لا شك أننا نعيش عالما مأزوما على كل الصُّعد، نتفاوت
فقط في طبيعة أزماتنا وفي قبولنا لها، وفي رغبتنا في التغيير وجديتنا فيه.
(1)
الشعوب تعيش واقعاً كئيبا، وتعاني
أزمات اقتصادية
واجتماعية وأخلاقية طاحنة. الأوطان والدول انحسر بأسها وتراجعت أدوارها، ورهنت
مقدراتها لصالح عروش وكروش بائسة عميلة خانعة. الأمة -إسلامية كانت أو عربية-، مأزومة في واقعها الاستراتيجي والسياسي.
عالمنا أصبح يغط في ضبابية مقيتة ورمادية مهلكة،
وانتكست فيه القيم والرساليات، ولم تفلح الكوارث والوباء في أن يفيق أو يؤوب. هذا
هو مشهد كوكبنا في مجمله ومفرداته بلا تجنٍ ولا تجميل.
(2)
نحن في الشرق؛ ملأنا وعاءنا من البلاء والأزمة والضياع
كاملا عير منقوص.
المحروسة سابقا، وأم الدنيا فيما هو أسبق، استوفت حقها
وفاض كيلها من التيه والسقوط والفقر والضلال. سقطنا سقوطا حرا، حتى بتنا ننتظر
القاع، نتمناه، فلا نجده ولا نلاقيه.
لسنا في صراع بين جبهتين، جبهة حق وجبهة باطل؛ لأن
مفردات جبهة الحق هزمت نفسها من بعيد، بعضها لا يرقى الى مستوى الجبهة؛ يرضى
بأداء فردي حنجوري بلا مضمون حقيقي وبلا غطاء من واقعية، ولا ظهير شعبي يدعمه
ويحميه.
الجبهات الحقيقية تآكلت قوتها بفرط انقسام مخزٍ لا يعي
محنة الواقع وقسوته، قدموا أنفسهم في صورة صراع لاهث على رياسة كذوبة، ومع ذلك، هم لا
زالوا يزخرون بطاقة جادة نافعة، خاصة في فصيل يسعى للم الشمل ويستهدف إعادة
التموضع من جديد.
لأسباب كثيرة يجب أن نتجاوز فئات كثيرة ورموزا ارتضت
لنفسها أن تقف بين الصفين؛ بلا مبدأ واضح ولا انتماء للحق أو حتى اصطفاف مع رجاله،
لكنهم أرادوا لأنفسهم ميوعة وتذبذبا، حد لوم الضحايا وإنكار المقاومة بصوت جهير،
ومسامرة ومشاركة باطل فاجر بحماسة وعزم، مع خفوت وانزواء في قضايا الحق الظاهرة
البينة.
أما الشعوب، فهي في جملتها تحب الخير وتتمناه، تؤدي ما
عليها حينما تُستدعى إلى الاختيار بين حق وَجَدَ من يحمله، وباطل متجرّئ يسعى
ويحشد، حينها تختار الحق بلا تردد، رغم طوفان التضليل والإغراء والتخويف.
من ضلالات واقعنا البينة؛ حين يحكم البعض على الشعوب
بأنها جزء من الباطل المقيم، فيلومها كل عاجز، ويطالبها بأن تقوم مقام الرواحل
والنخب كل بليد.
(3)
ومن أسف أن ما يجدد فينا الأمل ويبعث على التفاؤل ويحمل
البشارات عريضة ومتتالية، هو أن الباطل بكل تقسيماته ودركاته؛ يسعى هو الآخر في
نحر نفسه، ويقاوم بمنتهى التحدي والغباء نواميس الكون، فيسير بمنتهى الإصرار نحو
الهزيمة والفناء.
إن أزمات الحق وإن كثرت وتراكمت، إلا أن مبادئ الحق
وقوته تحفظ له رصيدا هائلا زاخرا، لا يلبث أن يتداعى ويتفجر عند النداء.
أما الباطل الذي نواجهه، فهو مأزوم في كل مفرداته، ويفتقر إلى عقيدة أو أيديولوجيا، يأرز إليها في معركته الأخيرة.
إن الاستبداد في بلادنا فشل فَشَلا ذريعا خلال عشرية
سوداء قاتمة، رغم كل ما توفر له من إمكانات للنجاح.
الانقلاب ونظامه ورأسه نحروا أنفسهم بأنفسهم، فخسروا كل
شيء وبات يلعنهم كل أحد، داعموهم في الإقليم من ممالك العار ودويلات الخيانة،
تحوطهم أزماتهم ولم يحقق لهم تطبيعهم المذل طفوا أو نجاة. حتى الكيان المحتل
يعيش أزمات وتصدعات اجتماعية وسياسية منذ ما يقارب عقدا، فضلا عن انشقاقات هيكلية
تهدد وجوده.
هذا هو واقعنا المحلي والإقليمي، لم تترك أزمات مفرداته
سبيلا لمزيد من النصرة أو الدعم، فضلا عن الحماية والطفو.
(4)
الواقع الدولي والعالمي هو الآخر يعاني منذ فترة من
مفاجآت وصدمات، توحي بأنها مقدمة لما بعدها، ونذير بتغيير عنيف للمشهد.
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أحدث صدمة ومفاجأة
تمثلت في المبدأ والطريقة التي انتهى بها وإليها هذا التخارج.
أمريكا الدولة العظمى والقطب الأوحد، تضعف تواليا،
فليس أوباما وهيلاري كلينتون كجورج بوش الابن وكوندليزا رايس، ثم أتى ترامب فأهان
المنصب وقدم صورة مخجلة للرئاسة الأمريكية والسياسة العتيدة للطاووس الأمريكي.
ثم كانت الانتخابات الأمريكية الأخيرة وما صاحبها،
تنافس فيها الشيخوخة والهرم، وباتت تحكم الدولة العظمى، وربما تمتد سنوات أخرى
قادمة.
حالة الشيخوخة هذه تركت آثارها على الحضور الأمريكي
العام، حتى ظهر الوهن والتجاعيد في وجه العم سام، فطمع في منافسته البعض، وتجاوزه
البعض الآخر ممن كان لا يملك إلا الانصياع والتبعية.
الغرب الأوروبي لم ينجُ من حزازات وتلاسن وربما
انتهازية إبان وباء كورونا، بينما تعيش فرنسا وبريطانيا وغيرهما في أزمات سياسية
واقتصادية عنيفة، فيما يدخل البعض الآخر في معارك رخيصة كدعم المثلية وحرق المصحف،
لينتصر في ميادين العدمية والتسفل.
مفاجأة اندلاع حرب أوكرانيا في العمق الأوروبي، كان لها
صدمتها في واقع لم يفكر به، فضلا أن يتحمل تداعيات مثل هذا وآثاره.
تمرد فاجنر الأخير، أسقط هيبة روسيا العظمى وشكك في
متانة نظامها وفي قوة الرئيس بوتين وسيطرته، بعدما لم تكن محل شك.
لا زال زلزال هذا التمرد يلقي باهتزازات في الثوابت
العالمية، ويثير مخاوف كبرى على مستقبل النووي في روسيا، واحتمالات تفجره في واقع
بات يتقبل المفاجآت الكارثية العنيفة على الداخل الروسي والمحيط الأوروبي والمشهد
العالمي برمته.
ربما الانتخابات التركية الأخيرة لا توضع في خانة
المفاجآت، لكنها ربما تضيف إلى المشهد استقرارا هنا وتذبذبا هناك.
(5)
ومن جملة التفصيلات السابقة، يمكن القول إننا بصدد واقع
يتغير، وأن موسم المفاجآت لم ينتهِ، وأننا ربما ننتظر مفاجآت أشد وأخطر.
ومثل هذا الواقع يهتف بكل ضعيف أن يستعد وبكل صغير أن
يتجهز، وأن من يملك زمام المبادرة ومن يتجهز لاستقبال التغيير ويبحث عن موطئ قدم
فيه، هو من سيعلو شأنه في المستقبل القريب، أما من يدفن رأسه في الرمال، فلن يجني
سوى مزيد من التردي والخسار.
هي الفرصة إذن لنا ولشعوبنا ودولنا وأمتنا.. فهل من
مُدَّكِر؟!