على الرغم من
حصول حزب
العدالة والتنمية على أغلبية مريحة في
انتخابات 14 أيار/ مايو 2023، إلا
أن رئيسه لم يتمكن من الظفر بمقعد الرئاسة من الجولة الأولى، كما اعتاد الرجل على
مدى حياته السياسية الممتدة منذ تسعينيات القرن الماضي. وبعيداً عن حسابات الجولة
الثانية من الانتخابات، ومن سيحصد أصواتها، في لعبة التكهنات والمواءمات والصفقات،
فإن ذهاب طيب
أردوغان للجولة الثانية هو تحد حقيقي للرجل الأقوى في
تركيا على مدى
عشرين عاماً.
تحليلات كثيرة
خرجت مع الساعات الأولى لظهور النتائج الأولية للانتخابات الرئاسية والبرلمانية،
ذهبت أغلبها إلى أن الشباب كان لهم قول فصل في حرف النتائج التي بطبيعة الحال تذهب
لأردوغان بنسبته المعتادة، في دولة ارتضت بالديمقراطية والشفافية، ما جعلها تقبل
برئيس يصل إلى سدة الحكم بنسبة خمسين ونصف في المئة أو على أقصى حد اثنين وخمسين في
المئة. ولعل -أيضاً- توحيد المعارضة بكامل أطيافها والشحن المعنوي للتخلص من الرئيس،
جعل الإقبال على
التصويت هو الأعلى في تاريخ الجمهورية التركية، ولكل في هذا الهدف
مأرب، لكن القضايا الأساسية في هذا الشحن كانت اللاجئين السوريين، والأزمة
الاقتصادية، وإن كان أردوغان عالج الأمرين بعقلانية، إلا أن شعبوية طرح المعارضة
طغت على صوت الحلول العقلانية للحزب الحاكم.
لطالما كانت الكتلة المحافظة والمتدينة في تركيا هي الكتلة الصلبة التي يستند عليها حزب العدالة والتنمية ورئيسه خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية، لكنها بدأت تنحرف في تصويتات عقابية كان أبرزها الانتخابات المحلية في 2018
لطالما كانت
الكتلة المحافظة والمتدينة في تركيا هي الكتلة الصلبة التي يستند عليها حزب
العدالة والتنمية ورئيسه خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية، لكنها بدأت تنحرف في
تصويتات عقابية كان أبرزها الانتخابات المحلية في 2018، حين عاقبت تلك الكتلة -أو
دعنا نقول جزء ليس بالقليل من هذه الكتلة- حزب العدالة والتنمية ومرشحه بن علي
يلدرم لصالح مرشح حزب الشعب الجمهوري، الذي أذاق تلك الكتلة الأمرّين على مدى
تاريخه، فكان تصويت بلدية إسكودار وبلدية أيوب سلطان مفاجأة، يبدو أن العدالة
والتنمية لم ينتبه لها في زحمة الاعتراض على نتائج الانتخابات في حينها، لتعيد هاتان
البلديتان الكرّة مرة أخرى في 2023 وتعاقب الرئيس، ما يستوجب الوقوف عند الظاهرة.
في بحث أجراه
مركز أبحاث التأثير الاجتماعي في تركيا (TEAM)
على خلفية نتائج استطلاع رأي أجراه المركز على من وصفه بالناخب المتدين، بانيا
اختيار شريحته على نتائج انتخابات 1995، حيث الولايات التي أعطت أصواتها لحزب
الرفاه ثم حزب العدالة والتنمية في انتخابات 2002، في قونيا، وقيصري، ويوزغات،
وسيواس، ومالاتيا، وإيلازيغ، وبنجول، وأرزروم، وعنتاب، وكوجالي، وإسطنبول، وهي
المناطق التي يعيش فيها الناخب المتدين بكثافة، وأجرت مقابلات مع 2424 شخصاً، وفي
تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 أصدر البحث تحت عنوان: المتدينون يبتعدون عن حزب
العدالة والتنمية.. "الاهتمام والفساد والهدر زاد".
ويُظهر البحث أن
الموقف النقدي من حكومة العدالة والتنمية زاد في صفوف الشريحة المفحوصة، حيث يرى
الناخبون، وهم متدينون، أنهم لا يرغبون في أن يكونوا قوميين، في إشارة إلى التحالف
الذي يربط حزب العدالة والتنمية بحزب الحركة القومية، وأن براجماتية الحزب تعدت
الأيديولوجية التي كانوا يصوتون للعدالة والتنمية من أجلها، فعلى الرغم من وجود
دعم لأردوغان وحزبه، إلا أن هناك مسافة بدأت تظهر وتزداد بين هذه الشريحة والحزب.
هذه الملائكية التي بدأت ترتفع وتيرتها، حتى بين أعضاء الجماعات التي تعلن دعمها لحزب العدالة والتنمية، ربما تكون عاملا في تراجع نسب التصويت للحزب، ولعل رئيس حزب الرفاه من جديد، فاتح أربكان، في تفاوضه مع العدالة والتنمية قبل الدخول في تحالف معه في الانتخابات الأخيرة، نهج نفس النهج ووضع شروطاً تراجع عنها لاحقاً، في واقعية سياسية تبتعد كثيراً عن تلك الملائكية غير المدركة لظرف المكان والزمان والتحديات
في مقابلة أجراها
الصحفي والإعلامي المعروف روسين كاكير، على قناة ميديا سكوب في آب/ أغسطس 2022، مع
كل من إحسان إليجيك وروشن شاكر، والأول هو رجب إحسان الياسيك الكاتب وعالم العقيدة،
الذي طور نظرية التكوين الإسلامي السياسي والمعروف بمعادته للرأسمالية في كتاباته،
والثاني هو الصحفي والإعلامي المعروف بتوجهه الإسلامي، وله العديد من المحاضرات عن
الفكر السياسي الإسلامي المعاصر وعلاقة الإسلام والديمقراطية والمجتمع المدني..
اتفق الاثنان على أن الحزب الحاكم، وهما كانا جزءا من تكوينه مع بداياته ولهما
علاقات وثيقة مع مؤسسيه ورعيله الأول، ابتعد كثيراً عن النهج الذي أسس من أجله إلى
مساحات البراجماتية، حتى صار جزءا من منظومة الحكم الذي تأسس الحزب بالأساس ليهدمها
ويبني منظومة إسلامية ملائكية، أو "يوتوبية" (نسبة إلى المدينة الفاضلة
لأفلاطون)، يعيش فيها الأتراك حياة الصحابة.
جاء في المقابلة:
"أولئك الذين قالوا: "سأصوت لحزب العدالة والتنمية مرة أخرى في
الانتخابات" شعروا بالإهانة ولم يتمكنوا من العثور على ما كانوا يتوقعونه".
وورد أيضا: "لقد دخل الحزب الحكومة ورأى بركات القوة، وقالوا إنهم عادوا إلى
الأماكن التي كانوا مستبعدين منها لسنوات عديدة، وقد حان دورهم الآن"، في
إشارة إلى اقتسام المغانم، وهي رواية تتعالى أصوات المعارضة بها، وتُقبل شعبياً،
رغم ندرة قضايا الفساد التي تورط فيها أعضاء حزب كبير في الحكم منذ عشرين عاماً.
هذه الملائكية
التي بدأت ترتفع وتيرتها، حتى بين أعضاء الجماعات التي تعلن دعمها لحزب العدالة
والتنمية، ربما تكون عاملا في تراجع نسب التصويت للحزب، ولعل رئيس حزب الرفاه من
جديد، فاتح أربكان، في تفاوضه مع العدالة والتنمية قبل الدخول في تحالف معه في
الانتخابات الأخيرة، نهج نفس النهج ووضع شروطاً تراجع عنها لاحقاً، في واقعية
سياسية تبتعد كثيراً عن تلك الملائكية غير المدركة لظرف المكان والزمان والتحديات،
لذا فإنه على الحزب ورئيسه، أن ينظر بعين الاعتبار لهذه الشريحة التي تنمو مع
الوقت قبل أن تصبح كتلة لا يمكن ترويضها في المستقبل.