسي" (وهو تعبير يفترض
وجود إسلام غير سياسي -أي ذا بعد جماعي يتجاوز البعد الشخصي- كما يفترض وجود نظام
حكم "علماني" لا يوظف الإسلام في السياسة أو يحتكر معناه
"الصحيح")، فإن ما يشترك فيه كل الرافضين لوجود أحزاب ذات مرجعية
إسلامية، هو مفهوم "الاستثناء الإسلامي"، أي التعارض الجوهري والنهائي
بين الإسلام والمبادئ المؤسسة للديمقراطية أو الفلسفة السياسية الحديثة.
إننا
أمام طرح يتجاوز مستوى التحليل التاريخي أو الوصف إلى مستوى الاستشراف أو
"النبوءة"، فهو يعمم الحكم على الماضي والحاضر والمستقبل، ويختزل كل
الإسلاميين في خانة واحدة مهما كان مقدار "تصالحهم" مع الديمقراطية، أو
رغبتهم في تجاوز مرجعياتهم التراثية الأصلية.
ولو
أردنا استعمال معجم ميرتون ذاته لقلنا؛ إننا هنا أمام "تعريف خاطئ للوضع
الذي يستحضر سلوكا جديدا يجعل من المفهوم الزائف الأصلي حقيقة"، أو
بتعبير آخر نحن أمام تحليل خاطئ هدفه تبرير سلوك السلطة الحليفة (ضرب الديمقراطية
التمثيلية أو المنظومة الحزبية يصبح ضربا للإسلام السياسي)، وتأكيد المصادرة الكبرى
"الزائفة" (أي مصادرة "الاستثناء الإسلامي" القائلة بالتعارض
بين الإسلام والديمقراطية، أو ما تسميه جريدة "الشعب" بالتعارض بين
الزمن الديني والزمن السياسي)، وهو ما يجعل حامل النبوءة -أي الاتحاد- يوثق
الأحداث، "كدليل على أنه كان على حق منذ البداية"، كما يقول ميرتون.
ولو
أردنا اختزال موقف الاتحاد -بل موقف أغلب ما يسمى بـ"القوى الديمقراطية"-
من "الإسلام السياسي" وعلاقة ذلك كله بـ"النبوءة ذاتية
التحقق"، لقلنا؛ إن تلك النبوءة لم تكن لتتحقق لولا سعي هؤلاء إلى حدوثها
وتأكيد عدم زيف مصادرتها الكبرى (الاستثناء الإسلامي، أو عدم أهلية الإسلاميين
للعمل السياسي القانوني وللمشاركة في إدارة الشأن العام وبناء "المشترك
الوطني").
رغم انتماء اتحاد الشغل إلى "الموالاة النقدية" التي تناصر "تصحيح المسار" دون التماهي معه (وهو ما يجعله يمتلك -نظريا- مساحة للمناورة وللضغط أو حتى للوساطة)، ورغم موقف السلطة السلبي من الاتحاد ومبادراته "الحوارية" كلها، فإننا لا نستغرب أن تقرأ المركزية النقابية التضييق على العمل الحزبي أو تحويل الصراع السياسي إلى ملف أمني- قضائي.
فعندما
ترفض أغلب "القوى الديمقراطية" الخروج من المنطق اللائكي المتطرف
(المنحدر من اللائكية الفرنسية التي تحولت في فضائها الأصلي إلى "دين
علماني"، وليس فقط إلى أداة لتنظيم علاقة الدين بالدولة فقط، كما هو الشأن في
النموذج العلماني الأنغلوساكسوني وغيره)، وعندما تمارس تلك القوى نوعا من
"الاستعلاء الديمقراطي" على حركة النهضة (رغم خلو أدبياتها وتاريخها
وتنظيماتها من أدلة على استحقاق ذلك الاستعلاء أو الوصاية)، وعندما يعامَل
الإسلاميون وكأنهم من "طائفة المنبوذين"، وعندما تتحول أغلب وسائل
الإعلام إلى نسخ بائسة من إذاعة "الألف تلّ" الرواندية بما تمارسه من
تحريض ممنهج على جزء من التونسيين، على أساس الهوية السياسية أو الأيديولوجية،
وعندما تقوم النخب بتزييف الوعي وتدليس الحقائق بربط كل الآفات الاقتصادية
والأمنية والاجتماعية بوجود حركة النهضة (وليس بوجود منظومة الاستعمار الداخلي، التي لم تكن النهضة في أسوأ الأحوال إلا وكيلا من وكلائها)، فإن
"النبوءة" ستتحقق لامحالة، أو بالأحرى ستُقرأ الأحداث وكأنها تأكيد لصدق
تلك "النبوءة".
رغم انتماء اتحاد الشغل إلى "الموالاة النقدية" التي تناصر "تصحيح المسار" دون التماهي معه (وهو ما يجعله يمتلك -نظريا- مساحة للمناورة وللضغط أو حتى للوساطة)، ورغم موقف السلطة السلبي من الاتحاد ومبادراته "الحوارية" كلها، فإننا لا نستغرب أن تقرأ المركزية النقابية التضييق على العمل الحزبي أو تحويل الصراع السياسي إلى ملف أمني- قضائي بصورة تجعله مقبولا،
بل مشروعا.
فمن
يُسمّون منظمتهم بـ"خيمة تونس" لم تتسع خيمتهم يوما لغير ورثة المنظومة
القديمة وحلفائهم الموضوعيين من اليساريين والقوميين، وهم لم يكونوا يوما عاملا من
عوامل توحيد التونسيين ولم يطرحوا على أنفسهم تجاوز الصراعات الهوياتية ومنطق
التناقض الرئيس (التناقض مع الإسلاميين أو "الرجعية الدينية")، والتناقض
الثانوي (التناقض مع
الاستبداد أو "الرجعية البرجوازية").
ولذلك، فإن حديث جريدة "الشعب" عن الزمنيَن السياسي والديني (مع افتراض أن
ممارسة السلطة هي ممارسة مشروعة تنتمي إلى "الزمن السياسي"، وتهدف إلى
إنقاذ البلاد من "الزمن الديني" الذي تمثله حركة النهضة)، هو أمر متناسق
مع تاريخ الاتحاد ومع مواقف مكوناته الأيديولوجية قبل الثورة (توفير غطاء نقابي
لمحرقة الإسلاميين أوائل التسعينيات والتحالف الموضوعي مع الاستبداد النوفمبري)، وبعدها (مناصرة ورثة المنظومة القديمة عبر حركة نداء تونس، شرعنة "إجراءات 25 تموز/يوليو واعتبارها استجابة لمطلب شعبي، رفض أي عودة للنظام البرلماني المعدّل الدي
تهيمن عليه حركة النهضة).
ولا
شك في أن هذا التموقع (امتيازات السلطة وشرف المعارضة) يحتاج إلى نسق حجاجي، تغلب
عليه المغالطة والتزييف والتأطير والتلاعب القصدي بالوعي الشعبي، وغير ذلك من
آليات "الدمغجة" ومن مظاهر "البياض" أو الفراغات واللا مفكر
فيه. وهي آليات تتحكم في إنتاج المعنى طيّ سردية "نهاية الإسلام
السياسي"، أو سردية عدم احتياج المنتظم السياسي الطبيعي أو الديمقراطية ذاتها
لوجود الإسلاميين (بمن فيهم أولئك الذين تجاوزوا منطق البديل إلى منطق الشريك، وقبلوا بقانون السياسة والاحتكام إلى الإرادة الشعبية وصناديق الاقتراع).
لو
أردنا التمثيل لآليات الاستيهام (إيهام الذات) أو الدمغجة (إيهام الآخرين) بآلية
واحدة، فإننا سنختار مظهرا من مظاهر "اللا مفكر فيه" في بناء مواقف
الاتحاد وأغلب حلفائه بعد الثورة، خاصة بعد 25 تموز/ يوليو 2021. فهؤلاء يقرؤون
سلوك السلطة دون ذاكرة، ودون قدرة على بناء قراءة موضوعية لسردية "تصحيح
المسار" وأسسها النظرية.
قراءة الموقف السلطوي من حركة النهضة باعتباره موقفا من "الإسلام السياسي" أو من "الزمن الديني"، هو ضرب من "الإيهام الذاتي" قبل أن يكون مغالطة للمتلقي. فمشروع الرئيس يقوم على انتهاء زمن الأحزاب كلها (وليس فقط نهاية زمن الأحزاب الإسلامية)، كما أنه مشروع يلغي الحاجة إلى الأجسام الوسيطة، على الأقل بالصورة التي كانت عليها في الديمقراطية التمثيلية.
فمن
جهة الذاكرة، ينسى هؤلاء أن تحالف "القوى الحداثية" مع المخلوع ضد حركة
النهضة قد قتل الحياة السياسية، وجعل "الديمقراطيين" إما مجرد أجسام
وظيفية في خدمة "الاستعمار الداخلي" أو مواضيع لقمع السلطة وللعنف
الرمزي أو المادي. أما من جهة الأسس النظرية لـ"تصحيح المسار"، فإن
قراءة الموقف السلطوي من حركة النهضة باعتباره موقفا من "الإسلام
السياسي" أو من "الزمن الديني"، هو ضرب من "الإيهام
الذاتي" قبل أن يكون مغالطة للمتلقي. فمشروع الرئيس يقوم على
انتهاء زمن
الأحزاب كلها (وليس فقط نهاية زمن الأحزاب الإسلامية)، كما أنه مشروع يلغي الحاجة إلى
الأجسام الوسيطة، على الأقل بالصورة التي كانت عليها في الديمقراطية التمثيلية.
إن
"رغبة" الاتحاد ومكوناته الأيديولوجية في نهاية "الإسلام
السياسي"، قد جعلتهم -منذ 25 تموز/ يوليو 2021- يذهلون عن رغبة أخرى هدفها
إلغاء الحاجة إلى الأجسام الوسيطة كلها، أو على الأقل ضرب استقلاليتها وتدجينها
لخدمة السلطة كما كان شأنها زمن المخلوع. ولذلك، فإن قراءة موقف النظام التونسي من
حركة النهضة باعتباره "تصحيحا" للانتقال الديمقراطي أو دفاعا عن الدولة
ومدنيتها هي قراءة متهافتة، سواء من جهة السوابق التاريخية أو من جهة أهداف
المنظومة السلطوية الحالية. فنهاية
حركة النهضة -حتى لو وقع حلها بحكم قضائي- لا
يعني بالضرورة نهاية الإسلام السياسي، بل قد يكون مدخلا لظهور تنظيمات متطرفة، تعكس
الاغتراب الذي يعانيه "المسلم الحزين" في الفضاء المعلمن بمنطق اللائكية
ونخبتها الفرنكفونية. كما أن خروج "الإسلام السياسي" من دائرة العمل
القانوني-بل حتى سن قانون يجرّم بقاء/ أو تكوين أحزاب ذات مرجعية إسلامية- لن يعطيَ
أية "ضمانة" للديمقراطية ومؤسساتها؛ بقدر ما سيضعفها ويجعلها موضوعا لاستراتيجيات
سلطوية، لن تختلف كثيرا عن استراتيجيات السلطة ومآلاتها زمن المخلوع.
ختاما،
فإننا لن نجد أفضل من هذا السؤال لطرحه للنقاش العام داخل تونس وخارجها: هل يمكن
بناء ديمقراطية عربية أو أي مشروع وطني (داخل إطار الدولة- الأمة) دون مشاركة
الإسلاميين (بالعمل معهم أو ضدهم سياسيا، وليس باستهدافهم الممنهج عبر أجهزة القمع
الأيديولوجية والأمنية)؟ أي هل يمكن بناء ديمقراطية حقيقية دون تجاوز سردية
"الاستثناء الإسلامي" التي مثّل القائلون بها (المتطرفون العلمانيون
والمتطرفون الدينيون، خاصة منهم أصحاب الفكر اللائكي الفرنسي وأصحاب الفكر
التكفيري الوهابي) أكبر عائق أمام العمل المشترك بين الإسلاميين وغيرهم، في إطار
القانون والاعتراف المتبادل؟
twitter.com/adel_arabi21