يسعى
النظام السوري بعد نحو 12 عاما إلى كسر العزلة التي فرضت عليه دوليا وعربيا عقب قمعه الوحشي للثورة الشعبية التي انطلقت عام 2011، ورغم ذلك فإن المحاكمات الأوروبية مازالت تلاحقه، ما يثير التساؤلات حول أهميتها في هذا التوقيت.
وفي أيار /مايو الماضي، شارك رئيس النظام السوري بشار الأسد في قمة جامعة الدول العربية التي أقيمت بمدينة جدة السعودية وذلك للمرة الأولى منذ 12 عاما. وجاءت عودة الأسد إلى الجامعة العربية بعد دفع السعودية ومن خلفها الإمارات لصالح إعادة تأهيل النظام ودمجه في محيطه العربي، بالتوازي مع التقارب الدبلوماسي بين المملكة وإيران، والذي انتهى باتفاق استئناف العلاقات بينهما.
ورغم الجهود العربية ومساعي حلفاء الأسد، لا يزال النظام السوري منبوذا على الساحة الدولية والأوروبية على وجه التحديد، والتي تنشط فيها المحاكمات التي تستهدف النظام والتابعين له، في محاولة لإيصال صرخات الضحايا إلى العالم ووضع عائق أمام أي مسعى لإعادة دمج النظام أو تطبيع العلاقات معه مجددا على الصعيد الدولي.
المحامي والناشط السوري، أنور البني، شدد على أهمية ملاحقة النظام وأركانه قضائيا في أوروبا عبر فتح ملفات الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها النظام منذ وصوله في سبعينيات القرن الماضي إلى السلطة في
سوريا إلى اليوم، مشيرا إلى أن المحاكمات التي أفضت إلى إدانة مجرمين مرتبطين بالنظام في أوروبا توجه رسالة لكافة أركانه في دمشق، وعلى رأسهم بشار الأسد، بأنه لا يوجد ملاذ آمن لهم في أوروبا وأي مكان في العالم.
وفي حديثه عن أهمية المحاكمات الأوروبية، كشف البني لـ "عربي21" أن لديه معلومات تفيد أن ضباطا أمنيين في النظام بدأوا باستخراج جوازات سفر بأسماء جديدة خوفا من ملاحقتهم في حال قدومهم إلى أوروبا. كما أوضح أن نشاط داعمي النظام الذين لجؤوا إلى الدول الأوروبية بدأ بالتراجع مع الوقت، مشيرا إلى أن كثيرا منهم حذف وأخفى أي دليل على وسائل التواصل الاجتماعي يؤكد ارتباطه بالنظام أو تورطه بارتكاب جرائم بحق الشعب السوري.
ألمانيا.. محاكمات محورية
في كانون الثاني/ يناير 2022، حكمت المحكمة الإقليمية العليا في مدينة كوبلنز التابعة لولاية راين لاند فالس الألمانية، بالسجن مدى الحياة على الضابط السوري اللاجئ، أنور رسلان، لإدانته بارتكاب جرائم تعذيب وقتل بحق معتقلين سوريين.
ووجه الادعاء العام لرسلان تهم تعذيب أكثر من 4 آلاف معتقل، فقد 58 شخصا منهم حياته نتيجة التعذيب الشديد، كما حمله المسؤولية عن حالتي اغتصاب وعنف جنسي. وأوضحت سجلات القضية أن الجرائم ارتكبت في الفترة بين نيسان/ أبريل 2011 حتى أيلول/ سبتمبر 2012.
وشكلت محاكمة الضابط الذي عمل في فرع الأمن المعروف باسم "فرع الخطيب" بالعاصمة دمشق، وهو أحد فروع النظام الأمنية سيئة السمعة، انعطافا مهما في مسيرة العدالة لمحاسبة جلادي النظام وكبار رؤوسه المتورطين في معاناة الشعب التي خلفت مئات آلاف القتلى والمخفيين قسريا منذ عام 2011.
ويرى البني الذي كان أحد ضحايا رسلان في معتقلات النظام، أن قضية كوبلنز إحدى أهم القضايا المرفوعة ضد جلادي بشار الأسد، والتي شكلت نقطة تحول محورية، موضحا أن رسلان أدين بجرائم ضد الإنسانية عبر حكم قضائي قطعي.
وهذا النوع من الجرائم لا يرتكبه الأشخاص بل الأنظمة، كما يقول المحامي السوري الذي شدد خلال حديثه لـ "عربي21" على أن إدانة الضابط في كوبلنز هي إدانة رسمية لكافة أركان النظام السوري بأعلى مستوياته، لاسيما أن ملف القضية بلغ نحو 700 صفحة تناولت انتهاكات النظام ضد الشعب السوري منذ عهد الأب (حافظ الأسد) وأحداث مجزرة حماة عام 1982 وحتى جرائم القتل والتعذيب والإخفاء القسري بعد 2011.
ومحاكمة رسلان ليست الوحيدة في ألمانيا، حيث تستمر جلسات محاكمة الطبيب السوري علاء موسى في محكمة فرانكفورت الألمانية والتي بدأت أولى جلساتها في 19 كانون الثاني/ يناير 2022.
وكانت السلطات الألمانية ألقت القبض على المتهم في حزيران/ يونيو 2020، وذلك بعد نحو 5 سنوات من دخوله إلى ألمانيا. وأقرت المحكمة 18 تهمة تعذيب ضد الطبيب الذي عمل في سجن للمخابرات العسكرية بمدينة حمص عام 2011، حيث تعرض أحد المتظاهرين الذين تم اعتقالهم إلى الضرب من قبل موسى ما تسبب بوفاته.
كما عمل موسى في جهاز المخابرات بمستشفى المزة العسكري رقم "601"، ويعتبر ضالعا في جرائم العنف الجنسي وتعذيب معتقلين وحرق أعضائهم التناسلية، إضافة إلى قتل مدنيين في المكانين اللذين عمل بهما في السنوات الأولى للثورة السورية.
والشهر المنصرم، ألقت السلطات الألمانية القبض على لاجئ سوري، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، لصالح النظام السوري بين عامي 2012 و 2015.
وبحسب بيان النيابة الفدرالية الألمانية، فإن المشتبه به، ويدعى (أحمد. ح) ويعرف بـ "تريكس التضامن"، كان مسؤولا محليا "لقوات الدفاع الوطني" المعروفة باسم "الشبيحة"، والتي ارتكبت أعمال عنف ونهب وابتزاز ضد السوريين لصالح النظام السوري ورئيسه بشار الأسد.
ما هي الولاية العالمية؟
وتعتبر ألمانيا إحدى أكثر الدول الأوروبية ملاحقة لمجرمي الأسد، وذلك بفضل ما يعرف بـ "الولاية القضائية العالمية"، وهي واحدة من الأدوات الرئيسية التي تضمن منع الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني، والتحقيق فيها ومحاكمة مرتكبيها بغض النظر عن المكان التي وقعت فيه أو جنسية الضالعين بها.
وفي ظل عدم وجود محاكم متخصصة بملاحقة مرتكبي هذا النوع من الجرائم التي يرتكبها نظام الأسد بحق السوريين، شدد أنور البني على أن مبدأ الولاية العالمية أغلق ثغرة مهمة في النظام الجنائي الدولي كانت تمكن المجرمين من الإفلات من العقاب، مشيرا إلى أن أهميتها تتعدى الملف السوري لتشمل العالم أجمع.
وأوضح البني في حديثه لـ"عربي21" أن الولاية العالمية منحت القضاء (في دول أوروبية عديدة منها ألمانيا وفرنسا) حق التعامل مع هذه القضايا بعيدا عن المحكمة الجنائية الدولية التي تختص في النظر بالجرائم التي تقع في الدول الموقعة فقط على "ميثاق روما" المؤسس للمحكمة.
كما تخضع إلى التجاذبات السياسية للقوى العظمى في مجلس الأمن، ما يعيق تحويل ملف سوريا إليها في ظل وجود حق النقض "الفيتو"، الذي أحبط حلفا الأسد - روسيا والصين - من خلاله قرارات دولية عديدة ضد النظام في أوقات سابقة.
فرنسا.. مسؤولو الأسد في مرمى القضاء
حدد القضاء في فرنسا الشهر المنصرم موعد محاكمة 3 مسؤولين كبار في النظام السوري غيابيا بتهمة التواطؤ في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في الفترة الممتدة ما بين 21 و24 أيار /مايو 2024.
وسيحاكم المسؤولون في قضية مقتل معتقلين اثنين يحملان الجنسيتين السورية والفرنسية، وهما مازن دباغ ونجله باتريك، اللذين اعتقلا في دمشق عام 2013. كما ستكون أول محاكمة في فرنسا في جرائم ضد الإنسانية ارتكبت في سوريا بعد اندلاع الثورة السورية.
ويأتي تحديد موعد المحاكمة الغيابية ضد كل من علي مملوك وجميل حسن وعبد السلام محمود، بعد سبع سنوات من تقديم ذوي الضحيتين شكوى للتحقيق بملابسات مقتلهما في معتقلات النظام.
واللواء علي مملوك هو رئيس مكتب الأمن الوطني في النظام السوري، والمدير السابق للاستخبارات العامة. أما اللواء عبد السلام محمود فهو مدير فرع باب توما التابع للمخابرات الجوية. واللواء جميل حسن هو رئيس إدارة الاستخبارات الجوية السورية في الفترة التي اختفى بها دباغ ونجله في دمشق.
وعلى عكس القضاء الألماني، يسمح النظام القضائي في فرنسا بالمحاكمة الغيابية وإصدار حكم نافذ بحق المتهمين، بحسب المحامي السوري الذي أوضح أن الحكم المتوقع أن يصدر ضد مسؤولي النظام سيكون له تأثير سياسي كبير على الوضوع في سوريا وإن كان غيابيا.
ملاحقة "جزار حماة"
في منتصف شهر آب /أغسطس الماضي، أعلنت المحكمة الجنائية الفدرالية السويسرية عن مذكرة توقيف دولية بحق رفعت الأسد، عم رئيس النظام السوري، بتهمة ضلوعه بجرائم حرب في مدينة حماة عام 1982، حيث كان قائدا لفرقة عسكرية تعرف بـ "سرايا الدفاع".
وجاءت المذكرة السويسرية نتيجة جهود حقوقية سورية استمرت لسنوات بالتعاون مع منظمة "ترايل إنترناشونال"، في محاولة لإدانة رفعت الأسد الملقب بـ "جزار حماة" بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في عهد أخيه حافظ الأسد.
وأوضح المحامي أنور البني الذي تعاون مع "ترايل إنترناشونال" في هذا الصدد، أنه كان من المفترض أن تصدر المذكرة قبل هروب عم رئيس النظام إلى حاضنته في دمشق، لكن تأخر إصدارها لعوائق عديدة. وكان رفعت الأسد تمكن من العودة إلى سوريا قبل نحو عامين، بعد 36 عاما قضاها خارج البلاد، دون أن يتعرض إلى أي ملاحقة قانونية تخص سجله الإجرامي.
وسبق أن قدمت "ترايل إنترناشونال" شكوى في سويسرا عام 2013 ضد رفعت للتحقيق حول دوره في "مجزرة حماة"، حيث أشارت إلى أن قوات سرايا الدفاع التي كانت تحت قيادته، متورطة بارتكاب إعدامات واختفاء قسري واغتصاب وتعذيب على نطاق لا يمكن تصوره لاستعادة السيطرة على مدينة حماة في شباط / فبراير 1982.
وتشير مصادر إلى إن الانتفاضة والعمليات العسكرية التي أعقبتها في مدينة حماة خلفت ما بين 10 آلاف و40 ألف قتيل.
وحول أهمية التحرك السويسري، أشار البني في حديثه لـ"عربي21" إلى أن مذكرة التوقيف بحق رفعت الأسد تسلط الضوء على جرائم النظام السوري قبل عام 2011، موضحا أن أهميتها تنبع من كونها إجراء قضائيا يفضح أن النظام في دمشق يعيش على الإجرام والقتل والتنكيل بالسوريين منذ وصوله إلى الحكم وأن قوته في الأساس تكمن في ممارسة الإرهاب ضد شعبه.
كما أضاف أنها خطوة في سبيل الوصول إلى محاكمة علنية مفتوحة أمام الرأي العام العالمي لكشف وإدانة المجازر التي ارتكبها النظام طوال عقود وتحقيق العدالة للضحايا عبر قرارات قضائية قطعية.
أمام أسوار لاهاي
إلى ذلك، رفعت كندا وهولندا شكوى مشتركة ضد النظام السوري في محكمة العدل الدولية في حزيران / يونيو الماضي، في أول قضية أمام أعلى محكمة للأمم المتحدة مرتبطة بجرائم النظام في سوريا.
وأشار البلدان إلى أن النظام "ارتكب انتهاكات لا حصر لها للقانون الدولي بدءا من 2011 على أقل تقدير".
ويأتي تحرك البلدين بهدف "تحميل نظام الأسد المسؤولية عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وعمليات تعذيب بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب التي صادقت عليها دمشق في 2004".
والجدير بالذكر أن شكوى كندا وهولندا أعادت تسليط الضوء على جرائم التعذيب والمختفين قسريا في سوريا منذ اندلاع الثورة الشعبية، ما من شأنه أن يساهم في كبح جماح أي مسعى في المستقبل لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم تحت مزعم عودة الأمن وزوال الأسباب التي أدت بهم إلى مغادرة مدنهم وقراهم في سوريا، بحسب أنور البني.
كما وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة أيضا في حزيران /يونيو المنصرم على إنشاء هيئة مستقلة للتحقيق في مصير أكثر من 100 ألف شخص مفقود ومخفي قسرا في عموم سوريا منذ بدء الصراع عام 2011. وصوتت 83 دولة لصالح القرار، مقابل 11 ضده، بما في ذلك روسيا والصين وإيران، فيما امتنعت 62 دولة عن التصويت، بينها الدول العربية والخليجية التي أعادت إدراج النظام في جامعة الدول العربية.
يشار إلى أن ما لا يقل عن 112713 شخصا، بينهم 3105 أطفال و6698 سيدة لا يزالون قيد الاختفاء القسري في سوريا منذ آذار/ مارس 2011، بحسب أرقام منظمة الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
وشدد أنور البني خلال حديثه لـ "عربي21" على "استمرار مسيرة المطالبة بالعدالة السورية وتحقيقها تقدما محوريا في التضييق على مرتكبي الجرائم المروعة بحق الشعب السوري عبر مرورها بأوروبا"، لكنه أوضح أيضا أن "العدالة لن تتحقق بشكلها الكامل إلا في سوريا عندما يتمكن الضحايا والمهجرون من العودة دون خوف إلى منازلهم التي أجبروا على مغادرتها".