لن أخوض في توصيف الكارثة التي حلت بمدن
الشرق الليبي أو أبذل جهدا في تصوير ما وقع في درنة، فالمقاطع المصورة والصور
الثابتة وشهادات الناجين أبلغ من أي وصف، كما إن الآثار المترتبة عن الفاجعة باتت معلومة لدى سكانها قبل من بلغ بهم الأسى والحزن كل مبلغ من جيرانها الأقربين
والأبعدين، ويكفي أن أنقل وصف أحد علماء مدينة درنة، وقد كان شاهد عيان على
الفاجعة، أن ما وقع صبيحة الاثنين الماضي فاق في مساحته وامتداده كارثة هيروشيما.
غير أننا نحتاج إلى وقفات جادة وصادقة مع
المأساة من جهة الأسباب التي أسهمت في وقوعها، ونهج التعامل مع نتائجها، ومن
الضروري أن نسلط بعض الضوء على علاقة الفاجعة بالتدافع السياسي وأثر الأخير في
خيارات مواجهة تداعيات الفاجعة.
لا شك أنها إرادة الله، ولا راد لقضائه ولا
معقب لحكمه، لكن ذلك لا يعني عدم الخوص في عالم الأسباب التي أسهمت في وقوع كارثة
غير مسبوقة في التاريخ الليبي المعاصر، ومع قبول الافتراض القائل بأن ترميم السدود
المتهالكة أصلا ما كان يسعف في منع وقوع الكارثة، ذلك أن كمية الأمطار الكبيرة وما
ترتب عنها من تدفقات هائلة في الممرات المائية التي تقود إلى وادي درنة أكبر وأقوى
من أن يتحكم فيها سد المدينة، فإن ذلك لا يعني عدم وجود إجراءات وقائية تقلل من
حجم الخسائر في الأرواح بل ربما تجعلها في الحدود الدنيا جدا.
معلومات أولية متاحة أشارت إلى هطول أمطار
بكميات غير مسبوقة، وكان هناك توقعات بعاصفة لم تعرفها البلاد من قبل، ودق خبراء
ونشطاء ناقوس الخطر في حال وقوع سيول كبيرة لن يصمد أمامها سد درنة الكبير
وبالتالي ستقع كارثة محققة، غير أن السلطات المحلية والمركزية في الشرق وفي الغرب
لم تلق بالا للمعلومات كما لم تتعاط مع التحذيرات، فقرار إخلاء المناطق المحاذية
للسد هو إجراء طبيعي كان ينبغي اتخاذه من السلطات المعنية، وهذا لم يقع.
المشهد اليوم يؤكد مجددا أن الليبيين مأهلون للتصافي والتقارب برغم ما وقع من شقاق وقطيعة وحروب، وأن العقبة الكؤود هم الساسة والنخبة التي تؤيدهم فهم المسؤولون عن الحالة التي تعانيها البلاد ويذوق مُرها الليبيون.
برغم تراكم الأزمات وتكرارها في
ليبيا خاصة
منذ العام 2011م، إلا أن إدارتها ما تزال متواضعة جدا. صحيح أن الانقسام السياسي
والمؤسساتي يجعل من التحكم في الأزمة أمرا صعبا، فوزير الحكم المحلي بحكومة الوحدة
قابع تحت الإقامة الجبرية لدى الجيش التابع للبرلمان لأنه قدم إلى مطار الأبرق في
الشرق بنية المشاركة في إدارة الأزمة، والصراع على أشده للتحكم في الأموال الواجب
تخصيصها لمجابهة
نتائج إعصار دانيال، لكن الارتباك الشديد في مواجهة النزوح والنقص
الحاد في الغذاء والماء والدواء، والفوضى التي تصاحب عمليات الإغاثة يؤكد أن مسائل
أساسية في إدارة الكوارث والأزمات ما تزال غائبة عن أصحاب القرار وجهات الاختصاص.
الانقسام الذي بهت أثره على المستوى الشعبي
مع الهبة العفوية لجموع الليبيين في الغرب والجنوب لتخفيف معاناة إخوانهم في
الشرق، سيكشر عن أنيابه في قابل الأيام والأسابيع والسبب هو صلاحية إدارة الأزمة
في شقها المالي، فقد أعلنت حكومة الوحدة الوطنية عن تخصيص ملياري دينار لمجابهة آثار
فاجعة درنة وأخواتها من مدن الشرق، وقالت حكومة الاستقرار أو الحكومة الليبية في
الشرق أن عشرة مليارات دينار ستوجه لترميم ما خلفه إعصار دانيال من خراب ودمار،
وكان مجلس النواب قد أقر ميزانية طوارئ كبيرة يشرف على إنفاقها فريق يضم مجلس
النواب والقيادة العسكرية في الرجمة ومصرف ليبيا المركزي.
المشهد اليوم يؤكد مجددا أن الليبيين مؤهلون
للتصافي والتقارب برغم ما وقع من شقاق وقطيعة وحروب، وأن العقبة الكؤود هي الساسة
والنخبة التي تؤيدهم فهم المسؤولون عن الحالة التي تعانيها البلاد ويذوق مُرها
الليبيون.
وقد يشكر الليبيون يوما الشدائد برغم قسوتها
فهي التي تعيد الميزان إلى التوازن والوضع إلى الاستقرار، وتعري العابثين بحاضر
ومستقبل الوطن والمواطن فيصار إلى غيرهم من أهل الحكمة والنزاهة والحزم.