لا يمكن النظر إلى
نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية التركية من
معيار عدد المقاعد البرلمانية أو عدد الأصوات الشعبية في الانتخابات الرئاسية
بمعزل عن المناخ السياسي الاقتصادي القائم.
قبل نحو 15 عاما لم يكن الحديث يجري إطلاقا عن احتمال خسارة حزب
"العدالة والتنمية" الانتخابات، أو حصوله على مقاعد برلمانية قليلة، بل
كان الحديث يجري حول ما إذا كان الحزب سيحافظ على أغلبيته البرلمانية الساحقة.
اختلف الأمر قبل سنوات اختلافا كبيرا، ليس بسبب المدة الطويلة التي
بقي فيها الحزب بالسلطة فحسب وما أدى إلى نشوء بيروقراطية مؤسساتية تماهت في كثير
من الأحيان مع الحزب وتراجع في الليبرالية المدنية والسياسية، بل أيضا بسبب
المتغيرات الإقليمية الحادة التي انعكست سلبا على الداخل التركي، إن كان على مستوى
الاقتصاد أو على مستوى الاحتقان السياسي بين أردوغان و "العدالة
والتنمية" من جهة، والقوى الكردية والمعارضة التقليدية ممثلة بحزب الشعب من
جهة أخرى.
اختلفت صيغة السؤال، من، ما مدى قدرة الحزب في الحفاظ على أغلبيته
البرلمانية الساحقة؟ إلى السؤال، هل سيخسر الحزب أغلبيته البرلمانية؟
في ضوء هذا المناخ المتغير، يمكن اعتبار نتائج الانتخابات البرلمانية
الأخيرة نجاحا كبيرا لحزب "العدالة والتنمية" بعد سنوات من التحشيد
السياسي والاقتصادي ضد الحزب وأردوغان.
حظي تحالف الجمهور، الذي يضم أحزاب "العدالة والتنمية"
و"الحركة القومية" و"الرفاه من جديد" و"الدعوة الحرة
(هدى بار)" (أكراد)، بالأغلبية في البرلمان بإجمالي 323 مقعدا من 600، منها
268 للعدالة والتنمية، و50 للحركة القومية، و5 للرفاه من جديد.
تحقيق التحالف الأغلبية البرلمانية بعدد مقاعد قليلة شكل انتصارا لـ
"العدالة والتنمية" ولأردوغان، لأنه عنى فشل المعارضة في إجراء متغيرات
دستورية وقانونية، أهمها إعادة النظام السياسي التركي إلى النظام البرلماني.
سيناريوهان
لكن المشهد السياسي يبقى غير مكتمل بانتظار انتهاء الجولة الثانية من
الانتخابات الرئاسية في 28 من الشهر لجاري.
وهنا ستكون
تركيا أمام سيناريوهين:
الأول، فوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بمنصب الرئاسة، وفي مثل
هذه الحالة، سيكون الرئيس والحزب في وضع مريح، ليس لجهة القدرة على إجراء تعديلات
دستورية وقانونية جديدة في بنية النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وإنما لجهة
غياب الضغوط السياسية بفعل ضعف المعارضة البرلمانية.
الثاني، خسارة أردوغان منصب الرئاسة لصالح كليجدار أوغلو، وفي هذا
السيناريو، ستكون البلاد للسنوات الخمس المقبلة أمام مرحلة عصيبة جدا بين رئيس
جديد يريد توطيد مركزه ومركز حزبه وحلفائه في ظل برلمان معارض له ويمتلك الأغلبية
القادرة على عرقلة أية محاولة للرئيس الجديد تمرير تعديلات دستورية وقانونية.
تحقيق التحالف الأغلبية البرلمانية بعدد مقاعد قليلة شكل انتصارا لـ "العدالة والتنمية" ولأردوغان، لأنه عنى فشل المعارضة في إجراء متغيرات دستورية وقانونية، أهمها إعادة النظام السياسي التركي إلى النظام البرلماني.
وتنبع الأزمة في حال خسر أردوغان منصب الرئاسة، من التباين بين
صلاحيات الرئيس وصلاحيات البرلمان، فالأول، وفق تعديلات عام 2017، يتولى صلاحيات
تنفيذية، وقيادة الجيش، ويحق له تعيين نوابه والوزراء وإقالتهم، ويعرض القوانين
المتعلقة بتغيير الدستور على استفتاء شعبي في حال رآها ضرورية، ويحق له إصدار
مراسيم في مواضيع تتعلق بالسلطة التنفيذية، ويحق له إعلان حالة الطوارئ في حال
توفر الشروط المحددة في القانون.
بالمقابل، تمنح تعديلات عام 2017 البرلمان صلاحيات سلطات الرقابة
والتفتيش، والحصول على معلومات عبر تقصي برلماني أو اجتماع عام أو تحقيق برلماني
أو سؤال خطي، وطلب فتح تحقيق بحق رئيس الدولة ونوابه والوزراء، ويمكن للبرلمان
اتخاذ قرار بإجراء انتخابات جديدة بموافقة ثلاثة أخماس مجموع عدد النواب.
ووفقا، لهذه الصلاحيات، لن يتجه أوغلو في حال فاز بمنصب الرئاسة إلى
طرح مسألة إعادة النظام البرلماني، ليس لأنه لا يستطيع، بل لأنه غير راغب في ذلك،
في ضوء الصلاحيات التي سيتمتع بها، والتي تمنحه القدرة على فرض سياسة داخلية
وخارجية مغايرة لسياسة أردوغان.
في حال تحقق السيناريو الثاني ستكون البلاد أمام مشهدين:
الأول، اضطراب سياسي واجتماعي واقتصادي عنيف لم تعرفه منذ عقود، في
محاولة للقضاء على إرث أردوغان و "العدالة والتنمية".
الثاني، التحلي بالواقعية والبراغماتية السياسية، من أجل البقاء في
السلطة للسنوات الخمس المقبلة دون حدوث اضطرابات سياسية واقتصادية تؤدي إلى تغير
في المزاج الشعبي، بعد سنوات الهدوء والتطور اللذين شهدتهما تركيا في ظل
"العدالة والتنمية"؟ مع محاولة إجراء بعض التغيرات الاقتصادية والسياسية
في الداخل على صعيد الحريات، وفي الخارج على صعيد الساحة الإقليمية والدولية.