يقدم المبدع ما بكنانته، فيسرد مبادئه التي حفظها عن ظهر قلب، وهو
يصبغها بصبغة جمالية وفنية خاصة، فيترك خلفه سجلاً تاريخيا بمثابة ميثاق خالد، فيه
ما آمن به ونادى فيه وعاش لأجله.
والموهوب الفلسطيني حاله كغيره ممن يحملون رسالتهم على أعناقهم،
فالإبداع الفلسطيني يكشف ما خلف الإعلام والكاميرات، ويصوّر ما بعد الصيحات
والعويل، ويتحدث عما وراء لحظات الاغتصاب والاختطاف والانتزاع.
المبدع الفلسطيني
صنع المبدع الفلسطيني رموزه الخاصة من ظروفه المعيشة، ومن قضاياه
المقدسة، ومن فقده الممزوج بالألم والدموع، ومن قهر لجوئه وتشريده، وكل ظروف
اللصوصية التي يعيشها، فالوطن المسلوب هو أحد أقوى مراجع
الإبداع الفلسطيني.
وكان الجسر المتين الذي أوصل ما ابتدعه الفلسطينيون للعالمية التي
نراها الآن، هو الوعي الفلسطيني بأن المعاناة صانعة الرجال، وأن كل فلسطيني هو روح
من أرواح القضية النابضة، فما من مثقف ومطلع لا يعرف الرموز البشرية للقضية
الفلسطينية، وأشهرهم ناجي العلي الذي رسم بخطوطه البيضاء والسوداء صورة وطن لطالما
لوّن بالأحمر، واستخدم ريشته التي جسدت آلام شعب تغذّى وكبر على القهر والتشريد
والفقد، ليحارب جيشا مدججا بأحدث الأسلحة والتقنيات، وبقي يقاتل الهيمنة
والاستبداد حتى اغتالوه، ظنا منهم بأن رصاصة واحدة قد تنهي وجود رسام ثائر، لكن
الـ"حنظله" لم تبرح مكانها من على جدران قرى فلسطين المحتلة بالرسم
والمعنى، حتى بعد استشهاد رسامها على أحد الأرصفة الباردة في شوارع لندن.
وللفلسطينيين في أدب المقاومة ما لهم، وأشهر من كتب فيها هو الأديب
المناضل غسان كنفاني، الذي التقى به معظم الفلسطينيون من خلال مقالاته وقصصه
ورواياته، فترى فيما كتب صوت الحق وحق العودة وعودة الفدائي.
نطالع ما ابتدع لنعود إلى حيفا، ثم نقابل رجالا في الشمس، ونزور أرض
البرتقال الحزين، ونعود إلى قرية الغابسية لنستظل بدالية أم سعد، ونرتشف القهوة
ونحن نستمع إلى حكايات ابنها الفدائي لتعلّمنا كيف تكون الثورة جزءًا لا ينفصم عن
الخبز والماء.
ولا يغيب محمود درويش عن ذاكرتنا، حيث يمكننا من خلال قراءة أثره
الأدبي أن ندرك كيف جعل لشعره وظيفة وطنية وقومية، فنادى بالحرية، وتغنى بالأرض،
وصوّر الأسر، وعبّر عن المحن، ودافع عن حق شعبه في العودة والحياة.
وما زال صوت قصيدته مسموعا وحاضرا كحضور موسيقاها، وما زالت رموز شعره
لها تأثيرها الوجداني العميق، وما زالت حوارات قصائده حاضرة في الأذهان، كحوار أم
تعاتب السجان: لماذا أرقت على العشب قهوتنا يا شقي؟
عاش المبدع الفلسطيني يعرف كل المعاني ويدركها ويصدّرها، إلا معنى
الاستقرار والأمان، يعرف الاقتلاع والاغتراب والتهجير، يعرف اللجوء والنزوح
والفقد، يدرك كل المعاني ويعيشها، لكنه عاجز عن العيش في أمان، لا في الأرض ولا
المنفى ولا حتى في الشتات.
كما استطاع المبدع والمثقف المحتل من خلق رموز جديدة كالبرتقال
والبرقوق والزيتون والمخيمات والحجارة وكروت الإعاشة وأسقف الزينكو، وما زال قادرا
على خلق الرموز والأساطير من رحم الألم والصمود والنضال.
كل تلك الرموز الحيّة وغيرها الكثير، تربط بينها قضية واحدة ثابتة لا
تتغير، كانت تسمى فلسطين وصارت تسمى فلسطين، فلسطين التي لم تتعب من الرثاء ولم
يتعب الرثاء منها.
فلسطين والمسرح
إن حال الفن والمسرح والسينما كحال أي مسرح إبداعي آخر، له رواده
وجماعته ومحبيه، وكان للقضية الفلسطينية حضورها المهيب فيه، فظهرت بعض الأعمال
الفنية التي تظهر قتل الفلسطيني وأسره وتهجيره من أرضه في كل من النكبة والنكسة،
كمسلسل التغريبة الفلسطينية، ومسلسل هبوب الريح.
وحتى في المسرح فقد قدّم المسرحيون هذه القضية بكل أبعادها السياسية
والقومية والاجتماعية والإنسانية، وأظهرت المسرحيات محاولات الاحتلال في تهويد
المقدسات الفلسطينية وإخفاء التراث العربي، وفي هذا السياق قال المخرج المسرحي عبد
الصمد البصول: "إن الإبداع يمكنه أن يكون سلاحا قويا من خلال توظيفه في
المكان والزمان المناسب، كما يمكن للمسرح خاصة أن يسرد حكايات النضال الفلسطيني،
وأن يرسم أوجه الحياة اليومية التي يعيشها هذا الشعب في ظل الاحتلال، فتصبح حالة
إبداعية خالصة".
وأضاف البصول في حواره لـ"عربي21:" "ليست مبالغة بأن
السرديات اليومية للإنسان الفلسطيني تستحق أن تُوثق، وأنا أرى بأن كل قصة كفاح
تستحق أن تكون عملا إبداعيا".
لكننا في السنوات الأخيرة شهدنا تراجعا واضحا في حضور القضية
الفلسطينية في المسرح، وبيّن البصول أن هذا التراجع له أسباب كثيرة متداخلة، أهمها
عدم وجود جهة إنتاج تتبنى هذه القضية ومؤمنة بأهمية المسرح النضالي.
دور المؤثر في الحرب على غزة
لم يمل أي عربي أو مسلم يؤمن بهذه القضية من أن يستخدم قلبه ولسانه
وجوارحه في سبيلها، وفي سبيل نقل آلام شعب ما رأى شمس الحرية يومًا ولكنه أكثر من
يؤمن بشروقها.
وفي ظل تضليل رهيب يسود وسائل الإعلام الغربية اليوم، وحشد كبير من
الممثلين والمؤثرين الأجانب الذين يدعمون الجانب الإسرائيلي، كان للمؤثر العربي
حضوره الواضح في الحرب الراهنة على قطاع غزة.
ويعبّر معدّ البرامج والناشط الأردني على مواقع التواصل الاجتماعي
شريف الزعبي، عن تفاعله الكبير تجاه القضية ونشره المستمر لجرائم الاحتلال على
حسابه في إنستغرام بأنه "حين يقوم المؤثر بدوره بنشر الجرائم التي تحصل الآن
في غزة، فهو يمارس أحد حقوقه المدنية المشروعة في التعبير عن رأيه، وسط عالم صمّ
أذنيه وأطبق فمه أمام الحقيقة، وأمام ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من إبادة جماعية
ومجازر على يد محتل لا يعرف معنى الإنسانية".
وأردف في حواره لـ"عربي21": "يتمحور دورنا كمؤثرين حول
كشف الحقائق، ودحض الأكاذيب التي يروّجها الاحتلال على منصات الإعلام الغربي، ونشر
الوعي لدى الشباب الغربي المعزول عنا، والذين لا يدركون ما يحصل في الشرق الأوسط
وأفريقيا ودول العالم الثالث حسب التقسيمات الفئوية لهذا العالم، فهناك من لا يعرف
بأن هذه الأراضي فلسطينية ومن حق الفلسطينيين أن يعيشوا آمنين فيها".
وأضاف الزعبي: "نحمد الله أننا نعيش في مكان يضمن لنا حرية الرأي
والتعبير، ويكفل لنا أن نقول ما في جعبتنا، وأعتقد أن صناع المحتوى الأردنيين
ساهموا بما لديهم في إيصال معاناة غزة للعالم".
وفي الحديث عن بعض ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي الذين يتساءل
الجمهور عن سبب اختفائهم، قال الزعبي: "أعتقد أن غزة ليست بحاجة إلى هؤلاء المتغيبين
عن منصات التواصل الآن، وأنا لا أؤيد نقدهم، وأرى بأننا يجب أن نقوم بدورنا دون
الالتفات لمن حولنا، وحينما تنتهي هذه الحرب، فلكل حادث حديث، ويجب ألا نصل إلى
مرحلة نطلب فيها من المؤثر أن ينصر قضية إنسانية كالقضية الفلسطينية".