في الأوساط
الصحافية المتابعة للشأن الدولي، ثمة مزحة سائدة تقول إنّ
روسيا خاضت حرباً ضروساً
لمنع دولة واحدة من دخول حلف شمالي الأطلسي (
الناتو) أي أوكرانيا، فابتليت
بدولتين (السويد وفنلندا).
من يتبنّى هذا
القول، هو فعلياً، كمن يطلق الأحكام عن ملوحة مياه البحر قبل أن يزوره، فلا يدرك
هامشية انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف بالنسبة لروسيا، في مقابل اهتمامها الفائق
بمنع أوكرانيا من الحصول على تلك العضوية، وبأيّ ثمن.
عملياً، متبنّو
هذا القول يظنون أنّ المسألة تتعلق بالكمية، لكنّ الأمر في الحقيقة يخصّ النوعية!
لأوكرانيا مكانة خاصة لدى روسيا. تاريخها الروسي وموقعها الجغرافي القريب من موسكو، يجعلان موافقة الكرملين على انضمامها إلى "الناتو" يكاد يكون أمراً مستحيلاً، بل يكاد يكون قبولاً بالانتحار
فالدول الغربية
تعرف جيداً، أنّ دخول سائر الدول الإسكندنافية إلى الناتو لن يتسبّب بإزعاج موسكو
لأنّ هذا الأمر لا يعنيها. فلا مواطنو هذه الدول يتحدثون الروسية، ولا تشكل تلك
الدول أيّ تهديد على الأمن القومي الروسي أو على جيو- استراتيجية روسيا، لكنّ
الأمر يختلف كلياً حينما يصل إلى أوكرانيا التي سيعني دخولها الحلف تهديداً مباشراً
للعمق الروسي ويهدد بـ"حرب عالمية ثالثة"، بالفعل وليس بالقول.
فلأوكرانيا مكانة
خاصة لدى روسيا. تاريخها الروسي وموقعها الجغرافي القريب من موسكو، يجعلان موافقة
الكرملين على انضمامها إلى "الناتو" يكاد يكون أمراً مستحيلاً، بل يكاد
يكون قبولاً بالانتحار.
هذه الحقيقة
تعرفها كييف جيداً، ولهذا لا يوفّر الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي فرصة إلاّ
ويطالب الغرب والأمانة العامة للحلف بالموافقة على طلب انضمام بلاده إلى الناتو،
من باب ممارسة الضغوط على موسكو، فتردّ الأخيرة بمزيد من الضربات والتوغل سعياً
لردعه عن بلوغ هذا الهدف.
كلنا يذكر ذاك
الفيديو الذي نشره زيلينسكي على مواقع التواصل الاجتماعي بدايات الحرب الأوكرانية،
يوم وقّع الرئيس الأوكراني طلب الانضمام إلى الحلف على قارعة الطريق، في مشهد
امتزج بالسريالية، داعياً الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين إلى الموافقة.
تلك الخطوة لم
تلقَ استحسان أغلب الدول الغربية في حينه، وقد أبدى أكثر من طرف غربي استياءه من
"البساطة" التي أظهرها الرئيس الأوكراني، إن لم نقل سخافته.. ومذّاك
يواظب زيلينسكي على المطالبة، بينما يستمر الغرب في التسويف والمماطلة، مستعيضاً
عن ذاك الطلب بمدّ كييف بالأموال والأسلحة من أجل "تخدير" رئيس
أوكرانيا.
آخر المحاولات
الأوكرانية، كانت قبل أسابيع خلال آخر اجتماع لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في
ألمانيا. يومها، أطلّ زيلينسكي في مؤتمر صحافي، وأبدى امتعاضه من تلكؤ الحلف،
مبدياً استياءه من عدم تلقي كييف تلك الدعوة الرسمية المنتظرة منذ سنوات، موجهاً
في الوقت نفسه ما يشبه الإنذار النهائي لدول "الناتو" من أجل قبول بلاده
في الحلف خلال القمة المنتظرة في فيلنيوس خلال شهر حزيران/ يونيو المقبل.
وسبق لزيلينسكي
أن طالب بالأمر نفسه خلال الاحتفال بعيد الفصح. يومها دعا الغرب إلى تقديم
"ضمانات أمنية" تخصّ "التحالف" في مواجهة مع روسيا، لكنّ
الضربة القاضية أتته من الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ، الذي ربط دخول أوكرانيا
الحلف بـ"انتصارها على روسيا"، قائلاً إنّ أعضاء "الناتو"
اتفقوا على أن تصبح أوكرانيا عضواً فيه، لكنّ التركيز الآن ينصبّ على "ضمان
انتصارها على روسيا".
إشارات إلى أنّ الغرب ما زال متردداً في ضمّ أوكرانيا إلى الحلف، وقد بدا هذا التردّد في دعوته إلى دعم الإصلاحات في قطاع الدفاع الأوكراني، ومساعدة كييف على "الانتقال العسكري" إلى "المعايير الغربية"، رافضاً رسم مسار محدّد أو وضع جدول زمني للعضوية في الوقت الحالي
حتى وزير
الداخلية الأوكراني دميترو كوليبا، كشف أنّ خطة نيل العضوية قد أزيلت من جدول
أعمال اجتماع "الناتو" في حينه، واعتبر أنّ طلب انضمام بلاده للحلف بات
"إجراءً شكلياً"، أي بعبارة أوضح: "حبرا على ورق".
كلام ستولتنبرغ،
حمل إشارات إلى أنّ الغرب ما زال متردداً في ضمّ أوكرانيا إلى الحلف، وقد بدا هذا
التردّد في دعوته إلى دعم الإصلاحات في قطاع الدفاع الأوكراني، ومساعدة كييف على
"الانتقال العسكري" إلى "المعايير الغربية"، رافضاً رسم مسار
محدّد أو وضع جدول زمني للعضوية في الوقت الحالي.
وهذا بدوره يطرح
السؤال: ما هي أسباب تخلّف الغرب عن وعودٍ قطعها لأوكرانيا منذ العام 2008 ثمّ جمّدها؟
ولماذا عادت لتتقدم سريعاً بداية العام 2022؟
يمكن تلخيص
الإجابة على السؤالين أعلاه، بثلاثة أسباب وهي:
1. معظم النُخب
العسكرية الغربية تعتبر أنّ الجيش الأوكراني بات من أضعف الجيوش وأقلها استعداداً
بعد الحرب مع روسيا. في نظر تلك النخب، فإنّ وجود الجيش الأوكراني ضمن
"الناتو" سيمثل تهديداً خطيراً للحلف. وفي وقت سابق، وصف قائد الكتيبة
الأولى من فوج المشاة 502 في الجيش الأمريكي، روبرت تريسي، بأنّ عناصر الجيش
الأوكراني: "سكارى، كسالى، وجشعون.. مع مستوى تعليمي منخفض".
2. العلاقة بين
الغرب والناتو وبين أوكرانيا تتسم بالـ"لا ثقة"، خصوصاً بعد فضائح
الفساد وتهم بيع المساعدات العسكرية ونهب الأموال التي وُجهت إلى ضباط وعناصر في
الجيش الأوكراني، بل طال جزء منها زيلينسكي نفسه. هذا الأمر جعل الدول الغربية
تتردّد في الموافقة على حمل أعباء دولة ينخرها الفساد وترزح تحت عبء الأزمات
الاقتصادية والديون، خصوصاً بعد وقوع الحرب.
3. الخوف من ظهور
انقسامات في أوروبا نفسها، بين دول الشرق ودول الغرب. فالبُلدان الواقعة على الجبهة
الشرقية للتحالف، لطالما شعروا بالإحباط نتيجة بطء وتيرة "التغيير" الذي
تدعو إليه دول المحور الغربي من أوروبا والولايات المتحدة، وذلك منذ بداية الصراع
في أوكرانيا.
يبدو أنّ الحلف سيبقى منقسماً حول كيفية معالجة الطلب الأوكراني، خصوصاً أنّ ثمة إجماعاً فيما يبدو على ألاّ تنضم أوكرانيا إلى "الناتو" على الفور، لأن ذلك في نظر الغرب، يحتاج إلى نقاشات حول الإشارات السياسية التي يمكن أن تتسبب بها تلك الخطوة، فتفضل الدول الغربية تقديم المساعدة لكييف بدلاً من العضوية
لكن في الوقت
نفسه، فإنّ الجبهة الشرقية للناتو، تفضّل ألا تنضم أوكرانيا إلى الحلف بسبب صراعها
المفتوح مع روسيا، ناهيك عن خوف هذه الجبهة القريبة من روسيا من تحوّلها إلى
"كبش فداء" من أجل حماية المصالح الأمريكية فحسب.
أما دول الجبهة
الغربية فتندفع إلى ضمن أكبر قدر ممكن من تلك الدول، باعتبار أنها ستكون "خط
دفاع أول" عن الجبهة الغربية البعيدة نسبياً عن روسيا، وهذا ما سبق أن أشارت
إليه صحيفة Politico الأمريكية، مؤكدة أن دول أوروبا الغربية تتحرّك بشكل أسرع وبإصرار أكبر، من أجل تعزيز حدود حلف شمال الأطلسي بالأسلحة
والوحدات العسكرية، بدلاً من إرسال مساعدات "لا طائل منها إلى كييف".
أما في المحصلة،
فيبدو أنّ الحلف سيبقى منقسماً حول كيفية معالجة الطلب الأوكراني، خصوصاً أنّ ثمة
إجماعاً فيما يبدو على ألاّ تنضم أوكرانيا إلى "الناتو" على الفور، لأن
ذلك في نظر الغرب، يحتاج إلى نقاشات حول الإشارات السياسية التي يمكن أن تتسبب بها
تلك الخطوة، فتفضل الدول الغربية تقديم المساعدة لكييف بدلاً من العضوية.