نعيش اليوم تحولات مجتمعية متسارعة سمتها الغالبة: "الانكسار
الأخلاقي" وهو حالة من تلاشي المعنى وسيادة ثقافة المتعة والمصلحة والنرجسية
وإدمان اللذات.
وجبت الإشارة هنا إلى أن هذه الأزمة ليست على مستوى غياب قيم هادية
أو نظريات أخلاقية، سواء في مجالنا العربي الإسلامي أو حتى الغربي، بل هي على
مستوى الربط بين هذه القيم الهادية والنظريات وبين الواقع، ويمكن توصيف هذه الحالة
بأنها حالة "تعطيل" أو "انكسار" للقيم رهيبة؛ ولئن كانت حالة
الانكسار قديمة، فإن جذور آثارها المهولة في مجتمعتنا الحالية يمكن أن تعود إلى
أمرين:
1 ـ في السياق الغربي يمكن القول أن جذورها "ثورته" على
الدين والسلطة، وإزاحته بذلك أصلا صلبا للأخلاق عن مقام الفاعلية الأخلاقية في
المجتمعات.
2 ـ وأما في الواقع العربي والإسلامي فجذورها حالة من
"الانتحال" تجر المجتمعات العربية والإسلامية نحو فظاعة وتيه ما يعيشه
الغرب اليوم ويعاني منه، تزكيها الردة على مستوى الفاعلية الحضارية وتنفخ فيها
مؤسسات الاستبداد و"استقالة" جل من يهمه الأمر إلا من توصيف وشجب.
أما على مستوى نتائج هذا "الانكسار الأخلاقي" فعنوانه غياب
المعنى والفراغ الروحي الرهيب وتفاصيله دمار للفضيلة، وخراب النفوس وتمكن الرذيلة،
وسيادة قيم السوق، وهيمنة الفردانية والتوحش والنرجسية، وتفكيك الأسر والروابط
الاجتماعية، وضياع الفطرة وقواعد المسؤولية والصدق والإلزام والحساب، على جميع
المستويات والأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الفنية.
فعلى المستوى السياسي ضاعت قيم العدالة والكرامة والحرية تحت سلطة
الاستبداد، وعلى المستوى الاقتصادي تراجعت قيم الكسب والإنفاق والتكافل، لحساب
النزعات النفعية للسوق المتوحش، وعلى المستوى الاجتماعي بدأت أواصر العلاقات
الاجتماعية والأسرية تتفكك لحساب النزعات الفردانية، وعلى المستوى الثقافي والفني
انحدر الذوق إلى أسفل الدركات، حيث أصبحت للميوعة سلطة وقداسة، وأصبحت مدعومة
بأدوات التعليم والإعلام، بل قد أصبحت تجارة رائجة تُعلّبُ منتوجاتها، لتَخرُج
قابلة للترويج، تغري الشباب بالاستهلاك، من خلال تقليد جمع من التائهين واتخاذهم
قُدْوات.
بل إن أفق هذا الانكسار يتوعد ببروز إشكالات جديدة قوامها التلاعب
بالطبيعة البشرية للإنسان نفسه، وهي قضايا باتت تشكل تهديدا على أخلاق الجسد
والفطرة من قبيل تغيير الجنس و"طبيعية" الميول المتعددة ومحاولة فرضها
على أجندة المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، والضغــط على الــــدول لأجل
تبنيها، مما ينبئ بمرحلة "بهيمية الإنسان".
إن الإشكال الذي عبرنا عنه في أول المقال بحالة "انكسار"
القيم وتعطيلها، وغياب الربط بين القيم والواقع، يتسرب على مستوى التوصيف أيضا
فتتراكم أفكار وكتابات كثيرة تنبه إلى المسألة الأخلاقية لكنها للأسف تظل أفكارا
متعالية عن الواقع بعيدة عن الميدان، سواء على مستوى لغتها أو على مستوى مجال
تداولها، مما يفقدها جوهرها ويطعن في جدواها من الأصل، فالعالم اليوم بحاجة إلى
هبة حقيقية من كل من يهمه الأمر أفرادا ومؤسسات،
العالم اليوم بحاجة إلى
"نداء مكارم"، نداء أمل وتراحم وتعاون، نداء تنبيه، و أذان في الناس
بالأخلاق، في أفق التأسيس لحلف إنساني، أو ائتلاف عالمي قيمي.
هذا النداء المنشود، أو الائتلاف العالمي للقيم والأخلاق ينبغي أن
ينضبط لمسألتين اثنتين:
1 ـ إن مما يجني على كثير من الأفكار ويضعها في خانة المرفوض
الملفوظ، تخندقها في إطار حزبي أو ديني أو عرقي.. وإن في العالم الواسع والمجال
المشترك بين البشر مهتمون كثر بالمسألة الأخلاقية وأولو بقية ينهون عن الفساد،
سواء على مستويات النظر أو الأثر ، ولذلك يجب التعاون مع كل ذي مروءة وتهمم
بالأزمة الأخلاقية بصرف النظر عن خلفيته الدينية والفكرية، إن الأخلاق وإن
كانت تنحدر من الدين ، فهي تنحدر أيضا من
مصدر أساسي آخر هو الفطرة الإنسانية وهذا
مصدر واسع ومشترك إنساني، يزداد به النداء قوة ومشروعية.
إن نداء المكارم حاجة بشرية ملحة، يحتاج من يحميه على نار الحماس، ويطرقه بمطارق الرحمة والحكمة، ويصوغه في أهداف ومبادرات لا تستثني أحدا ولا تجد من دون الشراكة الإنسانية ملتحدا.
2 ـ إن مما يعاب على الأفكار مثلما تقدم سموها وتعاليها عن الواقع،
ولذلك ينبغي لهذا الائتلاف أن يحرص ويهتم بالأثر الأخلاقي، وينتقل من الخطبة
المنيرة إلى الخطوة المثيرة، مسترشدا بالقواعد التالية:
ـ لا ينطلق من موقف العداء المطلق للمواثيق والقوانين الدولية
باعتبار أنها أداة للاستعمار القانوني ووسيلة للتآمر على الشعوب. أعتقد أنه على
هذا المستوى ينبغي الترافع على حد أدنى من الحق في الاختلاف الثقافي وضرب آلة
الإكراه الجهنمية التي باتت لا تعترف لمكون بخصوصية، عبر الترافع من داخل
المنظومات القانونية على الحق في الاختلاف الثقافي والديني ووجوب حماية ذلك
الاختلاف..
ـ لا يتخندق في الخطاب الديني المحض استيعابا لمصادر الأخلاق الأخرى
فلئن كان النقاش الفكري حول مصدر الأخلاق يعزوها إلى الطبع و العاطفة و العقل و
اللذة و المصلحة والمجتمع و الدين، نقاشا مهما في مستوياته الفكرية الفلسفية له
أثر ولا شك، فإنه على مستوى ”الخطوة“ وفي سياق الحوار والتعاون والتراحم ينبغي أن
نقبل أن لكل هؤلاء أثرا في الأخلاق، ثم نتلمس السبيل لتنزيل هذه الأخلاق في حياة
البشر وعلاقاتهم وتصوراتهم.
ـ لا تسيطر على فعله الألقاب والهياكل التنظيمية والمناصب فيحول بذلك
الوسيلة إلى مقصد، أو يحول الفكرة والمعنى إلى مناسبات واحتفالات وبيانات دورية
فيصبح الهدف الاجتماع والحشد وتسجيل فضيلة الانحياز لهدف سامٍ.
إن نداء المكارم حاجة بشرية ملحة، يحتاج من يحميه على نار الحماس،
ويطرقه بمطارق الرحمة والحكمة، ويصوغه في أهداف ومبادرات لا تستثني أحدا ولا تجد
من دون الشراكة الإنسانية ملتحدا.