ظل
حاضرا في الذاكرة حصار المثقفين والفنانين
المصريين لمقر وزارة الثقافة بالقاهرة
والاعتصام بها عام 2013، لرفضهم تعيين الرئيس الراحل محمد مرسي، للوزير علاء
عبدالعزيز، في مشهد غاب اليوم عن ما يجري بحق
الآثار الإسلامية بالعاصمة المصرية
من هدم وتجريف وتغيير هوية المدينة التاريخية.
القاهرة،
مدينة الألف مئذنة، والقابعة على الشاطئ الشرقي لنهر النيل، والتي احتضنت أرضها
ثاني أقدم مسجد في مصر وقارة أفريقيا عام (641م)، والقائم حتى اليوم باسم
الفاتح عمرو بن العاص، تواجه أقسى هجمة ضد هويتها وآثارها بعد هجمة الحملة
الفرنسية (1798-1801).
ولم
يمنع تسجيل اليونسكو للقاهرة التاريخية قبل 44 عاما وتحديدا عام 1979، كأحد مواقع
التراث العالمي، رئيس النظام المصري عبدالفتاح
السيسي، من تنفيذ خطته ومواصلة
عمليات الهدم والإزالة لمنطقة "القرافة" الشهيرة والمعروفة بمقابر
"المماليك"، و"السيدة نفيسة"، و"الإمام الشافعي"،
و"السيدة عائشة"، والتي وصفتها صحيفة "التايمز"، بأنها
"واحدة من أروع
مقابر العالم".
وتقوم
حكومة السيسي، بهدم آلاف المقابر التاريخية والتي تعد من الآثار الإسلامية العريقة
لتمرير طريق داخل أقدم جبانات القاهرة يربطها بالعاصمة الإدارية الجديدة (48.3 كم)
شرقي القاهرة، ما أثار المخاوف على تلك المناطق الأثرية وعلى هوية المدينة العريقة،
لكن المثير هو غياب أي نوع من أنواع الرفض لتلك الجريمة من كبار المثقفين
والفنانين المصريين.
"المثقفون
البزرميط"
وعلى
مدار 45 يوما استمر اعتصام المثقفين داخل وخارج وزارة الثقافة عام 2013، والذي
قاده الكتاب بهاء طاهر، وصنع الله إبراهيم، وفتحية العسال، ومحمد سلماوي، ويوسف
القعيد، والشاعر سيد حجاب، وعدد كبير من الفنانين والمخرجين والمثقفين، الذين
مهدوا لانقلاب السيسي على الرئيس محمد مرسي.
ونشر
الكاتب الصحفي سليم عزوز، صورة لإحدى المقابر التاريخية والأثرية التي جرى هدمها
بينما تعلوها اثنتان من أجمل القباب الإسلامية فنا وجمالا وزخارفا، متسائلا: أين
المثقفون المصريون؟ وقال: "في انتظار موقف على الأرض من (المثقفين البزرميط)
–ترجع لكلمة pizzar الفرنسية وتعني عدم التجانس- الذين حاصروا وزارة الثقافة في زمن الإخوان".
وتساءل
البعض عن غياب دور وزارة الثقافة، وقوانين حماية الآثار، من ما دعوه بـ"مهزلة
هدم آثار مصر".
ورصد
متابعون بينهم الكاتب الصحفي ورئيس تحرير الأهرام الأسبق عبدالناصر سلامة، عشرات
المآذن التاريخية لمساجد أثرية ترجع للعصور الوسطى تزين سماء القاهرة، وجميعها في
كادر صورة واحدة التقطها مصور لحي مصر القديمة، مشيرين لخطورة الموقف واحتمال أن
تصل يد الهدم إلى تلك الآثار الإسلامية الشاهدة على هوية القاهرة ومصر الإسلامية.
ومن
تلك: المساجد، سنقر السعدي، وألماس الحاجب، وجانم البهلوان، وجاني بك الأشرفي،
ومحمود الكردي، والسلطان المؤيد شيخ، والفكهاني، السلطان الغوري، والأشرف برسباي،
والشيخ مظهر، والسلطان منصور القلاوون، والناصر محمد بن قلاوون، والظاهر برقوق، والحاكم بأمر الله.
هل غاب
دور المثقفين في مصر؟
وفي
تعليقه لـ"عربي21"، على غياب دور المثقفين في هذه القضية الخطيرة، طرح
الكاتب الصحفي ومساعد رئيس تحرير صحيفة "الأهرام"، الأسبق أسامة الألفي،
التساؤل السابق، وقال: "تعلم جيدا أن المثقف جزء من الشعب ومثله مثل الشعب
يعاني من الحصار والكبت والفقر ولا يملك أن يقول رأيا معارضا".
وراح
في شرح الحالة المصرية مضيفا أن "السجون عامرة بكل من قالوا: لا، والصحف
مقيدة الحرية لا يمكنها تناول موضوع صدر بأمر من فوق، ولو جرؤ رئيس تحرير على مجرد
إشارة فسيعزل. فمن يملك حق التعيين يملك حق العزل، ولم يعد أمام الناس للتنفيس سوى
وسائل التواصل الاجتماعي".
وتابع:
"لا تنتظر ممن هدم بلدا وظلم شعبا أن يعنيه التاريخ أو يخيفه نبض قبور
الصالحين والخالدين، فيما لا يجرؤ أن يقترب من مقابر اليهود أو يمس ضريح مولاهم
(أبا حصيرة)، والأهم عنده من التراث وحق الأموات أموال يحصلها ببيع الأرض لمستثمر
إماراتي".
وفي
مقابل هدم الآثار الإسلامية في القاهرة، تقوم الحكومة المصرية بعمليات ترميم
متواصلة للآثار اليهودية في القاهرة والإسكندرية، والتي كان آخرها افتتاح رئيس
الوزراء المصري مصطفى مدبولي، في 31 آب/ أغسطس الماضي، معبد "بن عزرا"،
أحد أقدم المعابد اليهودية بعد ترميمه.
"تهديد
اليونسكو"
ومن
المقرر أن تعقد منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة
"اليونسكو"، اجتماعها الدوري للجنة التراث العالمي في العاصمة السعودية
الرياض في 10 أيلول/ سبتمبر الجاري، وهو ما أثار مخاوف مراقبين من حذف القاهرة من
تصنيف المدن الأثرية، بعد حملات الهدم الواسعة للمقابر.
وفي
عامي 2020، طالب مركز التراث العالمي التابع لليونسكو القاهرة في تموز/ يوليو 2020
تأكيد المعلومات المثارة حول هدم المقابر الأثرية، لكن المركز وفي العام 2021، أكد
أنه "لم يتم إرسال أي معلومات"، فيما هددت اليونسكو بشطب تلك المنطقة من
قائمة التراث العالمي، وبنقلها لقائمة التراث المعرّض للخطر.
وهو
الأمر الذي يثير المخاوف، ويستدعي تدخل المثقفين المصريين، لمناشدة النظام وقف تلك
الاعتداءات المتكررة على المباني الأثرية والتراثية.
"سيطرة
العسكر"
غياب
دور المثقفين عن ملف هدم التراث، رغم حضورهم السابق القوي في اعتصام وزارة الثقافة
عام 2013، فسره الكاتب الصحفي المصري جمال سلطان، بقوله لـ"عربي21":
"سابقا كان هناك توازن قوى، أما الآن فقد سيطر العسكر سيطرة كاملة تخيف
الجميع".
من
جانبه، قال الكاتب والأديب المصري مسعود حامد: "من أهم نتائج الربيع العربي
نسف حسبة المثقف على الأفكار المستنيرة وتمجيده لقيم الهوية والحرية".
وأضاف:
"كنا ضحايا (تنظيرات غرامشي)، ومفهوم المثقف العضوي المندمج مع هموم شعبه
وجودا وعدما"، مشيرا إلى تنظيرات الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891-
1937) حول مفهوم "المثقف العضوي".
حامد،
تابع حديثه مؤكدا أنه "من البداية كشف الربيع العربي وهم المبالغة في دور
المثقف الحامي لتراثه ومستقبله، وهو برر للاستبداد مصطفا ضد شعبه وذاته مرتزقا من
أكثر الأنظمة فاشية، وهو النظام اللامدني العسكري".
وقال
إنهم "مثقفون على مقهى وثرثرة، وكوب شاي ونرجيل ودخان، الربيع العربي
أسقطهم فلم يستطيعوا حماية قبور رموزهم مثل قبر طه حسين، من الهدم، ولا عن ما كسبه
أجدادهم من مكتبات بيعت وخربت".
وتساءل:
"فكيف يدافعون عن آثار في معظمها أثار إسلامية، أو عن حريات عامة وحقوق إنسان
وقيم أخرى تخلوا عنها، إنها الرجعية المحضة بالمعنى الماركسي التقليدي".
وأشار
إلى أن "الربيع العربي كشفهم، ولكنه لم ينتج لنفسه مثقفين حقيقيين يذودون عن
قيمه فاستبدل الجدار بالجدار، ويكاد يكون لهذا الربيع صورتان منفصلتان في البحث عن
توحيدهما لا بد من مخاض جديد، ووجوه أخرى لا إلى هؤلاء ولا هؤلاء، وثورة فقدت
عكازها ومضت، كأنها لم تكن يوما ولا كانوا".
"تطوير
أم هدم"
وتروج
الحكومة، لما تسميه مشروع تطوير منطقة ميدان السيدة عائشة، ومحيط القلعة، ومسجد
السيدة نفيسة، ومحيط مقابر الإمام الشافعي، وربطها بهضبة المقطم، ومحور الحضارات
وكورنيش النيل، ونقل عدد من المقابر الواقعة بهذا المسار.
ومنذ
العام 2020، وتحديدا في تموز/ يوليو، ولتوسيع الطرق المؤدية للعاصمة الإدارية
الجديدة، بدأت لوادر وجرافات الحكومة المصرية في هدم القرافة الكبرى التاريخية
شمال العاصمة، ما تعرف بـ"قرافة المماليك".
والتي
كانت تحتوي على أجمل وأروع ما تركه حكام مصر من عمارة وطرز بناء في تلك الحقبة من
العصور الوسطى، ومنها قبر الإمام وَرش، صاحب رواية ورش عن نافع لقراءة القرآن الذي
تمت إزالته، في حملة طالت بعض مقابر العائلات الأرستقراطية بالنصف الأول من القرن
الـ20.
مثل
مقابر عبود باشا، والأميرة نازلي حليم، وأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد، والمؤلف
إحسان عبد القدوس، والكاتب محمد التابعي.
لم
تكتف الحكومة بما أحدثته من دمار بـ"قرافة المماليك"، أو القرافة الكبرى
لتنتقل أعمال الهدم والجرافات وسيارات النقل العملاقة في آب/ أغسطس الماضي،
للقرافة الصغرى أو قرافة "الإمام الشافعي"، وفيها 2760 مقبرة، تحتوي
على رفات شخصيات إسلامية وتاريخية.
"تبرير
حكومي"
وتبرر
الحكومة عمليات الهدم بأن هذه المقابر لم تكن مسجلة كمعالم إسلامية، لكن وإزاء
الضغوط التي تمارسها وسائل التواصل الاجتماعي، ولكي يتخذ الأمر صبغة علمية شكل
السيسي لجنة من علماء التاريخ والآثار والهندسة لبحث بدائل نقل مقبرتي السيدة
نفيسة والإمام الشافعي.
وكان
لافتا إعلان رئيس اللجنة الدائمة لحصر المباني والمنشآت ذات الطراز المعماري
المتميز في شرق القاهرة أيمن ونس، استقالته مطلع أيلول/ سبتمبر الجاري، من رئاسة
اللجنة معلنا رفضه لعمليات هدم مقابر القاهرة التاريخية.
وقال
إن "ما يحدث الآن ليس إهدارا لمباني المقابر التاريخية التراثية فحسب؛ لكنه
إهدار لنسيج عمراني تاريخي ذي قيمة متفردة على مستوى العالم، ويمثل جزءا مهما من
التراث العالمي، وإهدارا لتراث مصر التاريخية ذات القيمة التي لا يمكن
تعويضها".
إلا
أن الرجل وبعد ساعات من نشر استقالته عبر "فيسبوك"، قام بحذف منشوره،
وكتب مشيدا بدور الدولة في التطوير، في تغير فسره مراقبون بأن ونس، تعرض لضغوط
أمنية دفعته للتراجع عن استقالته.
"غضب
الأثريين"
وفي
الوقت الذي غاب فيه دور كبار المثقفين المصريين فإن بعض الأثريين أعلن عن غضبه
ورفضه لما يجري بحق الآثار الإسلامية، فيما أصدرت جمعية المعماريين المصريين
بيانها مطلع أيلول/ سبتمبر الجاري، مطالبة بإنقاذ مقابر القاهرة التاريخية من ما
دعته بـ"أعمال الهدم التخريبية".
وقال
البيان، إن المقابر التاريخية تتعرض لـ"تدمير شامل لم تشهده خلال 14 قرنا،
ولا خلال أي من فترات الاحتلال الأجنبي".
الأثري
المصري العامل بالمجلس الأعلى للآثار ثروت حجازي، تحدث عن بكاء المتخصصين في
الآثار بكل الحقبات التاريخية "الحزين الراقي المتمدن على احتراق كنيسة
نوتردام بباريس، حتى جفت دموعهم".
وأضاف
عبر "فيسبوك": "ولم يبق في عيونهم دمع ولا في قدرتهم قول ولو كلمة
حزينة على هدم آثار مصر الإسلامية، إلا أقل القليل واستخدموا الإشارات
الملغزة فلا تعرف إن كانوا يقصدون ما يحدث الآن أم عن ماذا يتكلمون".
وقام
مجموعة من الشباب الرسامين بتوثيق آثار ومعالم القاهرة التاريخية قبل إزالتها، حيث
قاموا ضمن جولة بعنوان "طالع إزالة"، لرسم وتوثيق المقابر التاريخية
التي صدر بحقها قرارات للإزالة قبل تنفيذها في مقابر الإمام الشافعي.