فليعلم القارئ أنَّ السوري المقيم، بوصفه
مستهلكًا قبل أن يكون منتجًا أو مواطنًا، له مديرية حكومية اسمها "مديرية
حماية المستهلك"، وفيها موظفون قساورة وقشاعم يذودون عنه، ويحمونه من جشع
التجار، ويصونون لقمته، وأنَّ التاجر هو قضية مركزية في عقيدة البعث مثل إسرائيل،
بعد قضائه على الإقطاع، فلا بد من عدوٍ في الداخل غير عدوٍ الخارج، وكلاهما جشعان.
والحكاية ليس عيون بهية كما زعم محمد
العزبي، إنما هي أنَّ عرس جدة السعودي الذي استقبل فيه الرئيس بشار الأسد بطلًا
للقمة، وضيف شرف، عائدًا إليهم بعد اثنتي عشرة سنة من الفراق واللوعة، بالأحضان
والسجاد الأحمر، فانطلقت الأفراح في إعلام النظام مبشرة بالخير العميم، وجنات
النعيم، ولم تعد السعودية رجعية، ولا زعماء الخليج أنصاف رجال، فالحكمة تقتضي
النظر إلى المستقبل والإغضاء عن الماضي. أما في سورية، فالنظر كل النظر هو إلى
الماضي، الماضي لا نسيان له، بل إن الماضي البعيد يعود إلى شوارع دمشق لطمًا وطبرا
أمام الحسينيات الجديدة، داعيًا إلى الانتقام من الأمويين، أصحاب العاصمة.
تعطل مشهد لمّ الشمل العربي بخطوة خطاها
العرب نحو الأسد، فلم يبادلها بخطوة مقابلة، الحياة هات وخد، خدٌ وعين، قرار وجوب،
والصواب أنَّ أمريكا، وهذا هو الراجح، نهت حلفاءها عن مُنكَر التطبيع مع الأسد،
فتهاوت العملة السورية كورقة خريف صفراء من ثمانية آلاف ليرة سورية مقابل بالدولار
إلى ثلاثة عشر ألف ليرة، وهي تزداد سقوطًا كل يوم، وكان النظام قد رفع شعار
"ليرتنا عزتنا"، فوجد أصحاب العزة أنها تزداد ذلًا يومًا بعد يوم، وأنَّ
الرياح تلعب بها من غير تعلم للعوم أو الطيران. ووجد النظام نفسه في حيص بيص، وعسى
ولعل وليس، وقد خذله شقيقاه غير العربيين؛ الروسي السلافي الأرثوذكسي، والإيراني
الآري الشيعي، فهما يعانيان من حصار غربي، وهما تاجران، جشعان، يعملان بقوانين
السوق، والخطوة بعشر خطوات، فكل معونة اقتصادية يقتطعون مقابلها قطعة من لحم الأرض
السورية.
ثم إن الأول، وهو روسيا، متورطة في حرب
طويلة مع أوكرانيا التي تقصف العاصمة موسكو بالمسيرات، والشقيق الثاني منهمك في
حرب مع الشيطان الأكبر، وإن كانت الحرب الحقيقية هي مع العواصم العربية السنيّة.
وكان الشقيق لفظًا بعثيًا يطلق على الناطقين بالعربية، لكن النظام السوري تجاوز
هذه الفجوة، ففرض على النشء الجديد اللغتين الشقيقتين، الروسية والفارسية. سيتخرج
الطالب السوري، إن لم يمت من الجوع والقهر، عالم لغات: إنكليزية وفرنسية وروسية
وفارسية ولغة الذل والجوع، ومن يتعلم كل هذه اللغات سينسى لغته.
وظهر أنَّ رعايا
سوريا المتجانسة الجديدة،
يأبون النوم على الضيم، فظهر شجعان ينوحون ويصرخون على وسائل التواصل وفي
التلفزيون، وأشهرهم ثلاثة ميامين ضياغم، من الحاضنة العلوية، فالسنّة ليس لهم
شجاعة الصراخ إلا من الخارج، وكان أبرزهم بطلة اسمها لمى عباس، وكان أول ظهور لها،
في تصوير مختلس، والأمن يحاول اعتقالها الساعة الثانية فجرًا، بل عرفنا أيضًا اسم
الضابط الأول الذي أرسله الفرع الأمني
لاعتقالها فجرًا، لكن الاعتقال لم يتم، لحسن خلق الضابط لؤي، وأخفقت المحاولة، لأن
البطلة كانت لهم بالمرصاد، وإنها طلبت طلبًا مستحيلًا من الضابط، أعجزه، وجعله
يضطرب أكثر من مارد القمقم في حكاية التاجر والعفريت، والطلب؛ مذكرة قضائية! فعاد
بالخذلان، وتبعها شجاع آخر، يلوم الرئيس تعريضًا، ويصفه عن جنب بلقب السوبرمان،
وثالث اسمه بشار برهوم، يعلن وقوفه إلى جانب لمى عباس، بل يحاول أن يصدرها في
لمزاته وهمزاته زعيمًة لتيار سياسي ثائر، لكن بطلة "حارة العناتر"،
الناجية من الاعتقال ما لبثت أن ظهرت في الليلة التالية، متنصلةً من البطولة،
وناعيةً على المعارضة الخارجية استغلال خطابها الاحتجاجي، وداعية إلى النضال من
داخل الوطن وليس من خارجه، وإنها لن تتردد في الذهاب إلى القضاء بمذكرة رسمية نهارًا،
لثقتها في القضاء السوري. وهو أمر لم يعرفه السوريون إلا في الأفلام المصرية وبعض
بقع الضوء التلفزيونية!
بثَّ النظام السوري عرضًا شجاعًا لأعضاء مجلس حماية "المستعلك" الشجعان وهم ينتقدون الحكومة، وطالب أحدهم بسحب الثقة من الحكومة. واستضاف التلفزيون السوري بعض أعضاء مجلس الشعب، طالبوا برفع الأجور إلى مليون ليرة، أي ما يعادل 80 دولارًا في الشهر،
نسيت البطلة أنّ المذكرة القضائية ترف حكومي
والدولة خارجة من حرب مع ثمانين دولة، المذكّرة هدرٌ في الأوراق والحبر؟ وأنّ
الشعب وثرواته في أيد أمينة! وأنّ القضاء الساهر على العدل لا يفرق بين ليل ونهار.
وأمرٌ آخر نُسي في كل هذه المعركة القضائية التي انشغل بها السوريون عن لقمة العيش
وهي أنَّ الضابط لؤي كان يريد دعوتها إلى فنجان قهوة. أين فنجان القهوة في بقعة
الضوء؟
شاعت أقوال بأن الحاضنة الاجتماعية بدأت
تتملل وتشكو وتتألم، بعد أن تردّى أجر الموظف إلى سبعة دولارات في الشهر، وذلك
لموظفي الطبقة العليا، أما موظفو الدرجة الدنيا، فأجرهم أربعة دولار، يظنُّ أن
الإمارات التي تغيث الملهوفين، ستغيثه مرة أخرى، لكن إغاثة اللهفان لن تطول
كثيرًا، فلا بد للأسد من خطوة، غير خطوة لمى عباس، وبشار برهوم، ومسرحية مجلس
الشعب.
فقد بثَّ النظام السوري عرضًا شجاعًا لأعضاء
مجلس حماية "المستعلك" الشجعان وهم ينتقدون الحكومة، وطالب أحدهم بسحب
الثقة من الحكومة. واستضاف التلفزيون السوري بعض أعضاء مجلس الشعب، طالبوا برفع
الأجور إلى مليون ليرة، أي ما يعادل 80 دولارًا في الشهر، بل إن بطلًا مجهولًا
رابعًا ظهر في طرطوس، وهي من حواضن النظام، أغلظ القول للمحافظ، النظام يدرك ليسعد
النطق إن لم يسعد الحال. والنطق ليس نطق الرئيس، ولا نطق الشعب الأخرس، إنما نطق
بعض مواليه.
العروض مضحكةٌ ضحك الجوز بين حجرتين. يعتقد
السوريون والاعتقاد هنا يقيني، أنَّ النظام لن يتغير قيد أنملة، وشروى نقير، وعرض
فتيل، فالطبع في البدن لا يغيره إلا الكفن، وإن دار الظلم خراب ولو بعد حين، أما
السوريون المذلون المهانون، فقد كسبوا أبطالا، هم، كلهم، جميعا، وقاطبة ، وطرا، من
الموالين الحكوميين أو من الحاضنة العلوية، يقولون قولة حق عند سلطان
"تاجر"، والسلطان هو رئيس الحكومة وليس الرئيس، "الرئيس كويس بس
اللي حواليه"، بل إنَّ البطلة بات لها أقوال مأثورة، مثل أقوال نلسون
مانديلا، فقد قالت: ما بعد محاولة اعتقالي ليس مثل ما قبلها. وقولها: لو جاء الأمن
بمذكرة قضائية، لذهبت معه إلى الصين.
هذه بقعة ضوء حقيقية، بثٌّ مباشر وليس من
مسلسل كوميدي.
هل سنشهد مظاهرة والعياذ بالله. سننتظر
الباص الأخضر، فقد قصد وزير الخارجية طهران طلبا للمدد.
من طرطوس هلّت البشاير.