صحافة دولية

الكاتبة صفاء الخطيب تحكي قصة المطبخ الفلسطيني في ذكرى النكبة

لا يزال الفلسطينيون يتمسكون بمطبخهم التقليدي - جيتي
في الذكرى الخامسة والسبعين لنكبة فلسطين، توثق الفنانة صفاء الخطيب بعض ما يتعلق بالتاريخ الفلسطيني من جوانب عدة، في مقالات لها منشورة على موقع "ميدل إيست آي" البريطاني.

وفي مقال مطول لها على الموقع، تناولت الخطيب المطبخ الفلسطيني، وكيف أن التمسك بالوصفات التراثية هو أحد أشكال النضال، الذي يمارسه الفلسطينيون حول العالم.

الجزء الأول : الكاتبة صفاء الخطيب تسعى لذاكرة محكية مرئية عن النكبة الفلسطينية

وتاليا النص كاملا كما ترجمته "عربي21":

فن الطبخ الفلسطيني من التقاليد إلى الحداثة


روني ابن وادي النسناس ورحلة العودة

لم يكن روني كباقي أقرانه، فشكل الحياة في سوق وادي النسناس، هذا الحي العربي الذي نشأ فيه إيميل حبيبي، وولد فيه أحمد دحبور صاحب قصيدة "لاجئ سموني لاجئ"، ترك أثرا على ابن الحي المارونيّ الذي كان يعرف الفرق بين نبتة المردقوش والزوفة وهو ابن العاشرة من عمره، كما شكّلت هذه الروائح والطعمات المتداخلة بالإضافة إلى الإلمام بأنواع أسماك وثمار البحر الأبيض المتوسط -التي كانت تباع طازجة و"حيّة" كل يوم في السوق- ذائقة هذا الفتى، حتى كبر وأصبح طاهيا يجوب بلدان العالم، يطهو في بروكسل وبرلين وأمستردام.

من منزله في تل السمك المطل على "الشاطئ الأزرق" هذا المنزل الذي تم بناؤه في مطلع الثلاثينيات، وهو واحد من أجمل بيوت المدينة والتي تعود ملكيته إلى "وديع البستاني"; وهو أديب وكاتب ومحام وناشط في الحركة الوطنية الفلسطينية ضيق عليه الاحتلال حتى رحل إلى لبنان تاركا ولاية منزله للكنيسة المارونية. يشاركنا روني خليفة وصفات والدته من الأطباق الفلسطينية التقليدية كالبامية مع البندورة والثوم إلى جانبها القليل من لبنة الماعز. و"منزّلة البيتنجان" و"العلت مع البصل" يقدمها لنا بأطباق من الخزف الصيني أو الفرنسي الذي لا تزال خزائن بعض من أمهاتنا وجداتنا تحتفظ به كمجموعة من القطع الفنية التي لا يساوم عليها الدهر، تماما مثل منزله المطل على الشاطئ.

يتلاعب روني بهذه الوصفات بطريقة أنيقة ومتقنة تحرض شهيتنا وذائقتنا الفنية معا بحيث تسمح لنا أن نتخيل هذه الصورة الفوتوغرافية في تطبيق "إنستغرام" أو في برواز كبير الحجم معروض في صالون بيتنا يتسع لرغباتنا ولشريط طويل من الذكريات على حد سواء.

كما يحدثنا عن قوانين مطبخنا الصارمة والتي توجب الاحترام من خلال اتباعنا لنظام المواسم الطبيعي لدينا، ففي الوقت الذي انكشفت فيه أوروبا عموما وفرنسا تحديدا على ثقافة الأكل الموسمي، كانت أمهاتنا تعرفه بالفعل. لقد كنا نطبخ البندورة في الصيف ونحتفظ بها لباقي العام، فبندورة الصيف لا تشبه في طعمها بندورة الشتاء، كما لا يمكن عمل صحن خبيزة أو مقلوبة الفول "الربيعية" في غير موسمها!




يرى روني بأنّ الطهاة مهما احترفوا مطابخ عالمية، لا يمكن أن يكونوا بمستوى الإتقان إلا إذا كانوا أبناء هذه البيئة، وفيما يتعلق بالطبخ الفلسطيني، فنحن نتواصل عبر ممارسة الطبخ بشكل فطري، فالنكهات والروائح التي كبرنا عليها ارتبطت لدينا بالذاكرة، بالقصص والأحداث التي حدثت أثناء تناولها، وممارسة طقس الطعام إنما هو حالة من الحنين إلى هذه القصص وهذه الذاكرة ومحاولة إحيائها من جديد.

المعرفة والتحرر

في سياق مختلف، تأخذ هذه الأطباق أهمية أكبر من مجرد ذكريات لمواسم مختلفة من حياتنا كشعب فلسطيني واقع تحت احتلال، فصحن المجدرة (برغل وعدس وزيت زيتون وبصل) ليس مجرد طبق نحمله معنا إلى موسم الزيتون ونأكله تحت الشجرة عند استراحة الغداء، بل هو دليل مادي وقاطع في وجه الاحتلال على الوجود في هذه الأرض وهو الذي لا يكف عن سرقتها منا شيئا فشيئا، ويصادرها بالجملة، كما حصل في أحداث يوم الأرض، وقلع أشجار الزيتون على يد المستوطنين كما يحدث كل يوم في مناطق الضفة الغربية. وهي وثيقة تؤرخ لهذا الوجود الضارب في الأرض، وتجعلنا أكثر إدراكا لهويتنا كفلسطينيين أمام هوية المحتل الإسرائيلية.



بالتأكيد لا يصح لنا أن ندعي مجرد الادعاء أن إعداد الطبق الفلسطيني التقليدي هو واحد من أشكال النضال، إنما بالتأكيد نستطيع أن نضعه تحت خانة المعرفة، والمعرفة لأجل التحرر هو من واجبات الفلسطيني أينما كان. وهذه الممارسة هي سلاح ثقافي في وجه أسرلة هذه الأطباق والتعدي عليها. وهي خطوة لردع الإسرائيليين من ضم واحد من صحوننا إلى ثقافتهم. حتى المقلوبة التي كانت تُقلب من قبل المرابطين في المسجد الأقصى ليتلف حولها العشرات من الفلسطينيين وإن أخذت شكل "الترند" إلا أنها شكلت تصريحا واضحا بأن مقلوبة الزهرة والبطاطا والباذنجان هي ماركة فلسطينية مسجّلة لا يمكن للثقافة الإسرائيلية الحديثة أن تتسع لها.

شكّلت طبيعة معظم الفلسطينيين في فلسطين التاريخية "الفلاحية" البعد الأبرز في تنوع الأطباق التي كانوا يحضرونها، فهذا التواصل المباشر مع الأرض أثرى المائدة الفلسطينية ككل، لكن محدودية التحكم في الموارد المائية، وصعوبة التصدير للأسواق الخارجية القريبة، وسياسة مصادرة الأراضي وإخضاعها للسلطة الإسرائيلية أدت إلى تفسخ هذه العلاقة مع الأرض وصد أبنائها عنها والانضمام إلى ركب العمالة المأجورة في أسواق ومصانع الدولة الجديدة. وبالتالي محاصيل وثروة زراعية أقل.

سؤال الحداثة

وكما أن المطبخ هو المختبر الأول لكل حضارة، إبداعاتها ونزعاتها التقليدية والمحافظة، هناك حيث تعكف على الاعتناء بأدق التفاصيل وتنتبه لوحدات العيار المختلفة والمبهرة كما رأينا في أول كتاب "الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب" ومن أندر المخطوطات التي تعود وفقا للمؤرخين إلى منتصف القرن الثالث عشر التي استعرضت وصفات من المطبخ العربي السوري الكبير دون معرفة هوية المؤلف يقينا، حيث تم تحقيقه على يد الطاهي والمؤلف تشارلز بيري ليصدر في الإنجليزية تحت عنوان "Scents and Flavors" إلا أن المطبخ يظهر تمرد هذه الحضارة أيضا ونزعاتها الثورية.

يظهر الأداء الحالي في المطبخ الفلسطيني عموما فنا يتسم بالمعرفة والبحث والتقدير لهذا الإرث الطويل من التواصل مع الأرض، وما نراه اليوم من أشكال مختلفة لهذا الفن وكيفيات تطبيقه، إنما هو فعل مدروس جيدا، وهو فعل تحرري برأيي لمسنا بداياته من خلال موجة إصدار العشرات من الكتب التي تتحدث عن المطبخ الفلسطيني صدرت معظمها باللغة الإنجليزية، تظهره كمطبخ حيّ وحاضر، ثم بدأنا نسمع عن افتتاح مطاعم جديدة في داخل فلسطين وخارجها صارت تعرف عن نفسها على أنها تقدم "أطباقا فلسطينية حديثة" بفضل طهاة قرروا أن يقوموا بفعل ثوري ومتمرد لم يكن ليأخذ هذه الهيئة من الإبداع لولا الفهم الصحيح والتواصل المباشر مع الأرض. وكلما كان هناك فهم أشمل وأعمق بقوانين هذا المطبخ التقليدي والعريق، كان كسر هذه القوانين أكثر فعالية. حيث أدى هذا الكسر إلى تفكيك هذه الأطباق كما لو أنه عمل فنان معاصر، وإنتاج أطباق جديدة مليئة بالجرأة والخيال.

أما عن السؤال فيما إذا كان فعل التفكيك هذا وخلق أطباق جديدة من وحيها يفقدها أصالتها أم لا، فإنه بالتأكيد سؤال مهم ومشروع، وخصوصا في مثل هذه المرحلة التي يمر بها المطبخ الفلسطيني من تغيير كنتاج طبيعي لعصر ما بعد الحداثة، حيث تتحول الأجيال الجديدة إلى الاعتماد في غذائها على طلب الطعام من الخارج بدلا من قضاء الوقت في صنعه. مما يجعل الطعام التقليدي عرضة مباشرة لأي تغيير يتطلبه السوق الاستهلاكي من سرعة، ووفرة وسهولة. الأمر الذي يتعارض بشكل واضح مع سمات مطبخنا الفلسطيني لا بل ويعرضه للخطر، ليس لمجرد كونه مطبخا تقليديا سيأتي عليه الوقت ويتغير حتما، بل لأنه يرزح تحت العديد من التهديدات بصفته مطبخا لشعب يخضع تحت احتلال مباشر.

يخبرنا الشيف عمر علوان (Omar Alwan) بأن هذا التغيير هو تغيير محمود بالضرورة، حتى المطبخ اليوناني والمطبخ الإيطالي كانا عرضة للتغيير لكن بشرط أن يتم هذا التغيير عن معرفة علمية ومدروسة بالمواد الأساسية، فالمتمرس من هذا المطبخ يعرف أنه لا مجال للعب فيما يتعلق بزيت الزيتون مثلا من أجل إنتاج طبق "غورميه"، كما لا ينبغي تغيير السمنة بالزبدة، أو الفريكة البلدية الأصلية التي تنبت في سهولنا بفريكة مستوردة ومصنعة لا طعم لها ولا رائحة. كذلك الأمر مع استبدال الزعتر البلدي والسماق.

ولد الشيف عمر علوان بقرية عين ماهل قضاء الناصرة، لكنه ترعرع وكبر في مطبخ جدته السورية من أصل حلبي، والتي تزوجت في مدينة حيفا مطلع الثلاثينيات، ثم انتقلت للعيش مع زوجها في مدينة نابلس. مما ترك أثره اللافت على شخصية الطاهي وتعامله مع الطعمات والروائح التي اختلطت بهواء الجليل، وطعماته وروائحه.



تلقى علوان البكالوريوس في التصميم من كلية "أسكولا" في تل أبيب، ثم سافر إلى ألمانيا وافتتح مطعمه الأول برفقة أخيه في العام 2000 في مدينة "لايتسك" حيث اعتادا طبخ وصفات من المطبخ العربي الكبير، إلا أن اهتمامه بالطبخ الفلسطيني كان لافتا، مما دفعه إلى تسخير هذا الاهتمام حتى النهاية، فبدأ بطبخ الطبخات الفلسطينية التقليدية كالشببرك، والمجدرة واللبن المطبوخ (الفقعية). إلا أن أوروبا كان لها التأثير الأكبر على شكل إنتاجه من خلال تعلم تقنيات الطبخ الحديثة وتسخيرها في صالح مطبخه الفلسطيني. "لقد تعلمت كيف أحافظ على النعنع ليبقى أخضر طازجا، وكيف يتم تحويل المواد السائلة إلى صلبة، وكيف أستخرج ماء البقدونس وأحوله إلى جل أستخدمه في طرق التقديم".

عاد علوان إلى البلاد، ليفتتح مطعمه الأول في نواحي مدينة حيفا وأطلق عليه اسم "ورق دوالي"، حيث باشر بطبخ الأكلات التقليدية مع لمساته الخاصة. لكنه بدأ رحلة بحث جديدة عن الجذور، وعن تقنيات المطبخ العربي الأصيل وكيفية تطبيقها. حيث ساعدته هذه المعرفة في تعميق هذا الفهم، والإجابة عن تساؤلاته فيما يخص استخدام طريقة معينة دونا عن الأخرى، مثال على ذلك هو طريقة تجفيف الخضراوات وبعض البقوليات ومنتجات الألبان في الصيف حيث لم يكن هناك كهرباء أو برادات لحفظها، فكانوا يقومون بنشرها على الأسطح وتعريضها لحرارة الشمس، على أن يقوموا بتجميعها عند المغرب، وإلا فإنها ستتعرض للندى في الصباح وبالتالي تتعرض للرطوبة ثم العفن. كما أن حرارة الشمس تمنع اقتراب الحشرات من هذه المواد الغذائية، حيث لعبت الشمس سلاحا فعالا لحفظ وتجفيف الأكل.

تقنية أخرى كانت تستخدمها جداتنا في حفظ اللحوم، وهي طريقة التعتيق، والتي بالمناسبة تستخدم اليوم في أفضل المطاعم العالمية لجودة اللحم ولذته. حيث اعتادت النساء على تشويح اللحم بالدهن، ومن ثم حفظه في سقيفة البيت (العلية) الباردة، مما ساعد اللحم على الصمود لجمعتين على الأقل، طازجة وقابلة للاستخدام.

التنوع في المطبخ الفلسطيني

مكن مناخ فلسطين البارد شمالا على الحدود السورية اللبنانية، والمعتدل في وسطها -مناخ دول حوض البحر المتوسط- والصحراوي جنوبا من النقب حتى إيلات على الحدود المصرية، من قدرتها على التنوع في الإنتاج، كما أدى هذا التنوع في المناخ إلى اختلافات كبيرة إلى حد ما انعكست على طاولة السفرة. وبالرغم من وجود تشابه في بعض الوصفات مع الدول الشقيقة، إلا أن هناك بعض الطبخات التي لا يتم تحضيرها في أماكن أخرى، مثال على ذلك العكوب والعلت والخبيزة هي من سمات مطبخ الجليل الحصرية، التي لا تحضر في سوريا مثلا، والمفتول بالطريقة التقليدية التي نحضره بها لا يعرفونها هناك. وهذا أضاف للمطبخ السوري الكبير، لكن طابعه ظل فلسطينيا. مثال آخر هو اشتهار بلادنا في "الدوالي"، التي تنتج ثمار العنب، حيث اعتاد الناس استخدام سائل العنب الصغير "الحصرم" في الطبيخ لجعل طعمته أكثر حموضة.

كما ساعدت الثروة الحيوانية في بلادنا على إدخال اللحوم في العديد من أطباق المطبخ العربي التي زادتها عراقة ووزنا، لكنه بالمجمل مطبخ مكلف جدا، ويستغرق الكثير من الوقت لتحضيره كالمطبخ الفرنسي، مثال على ذلك، يستغرق تحضير طنجرة ورق الدوالي المحشي خمس ساعات على الأقل، كما نحتاج لتحضير كيلو من العكوب النظيف إلى خمسة كيلوغرامات من العكوب الخام.

معلومة صغيرة لم أكن أعرفها وهي أن في صحراء النقب تنتج "الكمأة الفلسطينية" التي تعتاش عليها الإبل هناك، وتعرف باسم البطاطا.

خلال زيارتي للعديد من المطابخ التي يشرف عليها علوان في البلاد، كنت دائمة الطلب لسلطة الجليل.. وهاكم قصتها!




"أنا معتاد على العمل في الأرض، والتجول في جبال وسهول بلادنا، كنت يومها بالقرب من قريتي عين ماهل بمحاذاة قرية اكسال، كان موسم اللوز الأخضر، ووجدت شومر بري، فخطر لي أن أقوم باستخدام هذين المكونين لخلق سلطة أطلقت عليها اسم "سلطة الجليل"، وهي مزيج من الشومر البلدي، اللوز الأخضر، النعنع، الليمون وزيت الزيتون والملح. وقمت بتزيينها باللوز الناشف المحمص والزبيب من منطقة الخليل، والكرز المجفف من الجولان".



لكن سلطة الجليل ليست الطبق الوحيد الذي يبدعه علوان، هناك أيضا "ريزوتو" مصنوع من الفريكة البلدية بدل نظيره الإيطالي حيث يستخدمون الأرز. هناك أيضا "كرباتشيو التين مع الجبنة العربية"، و"سمك السلمون" الملفوف بورق العنب مع أكلة "الشلباطو الدرزية" المكونة من البرغل والبندورة وكريمة الفاصوليا البيضاء وصلصة القبار المحلي.

يرى علوان أنه من أجل تحضير الأطباق كما يجب، فيجب علينا استخدام المواد من منبعها الأصلي وذلك لتحصيل أفضل تجربة ممكنة لهذا الطعم؛ "الملوخية من جنين وصندلة، الفريكة من عرابة ودير حنا، العكوب من الجولان، الزعتر الأخضر من جبال الجليل، الخيار البلدي من سهول مرج ابن عامر والقرى الزعبية، البندورة البعلية والفقوس والرمان والبطيخ والشمام من سهل كفركنا، المقرة والفطر البلدي من سهل البطوف.. وأخيرا زيت الزيتون من بلدي عين ماهل، ومن كل قرية في الجليل!

أساور نوف عثامنة

من الجليل إلى المثلث، وتحديدا إلى مدينة باقة الغربية، من جدار الفصل العنصري الذي أنشأه الاحتلال وحيث ولدت نوف عثامنة لأبٍ، وأول طبيب في المدينة، ولأم كانت أول امرأة تخرج من القرية بغرض الدراسة الجامعية فيما ترعرعت نوف بين أحضان جدتيها الحيفاوية، والباقوية في المطابخ، مما كشفها على مطبخ أوسع، وأكثر تنوعا، إلا أن النساء سواء في الناصرة أو في يافا، كن يشغلن المنصب المركزي في البيت، فعبر تحضير الطعام وإطعامه كانت تتحكم في تغذية واقتصاد البيت.

انتقلت عثامنة من دور المتفرجة لطقوس تحضير الطعام، إلى رغبتها في التمكن منه أيضا، وعلى الرغم من أنها تحمل لقب الدكتوراة في علم الأحياء الدقيقة (microbiology) من جامعة تل أبيب، إلا أن الروائح التي تخرج من مدخنة منزل عائلتها في قرية كفر قرع، تكاد تخترق كل بيت من بيوتنا بوصفاتها "العربية" وبأداء "نوف" المميز.

كعمر وروني، ترعرعت نوف على روائح مطبخ سوريا الكبرى، إلا أنها تنتقل من العراق إلى المغرب، بخفة يديها المزينتين بالعديد من الأساور الذهبية التي تشكل "توقيعها الخاص"، وتعد لنا ما كانت مطابخ العالم العربي تعده على موائدها قديما، وترى أن الوصفة الكلاسيكية، هي أفضل وصفة ممكنة، فبقاء وصمود هذه الوصفة طوال عشرات السنين إنما يعكس الرغبة فيها وإرضاءها للعديد من الأذواق.

تحدثنا نوف عن علاقتها بالأرض، والتي ورثتها عن والدها، الطبيب والفلّاح في آن، حيث اعتاد أن يزرع في حاكورة منزله الفجل والبصل والنعنع والكثير من أشجار الحمضيات. فعندما تقوم هي بحصاد الهليون البريّ، وورق اللسينة والزعتر البري من أرجاء البلاد، إنما تجدد هذه الصلة مع إرثها العائلي والمجتمعي فتقول "نحن نكبر على رائحة الأشياء، على الأرض المبللة، وعلى بيت الزعتر نعرفه من بعد كيلو متر".

بالعودة إلى "تقاليد المطابخ الأوروبية الحديثة والراقية" التي عرفت نظام الأكل وفقا للمواسم، فيما عرفناه قبل مائة عام ولا يزال ساريا في بيوتنا على الرغم من تربية الرأسمالية وكثرة الإنتاج، حيث لا زلنا نشتاق لطبخة القرع المحشي وغليها على النار باستخدام بندورة الصيف البعلية، إلا أن بعدا آخر يميز مطبخنا هو الأقوى من مجرد الأكل وفقا لما تعطيه لنا الأرض، وخصوصا في ظل أزمات الغذاء العالمي وتداعيات الحرب الأوكرانية مؤخرا لفتت نظرنا نوف إليه: "لقد كنا نستخدم جميع أجزاء المحاصيل، لم نكن نضطر إلى رمي سيقان نبتة معينة مثلا، حتى عندما ينمو سيقان خضراء للبصل القديم، كما نقول في لهجتنا "بشرّش"، لقد كنا نقليه بزيت الزيتون ونأكله. أو حتى أوراق نبتة الفجل التي اعتدنا على رميها: "لقد كانت جدتي تقطع هذا الورق وتقليه مع زيت الزيتون والبصل وتزينه بعصير الليمون تماما كما تفعل بنبتة العلت. كما أننا نستخدم مثلا جميع مكونات شجرة "الدوالي"، كالورق، والعنب في جميع مراحله نستفيد منه. حتى أوراق "الزهرة البلدية" كانوا يقومون بسلقها وحشوها بالبرغل والثومة والبندورة حتى لا يضطروا إلى رميها. فمستوى حياة معظم الفلسطينيين الاقتصادية كانت تتسم بالفقر والبساطة.

"للوصفة التقليدية هناك هيبة، لكنني نعم أحب التغيير على أن لا أمسّ بهويته الأصلية"، مثال على ذلك هو طبق المسخن، حيث كانت جداتنا تقوم بشلشلة رغيف الطابون في الزيت، ثم تضع عليه البصل والسماق والدجاج، لكن نوف ارتأت أن تقوم بمسح الزيت على الرغيف بحيث تقلل من كميته ودسامته. فقديما كانوا يحرقون الكثير من السعرات عند عملهم في الأرض من الصبح، اليوم اختلف الوضع وباتت حاجتنا أقل إلى هذه الكميات.

مثال آخر، هو تحضير طبخة "اللسينة" وهي تشبه ورق الدوالي إلى حد كبير، لكن نوف تقوم بدلا من حشوها بالأرز، بلف هذه الأوراق بكرات من اللحم المفروم (الكباب) مع شرائح البندورة وزيت الزيتون وتطهوها في فرن الطابون.

لكن التمرد الحقيقي كان حين قررت نوف أن تطبخ أوراق "الملوخية" المشهورة في العالم العربي ككل، على مرقة السمك مع البندورة والثومة والفلفل الحارة والقليل من الكزبرة الطازجة والزبدة، حيث تقدمها مع فيليه سمك مقلي!

من المبكر جدا البتّ في شأن "الأكل الفلسطيني الحديث"، فهو لا يزال في مرحلة الولادة لكن قلّة المشتغلين به لا تمنع مناقشته وإن كان من الصعب تمييز معالمه بعد، والأكيد هو باعتقادي أن الأكل الفلسطيني الحديث إنما هو نتاج تحديث أساليب الطهي التي يتبعها هؤلاء الطهاة، وابتكار وصفات جديدة، وتحديث أساليب التقديم والعرض وحتى مجرد انتقال عائلة من أكل الكبة النية من مناسبة كزفاف أو عيد من البيت إلى المطعم إنما هو من سمات الحداثة، ولا يعني هذا إلغاء الأولى واعتماد الثانية. لكن محاولات الفلسطينيين في الابتكار والتجديد من خلال التفكيك والاستلهام من التجارب السابقة كجزء من الذاكرة الجماعية بعيدا عن الانشغال في "استرجاع أطباقنا" من معمعة سلبنا هذه الأطباق ومحاولة نسبها إلى الثقافة الإسرائيلية فهي تدل على استمرارنا بممارسة عاداتنا وتقاليدنا التمسك بما لدينا -خلافا لما تحاول إسرائيل تطبيقه-  والتقدم به خطوة إلى الأمام قد تحيل محاولة جديدة منهم لسرقة طبق آخر خطوتين إلى الوراء.