كتب

شعبوية قيس سعيد في ضوء العلوم الاجتماعية والتجربة التونسية

الدستور في تونس لا يجب أن يكون وثيقة تجسد أحلام رئيس استغل الصلاحيات التي افتكها بمقتضى الحالة الاستثنائية لإصدار نص يعكس طموحاته الشخصية.. (الأناضول)
الكتاب: "تونس الثورة والمحنة: مقاربة من منظور علم الاجتماع السياسي"
الكاتب: د. عبد اللطيف الهرماسي
الناشر: سوتيميديا للنشر والتوزيع ، تونس، الطبعة الأولى 2023
(286 صفحة من القطع الكبير)


في الفصل الأخير من الكتاب الذي يحمل العنوان التالي: "من الديمقراطية الفاسدة إلى الاستبداد الشعبوي؟"، يقول الباحث الهرماسي:في ضوء التطورات التي تعيشها تونس منذ الانتخابات الرئاسية والتشريعية لسنة 2011 التي لا نستثني منها صعود قيس سعيد إلى الحكم ثم انفراده به، يبدو أن محنتها ستطول وإن استخدامنا لعبارة (محنة) من أجل توصيف الحال لم يكن من باب التجاوز اللفظي بل تعبيراً مناسباً عن تفاقم المعاناة التي تعيشها قطاعات اجتماعية متزايدة وانتظار انفراج لا يكاد يطل حتى يتحول إلى سراب.

لم يكن فشل التكتلات التي أدارت البلاد منذ 2011 وما نجم عنه من عجز للدولة مقتصراً على عجز الحكومات عن تلبية المطالب التي رفعت أيام الثورة، وأهمها بالنسبة للجماهير الواسعة توفير سبل الرزق الضامنة للكرامة، ولا على إعادة رسكلة المنظومة الزبائنية التجمعية لفائدة المتنفذين الجدد من حركة النهضة وحزب نداء تونس ومشتقاته، بل تجاوز الأمر ذلك إلى ظاهرتين لهما أسوأ النتائج، الأولى هي التراجع الخطير المسجل في المجال الاقتصادي قياساً إلى ما كان عليه الحال في ظل النظام الذي أسقطته الثورة، وتدهور حالة المرافق والخدمات العمومية والاتجاه السيادي لكل المؤشرات الاجتماعية وفي مقدمتها تفاقم مصاعب العيش وتراجع المقدرة الشرائية واستفحال البطالة والفقر دون أن تجد في مواجهتها طرفاً سياسياً حاكماً أو طرفاً اجتماعياً فاعلاً يتصدى لمسؤولية وقف هذا التدهور، أما الظاهرة الثانية وهي المسؤولة بدرجة كبيرة عن السابقة، فتكمن في انزلاق المنظومة السياسية إلى حالة محكومة بالمساومات والمقايضات على اقتسام المواقع وتوزيع الغنائم، مع تحول المناورة ونقض الوعود والعهود إلى سمة ميزة للأحزاب الحاكمة أو بالأحرى القيادات المتنفذة فهيا، ظواهر لم تكن غريبة عن عودة الروح للحزب الدستوري في صيغته الجديدة ولا عن صعود النزعة الشعبوية في صيغ أبزرها الراديكالية اللانمطية لقيس سعيد، والتي من أبرز مفارقاتها التحالف مع القوى الصلبة للدولة لاستعادة وحدة السلطة في انتظار إيجاد حلول لبقية العوامل التي أنتجت ما أسميناه بالدولة العاجزة" (ص258) .

كان من نتيجة الاحتقان الاجتماعي والسياسي وشلل المؤسسة النيابية التي أصبحت مسرحاً للتهريج والعنف وتعطل حكومة لم تكتمل بفعل فيتو رئيس الدولة، وما انضاف إلى ذلك من سوء إدارة لأزمة انتشار وباء كورونا وتوفير اللقاحات، أن دخلت البلاد في مرحلة حرجة من جديد وفقدت الكتلة الحاكمة كل مصداقية، الأمر الذي أتاح لقيس سعيد اختصار الطريق للإطاحة بها بما اتخذه في 25 جويلية 2021 من قرارات تعليق عمل البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه وإعفاء رئيس حكومة يرمز لديه إلى الغدر والخيانة وهو الذي كان من سماه قبل أن يجذبه الائتلاف الذي تقوده النهضة إلى صفه.

ما أقدم عليه قيس سعيد تحت غطاء الفصل 80 من دستور 2014 مثل تجاوزاً جريئاً لما يتيحه وتأويلاً تعسفياً له، بل يصح اعتباره انقلاباً دستورياً مسنوداً من قيادة الجيش إلى جانب نتيجته السياسية المتمثلة في وضع حد لهيمنة حركة النهضة الإسلامية على مقدرات الحياة السياسية وتأثيرها القوي على أجهزة الحكم والتحكّم، منعطف فتح الباب على أكثر من إمكان: فتح بارقة أمل في تجاوز حالة الانسداد التي آل إليها مسار الانتقال إلى الديمقراطية وإصلاح الفساد الذي داخله وفي ذات الوقت أثار التخوف على مصير الحريات والتوجس من خطر الانجرار وراء ما تحمله أطراف داخلية مختلفة (قوميون وتجمعيون دستوريون وبعض عناصر اليسار وغيرهم) وأخرى خارجية (مرتبطة أساساً بدول من المشرق العربي) من نزعات استئصالية موجهة ضد ما يعرف بالإسلام السياسي أو (الإخوان)، ولكن الأمر الواضح بعد اعتراض رئيس الجمهورية على (الحوار مع الفاسدين)، وكذلك منعه لإمكانية إقامة المحكمة الدستورية، أن ما أقدم عليه في جويليه أصبح بمثابة الحل الوحيد للخروج من المأزق.

يتعاطى قيس سعيد مع القوى الوطنية التي تطالبه باحترام الدستور وبالتشاور في شؤون البلاد بالتجاهل التام فيما يشن (الذباب الأصفر) المساند له على الشبكة العنكبوتية هجومات ضاربة على منتقديه ويكيل لهم أقذع الشتائم ويستعيد بشأنهم الاتهامات والأوصاف التي خصّهم الرئيس بها من خيانة وعمالة وفساد، إلخ...
وبعبارة أخرى، ففي ظل احتداد الأزمة والمناخ الكريه الذي أصبت عليه ممارسة اللعبة السياسية وفوضى البرلمان، وإزاء تعذر إيجاد مخرج دستوري متفق عليه، لم يكن ثمة من إمكان لزحزحة الأوضاع سوى التحرر من وثائق النصر الدستوري بموافقة النواة الصلبة للدولة المتهالكة وفي مقدمتها الجيش، كان اللجوء إلى المحظور الدستوري واستخدام الحد الأدنى من الإكراه المشروع بمثابة الحل الوحيد المتبقي، والذي دفع باتجاهه قيس سعيد لا محالة كما حلم به أو دعا إليه الكثيرون ممن أصابهم اليأس من قدرة المنظومة المنبثقة عن توافق الشيخين الغنوشي وقائد السيسي على إصلاح ذاتها، إلى الحد الذي تمنى فيه بعضهم مجيء مستبد عادل يخرج البلاد من المستنقع الذي تردت إليه، هذا ما لم يتفهمه بعض قادة المعارضة ممن سارعوا إلى إدانة الانقلاب وطالبوا بالتراجع عن القرارات المتخذة متوقفين بذلك عند حدود القانون الدستوري وحرفية ما ينص عليه الفصل 80، ناسين أن حالة التعفن السياسي وتداعي الخدمات والمرافق العامة وتدهور القدرة الشرائية وتنامي البطالة والممارسات الزبائنية قد ضاعفت من شعور الإحباط والسخط لدى قطاع متنامٍ من المجتمع يتحرق لتغيير الأوضاع بأي طريقة كانت، ويؤيد قيام سعيد بتجميع السلطات بين يديه وغلق البرلمان كرمز للفوضى السياسية ومقر الحكومة كرمز لانعدام النجاعة.

في هذا الإطار عبّر الباحث الهرماسي عن أهمية إدراك وتفهم السياق الذي حصلت فيه مبادرة قيس سعيد بقلب الطاولة، وضرورة التخلي عن الديمقراطية الفاسدة لفائدة ديمقراطية نظيفة وقوية، قوية بتوخي العديد والإنصاف وإنقاذ سلطان القانون وكذلك باحترام الحريات والتعددية، الأمر الذي يقتضي انفتاح الرئيس على مبدأ الحوار الوطني الواسع وتشريك مختلف الأطراف السياسية والاجتماعية في رسم تصوّر للمستقبل وخارطة طريق للإنقاذ، بيد أن إصدار الأمر 117 في 22 أيلول/ سبتمبر 2021 أحيى مخاوف القسم الأكبر من النخب السياسية والفكرية وممثلي النقابات والمهن كما عمّق حالة الانقسام والفرز الجديد الذي أحدثه الخامس والعشرون من تموز (يوليو).

كانت هذه الشعبوية الصريحة و(الثورية) قد ظهرت غداة انهيار نظام بن علي وعبّر عنها في وسائل الإعلام أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد بشعاره الشهير (الشعب يريد ويعرف ما يريد)، هذا الشعار الذي لا يخلو من ديماغوجية ومن جاذبية، مضافاً إلى إظهار الاستقامة والتعفف والقرب من عامة الناس، كان سلاح سعيد الذي أوصله إلى سدة الرئاسة في ظل مناخ سياسي متعفن وتطلّع شعبي لتغيير الوجوه الحاكمة، وهو أيضاً الشعار الذي رافق الحملات الذين لم يذكرهم بالاسم وهو يكيل لهم تهم الفساد والتآمر والسعي لإضعاف الدولة، ولكن لا أحد كان يجهل أن المقصود بالدرجة الأولى رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان راشد الغنوشي يقتصر على مكونات الترويكا الثانية من خلال تجميد عمل البرلمان، فإلى جانب استهداف منظومة الحكم السابقة على 25 جويلية، عمل قيس سعيد على استبعاد التنظيمات السياسية والنقابية والمهنية وهيئات المجتمع المدني من أي استشارة وأي دور في صياغة ملامح الوضع الجديد، رفض مقترح اتحاد الشغل بتنظيم حوار وطني ورفض الاستماع حتى للأحزاب التي كانت تعارض تحكّم النهضة - باستثناء بعض الأحزاب القومية، كما امتنع عن طلب المشورة والرأي من أصحاب الكفاءة والخبرة في أي من المجالات.

يكشف الباحث الهرماسي في نهج الرئيس قيس سعيد عن أمرين:

أولهما أن التأويل السوسيولوجي الأرجح لرفض حاكم تونس التعامل مع الأحزاب السياسية بما فيها تلك التي ساندته أو ما زلت تسانده، فضلاً عن صعوبة ربط العلاقة باتحاد الشغل والمنظمات الاجتماعية الأخرى، هو رفضه لكل النخب الي يمكن أن يشكّل حلقة وصل أو طرفاً وسيطاً بينه وبين الجماهير التي يريد الوجه إليها مباشرة (في الحقيقة وفي الغالب عن طريق موقع رئاسة الجمهورية على الفايسبوك والتلفزة الوطنية التي حوّلها إلى خدمته بعد استقلالها سنة 2011)، هو يصرّ على أن هذه النخب أجهضت ثورة 17 كانون أول/ ديسمبر وتنكرت لمطالب الجماهير منذ شاركت في صياغة دستور 2014، بل منذ 14 كانون ثاني/ يناير 2011،  مثلما ذكر في خطابه بسيدي بوزيد يوم 20 أيلول/ سبتمبر 2021 وهو يهيئ الأنصار والرأي العام للإجراء المتخذ يوم 22.

يتعاطى قيس سعيد مع القوى الوطنية التي تطالبه باحترام الدستور وبالتشاور في شؤون البلاد بالتجاهل التام فيما يشن (الذباب الأصفر) المساند له على الشبكة العنكبوتية هجومات ضاربة على منتقديه ويكيل لهم أقذع الشتائم ويستعيد بشأنهم الاتهامات والأوصاف التي خصّهم الرئيس بها من خيانة وعمالة وفساد، إلخ...

وفي ذات الوقت يدير سعيد ظهره للأطراف الخارجية التي تقدم التمويلات والمساعدات وتقوم باستثمارات في تونس عندما تتحفظ إزاء الحالة الاستثنائية وما رافقها من تجاوزات وحدّ من الحريات، لا يتعلق الشأن هنا فقط بحماية مصالحها الاقتصادية أو باعتبارات جيواستراتيجية وإنما كذلك بالدفاع عن مبادئ وقيم الليبرالية الغربية، لذلك أبدت قوى مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي انزعاجها من إيقاف العمل بالدستور الذي سبق أن أشادت به، وتعويضه بتنظيم مؤقت يتيح للرئيس تجميع السلطات التنفيذية والتشريعية مع ممارسة أقصى الضغط على السلطة القضائية ووضعها تحت الوصاية والرقابة المباشرة بحجة تطهير المرفق القضائي من الفساد والفاسدين، وأخيراً تمرير دستور 30 جويلية 2022 عن طريق الاستفتاء بكل ما خوله لرئيس الجمهورية من صلاحيات تضارع ما نص عليه دستور 1959 وتجعله المركز والمرجع الوحيد، ورئيساً لا يسأل عن أفعاله، هذه القوى الدولية أرسلت إشارات بل تنبيهات إلى أنها لن تستمر في دعم الدولة التونسية إن لم يتفاعل النظام القائم مع هواجسها ومطالبها، لكن سعيد يقابلها بلغة التحدي ورفض ما يعتبره تلقيناً للدروس أو إملاءً وتدخلاً في الشأن الداخلي، كما يرفع لواء الدفاع عن السيادة الوطنية، المشكل هو سعيه لتوظيف الشعور الوطني من أجل ربح معركة يخوضها بإظهار نفسه وكأنه الوطني الوحيد، ويلجأ إلى خطاب التخوين إسكات المختلفين معه أو خصومه، أما في العلاقة بالخارج فتبشير بمعركة تحريرية جديدة وخطاب يناهض التبعية ويدغدغ شعور الاعتزاز بالسيادة، ولكن دون امتلاك الموارد الكافية لإرجاع الديون والنهوض بالاستثمار والتشغيل وأوضاع المعيشة أي بالتحديد الموارد الضرورية لاكتساب السيادة والحفاظ على الاستقلال، وكذلك دون امتلاك استراتيجية وطنية لتعبئة الموارد واقتراح الحلول بما يسمح بالحدّ من التبعية الاقتصادية والسياسية معاً.

ثانياً ـ الشعبوية القيسية في ضوء العلوم الاجتماعية والتجربة التونسية

رغم تنوع التجارب التاريخية الحديثة التي ارتبطت بظاهرة الشعبوية وشكّلت مادة للتفكير في ماهيتها وتشخيص مميزاتها، ورغم تعدد التعريفات التي حاولت رفع الغموض المحيط بالظاهرة منذ إرهاصاتها الأولى الفلاحية والعمالية بالولايات المتحدة وروسيا القيصرية، مروراً بتعبيراتها القاشية في أوروبا الغربية، وبتمظهراتها الوطنية الاجتماعية بأمريكا اللاتينية منذ ثلاثينيات القرن العشرين إلى حد اليوم، ثم تجدد أشكالها ببلدان الاتحاد الأوروبي خلال السنين الأخيرة، فإن مفهوم الشعبوية يجد صعوبة في تحقيق اتفاق حول مدلوله وما زال البعض يعترض على استخدامه في البحوث العلمية بما تقتضيه من ضوابط، بيد أن هذا لا يمنعنا من محاولة الإفادة من الدراسات التي تناولته بما يساعدنا على فهم أعمق للتجربة الشعبوية القيسية في تونس.

ما قدمه الباحث الهرماسي في هذا الفصل عن الخطوات التي قطعها قيس سعيد في مسعاه لتفكيك منظومة الحكم القائمة على تفاهم الأحزاب والتكتلات والنظام البرلماني، وحملته من أجل تطهير مؤسسات الدولة من الفساد وفي المقدمة منها المؤسسة القضائية، وكذلك حملاته الخطابية على المتآمرين والمنكّلين بالشعب، وتوجّهه إلى هذا الأخير لإشهاده على فساد المنظومة السابقة برمتها، وتعمده تهميش دور الأحزاب في رسم السياسات وتهميش الدور السياسي الذي أراد الاتحاد العام التونسي للشغل أن يلعبه بدعوته إلى الحوار الوطني، وتجاهله للنخب الفكرية والثقافية وامتناعه عن التواصل معها، وكذلك إحجامه عن تقديم برنامج اقتصادي اجتماعي للإنقاذ مع ترك الحكومة التي عينها تواجه لوحدها التحديات والمصاعب المتفاقمة في مجال توفير الموارد الضرورية لمجابهة حاجات الاستثمار وخلاص الديون والنفقات العمومية..

إن مفهوم الشعبوية يجد صعوبة في تحقيق اتفاق حول مدلوله وما زال البعض يعترض على استخدامه في البحوث العلمية بما تقتضيه من ضوابط، بيد أن هذا لا يمنعنا من محاولة الإفادة من الدراسات التي تناولته بما يساعدنا على فهم أعمق للتجربة الشعبوية القيسية في تونس.
كل ذلك يؤكد أننا إزاء أيديولوجية شعبوية وأسلوب شعبوي في ممارسة الحكم، فعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي لا نجد شيئاً باستثناء بعض المبادئ العامة (مقاربة شاملة لا قطاعية) والمواقف المناهضة للتلاعب بقوت المواطن من قبل المضاربين والدعاية لفكرة الشركات الأهلية بوصفها مساهمة سعيد الخصوصية في الميدان (فكرة ما زالت في طور النطفة التي يصعب التكهن بنجاحها وفي ذات الوقت إهمال لوجود تشريع جديد لم يفعّل بعد ينظم قطاع الاقتصاد التضامني والاجتماعي)، وفي مجال آخر هو الإطار الدستوري والمبادئ التي يفترض أن تتقيد بها الدولة في ظل الجمهورية الجديدة الموعودة تجلى التذبذب والغموض والارتجال أثناء عملية إعداد وإصدار دستور 30 تموز/ يوليو 2022، بدءاً بقرار مسبق وشخصي بالاستغناء عما كان ينص عليه دستور 2014 من تأكيد مزدوج لمكانة الدين في الدولة في الفصل الأول (دولة.. الإسلام دينها) ولمدنية الدولة في الفصل الثاني (بما يعني بالحد الأدنى أن الشريعة الإسلامية ليست المصدر الوحيد ولا حتى الرئيس للتشريع)، بالمقابل جاء الفصل الخامس من دستور قيس سعيد مؤكداً ـ في النسخة الأولى على الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية – (وهي صيغة تعيدنا لى فكرة (دين الدولة) التي سبق أن رفضها كما تفرض احتكار الدولة وعملياً رئيس الدولة لصلاحية العمل بمقاصد الإسلام) ـ وذلك قبل أن يستدرك في تعديل 8 جويلية بالتنصيص على أن تحقيق هذه المقاصد يكون في ظل نظام ديمقراطي، في تنازل سريع لضغوط الرأي العام الحداثي المتخوّف على الحقوق والحريات التي كانت مكفولة بدستور 2014.

في كل هذا نسي الرئيس قيس سعيد أن الدستور عبارة عن ميثاق اجتماعي ينظم قواعد التعايش بين التونسيين والعلاقات بين سلط يفترض فيها الاستقلال عن بعضها أو على الأقل عدم إخضاع بعضها للآخر، وأن هذا الميثاق ينبغي أن يكون ثمرة أوسع توافق ممكن بين التيارات والقوى السياسية والمدنية لا وثيقة تجسد أحلام رئيس استغل الصلاحيات التي افتكها بمقتضى الحالة الاستثنائية لإصدار نص يعكس طموحاته الشخصية، وبدلاً من إعطاء الأولوية للقضايا الاقتصادية والاجتماعية البيئية الحارقة وتحسين حالة الخدمات والمرافق العامة، وجّه جل اهتمامه وطاقته لهدم البناء السياسي والمؤسسي السابق ـ والذي لم يكتمل أصلاً طبقاً لما ورد بدستور 2014 ـ والعمل بالمقابل على إرساء نظام جديد (ديمقراطي قاعدي) يتشكل في المستوى المحلي بالاقتراع على الأفراد لا على القائمات الحزبية، وعلى المستوى الجهوي بطريقة التصعيد، إلا أن قمة الهرم فيه يحتلها رئيس منتخب مباشرة وبصلاحيات واسعة جداً وآليات تحول عملياً دون محاسبته كما تجعل من المتعذر على المؤسسة النيابية إلزامه بتغيير سياسته أو حكومته، من جهة أخرى يفرض القانون الانتخابي الذي سنّه قيس سعيد في أيلول/ سبتمبر 2022 بمقتضى سلطته الاستثنائية على المترشحين لمجلس النواب تقديم برامج تقتصر على الشأن المحلي وبالتالي خالية من أي اهتمام بالشأن الوطني ما يعني تقزيم دور السلطة التشريعية ويجعل السلطة التنفيذية محتكرة لصلاحية إعداد التشريعات وتقرير السياسات العامة.

اقرأ أيضا: عجز الثورة التونسية عن تجسيد القطيعة مع الماضي.. مقدمات وأسئلة

اقرأ أيضا: لماذا استحال "الربيع العربي" إلى شتاء قارس؟ عن محنة الديمقراطية في تونس

الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع