من الادعاءات غير الواقعية التي تكاد تكتسب مصداقية بسبب الضخ
الإعلامي، هي أن
السعودية ترغب في الانسحاب من المستنقع
اليمني، وهي ادعاءات تجهل
إلى حد كبير حجم النفوذ الذي تتمتع به المملكة العربية السعودية في اليمن، منذ
عقود، ودورها المفصلي في الأحداث التي عصفت باليمن قبل أن يتوحد وبعد إعادة تحقيق
وحدته في 22 أيار/ مايو 1990.
لقد نجحت السعودية في سحب الخيار العسكري من أجندة تدخلها في الشأن
اليمني، وها هو سفيرها محمد آل جابر يكافح لتأكيد حقيقة دور بلاده في اليمن
باعتبارها وسيطة وراعية لعملية سياسية بين الأطراف اليمنية، يفترض أن تُفضي إلى
إنهاء الحرب وتحقيق السلام استناداً إلى إرادة اليمنيين وحدهم وليس غيرهم.
وأمام هذا التحول الدراماتيكي في الموقف السعودي، تتباين ردود
الأفعال بشأن قبول الحوثيين بإعادة التموضع السعودي الجديد دون حصولهم على ما
يريدون، أو تصديق حلفاء المملكة بإمكانية تحقيق ما لم يتم تحقيقه عندما تدخلت
السعودية عسكرياً، ولم تشأ رغم ذلك الوصول بالمعركة إلى نهايتها المثالية.
وبسبب من هذا التحول يبدو أن المجتمع الدولي بات فاقداً للنفوذ في
الملف اليمني كما كان عليه الحال في بداية الصراع، بعد أن نجحت السعودية أيضاً في
التحرر من الابتزاز الغربي الذي مورس عليها، على خلفية قيادة السعودية لعملية
عسكرية ارتبطت بنتائج سيئة على صعيد حقوق الإنسان، أو جرى تضخيم هذا البعد من قبل
الصحافة وجماعات الضغط بشكل مقصود.
السفير محمد آل جابر زار عدن مؤخراً، وتركزت زيارته حول التبشير
بحزمة من المشاريع التنموية التي تمولها بلاده، ويجري أو سيجري تنفيذها في عدن
وعدد آخر من المحافظات الواقعة تحت السلطة الشرعية، وسط اهتمام المراقبين الذين
اعتبروها مواساة لرئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور رشاد العليمي، الذي فقد للتو
اثنين من أعضاء المجلس هما القيادي السلفي عبد الرحمن المحرمي، واللواء فرج
البحسني، وهما عضوا مجلس القيادة الرئاسي، اللذين تم تعيينهما نائبين لرئيس المجلس
الانتقالي الجنوبي الانفصالي.
لا أحد يجادل في أهمية المشاريع التنموية السعودية التي تلبي حاجات ملحة وضرورية للمواطن اليمني المنكوب بالحرب، لكن ثمة قناعة تامة لدى معظم المهتمين بأن هذه المشاريع لا تنطوي على أي نية سعودية لتكريس نفوذ مجلس القيادة الرئاسي والحكومة، ولا تشكل ضغطاً من أي نوع على المشروع الانفصالي الذي تفاقم تأثيره بسبب إصرار السعودية على فرض اتفاق الرياض
على أن أخطر ما تؤشر إليه زيارة السفير آل جابر، هي أنها توفر تغطية
مقصودة على التطورات السياسية الخطيرة جداً في عدن، والتي تكرس منطق الانفصال
وتفرضه خياراً حتمياً على أجندة السلطة الشرعية، خصوصاً بعد انحياز اثنين من أعضاء
مجلس القيادة الرئاسي للمشروع الانفصالي، في أعقاب ملتقى تشاوري للمكونات الجنوبية
عقده المجلس الانتقالي، وأفضى إلى إقرار عدة وثائق كلها تؤكد على هدف واحد هو
الانفصال والتعامل مع الجزء الشمالي من اليمن على أنه الجمهورية العربية اليمنية.
لا أحد يجادل في أهمية المشاريع التنموية السعودية التي تلبي حاجات
ملحة وضرورية للمواطن اليمني المنكوب بالحرب، لكن ثمة قناعة تامة لدى معظم
المهتمين بأن هذه المشاريع لا تنطوي على أي نية سعودية لتكريس نفوذ مجلس القيادة
الرئاسي والحكومة، ولا تشكل ضغطاً من أي نوع على المشروع الانفصالي الذي تفاقم
تأثيره بسبب إصرار السعودية على فرض اتفاق الرياض في الخامس من تشرين الثاني/
نوفمبر 2019، وتقاعسها لاحقاً عن تنفيذ بنوده السياسية والعسكرية والأمنية.
زيارة السفير السعودي إلى عدن، تزامنت مع تسليم مطار الريان في
محافظة حضرموت للسلطة المحلية، في ترضية واضحة لأبناء هذه المحافظة، لأن الأمر كان
مرتبطاً بقبول الإمارات بالانسحاب العسكري من هذا المطار وقد حدث بالفعل، خصوصاً
أنه حدث بعد وقت قصير من زيارة قام بها إلى السعودية نائب حاكم أبوظبي ومستشار
الأمن القومي الإماراتي، طحنون بن زايد.
أثناء عودته من عدن إلى الرياض أطلق السفير السعودي تصريحات مثيرة
للاهتمام تصب في خانة التأكيد على الدور الوسيط لبلاده، وتؤكد على أنها بصدد النأي
بنفسها عن مآلات الأزمة وتداعياتها، ورهنها بإرادة الأطراف اليمنية ذاتها وليس
بالثقل الكبير للسعودية في هذه الأزمة بالنظر إلى ما تمارسه من نفوذ على القرار
السيادي اليمني.
ففي حين عبر السفير آل جابر في تلك التصريحات عن ثقته "بأن
الجميع جديون وأن الجميع يبحث عن السلام"، يشير في الآن نفسه إلى أنه
"ليس من السهل استيضاح الخطوات التالية"، وهي مفردات بقدر ما تثير
الإحباط، فإنها تقدم دليلاً قطعياً على أن السعودية تتلبس دور الوسيط المحايد،
وبأنها بالفعل قد حسمت أمرها عبر دور غير مكلف، ولن يضطرها للغوص في المستنقع اليمني
كما يدعي البعض، وبأنها بالعكس من ذلك تتهيأ للدفع بالجميع إلى مستنقع من الصراع،
يسهل معه التحكم بأطرافه اليمنية، وفرض الخيارات الاستراتيجية للمملكة على الجميع.