زيارة مفاجئة وسريعة، ومباحثات مكثفة،
أجراها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال جولة شرق أوسطية، شملت المملكة العربية
السعودية والإمارات العربية المتحدة، أعقبت قمة دول مجلس التعاون الخليجي، التي
احتضنتها العاصمة القَطرية الدوحة، واستضافة دولة الإمارات مؤتمر الأطراف في
اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ "COP28"،
وهذا كله، في ظل العدوان الإسرائيلي، الأعنف في تاريخه على الشعب الفلسطيني في
قطاع غزّة والضفة الغربية.
ربما اللافت في هذه الزيارة الروسية، أنها لم تكن مُعلنة ولم يمهَد لها؛ إذ اعتدنا في جولات بوتين السابقة أن يتم
الحديث عنها، والتحضير لها قبل شهور أو أسابيع على الأقل، لكن هذه الزيارة تم
إقرارها قبل يوم أو يومين على وجه التقريب، وهذا يجعلها واحدة من أبرز زياراته إلى
الشرق الأوسط، كما تعد أكبر من مجرد حضور قمة كوب 28، وهذه الزيارة من أكثر
الزيارات خطورة، في وقت تموج فيه المنطقة بكل تلك الأحداث، والتغيرات السياسية
والأمنية.
إذ لو أن الهدف منها هو التنسيق بين
الدول بشأن النفط، وتخفيضات الإنتاج، لأرسل وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك،
وممثلين عن العملاق الروسي "شركة غاز بروم"، ولو كان هدف الزيارة هو
العمل على الوصول إلى تهدئة مؤقتة لحرب غزّة أو اقتراح خريطة سلام مبدئية في
المنطقة، لكانت الزيارة من نصيب وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، ولكن الملفات
التي يحملها شخص كالرئيس الروسي بوتين أكبر من ذلك، ولعل محورها الأزمة المستعصية
في الشرق الأوسط والعالم منذ عام 1948، وهي القضية الفلسطينية، خصوصا أنه بعد
زيارة الرئيس بوتين، وعودته إلى موسكو، التقى بالرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي،
وبحثا ذات القضايا التي تخص أمن الشرق الأوسط، والاقتصاد العالمي، حسب ما أشارت له
وسائل إعلام مختلفة.
روسيا أول دولة في العالم تعترف بــ
''إسرائيل'' كدولة بشكل قطعي، وذلك أيام الاتحاد السوفييتي، وحسب بيانات رسمية، يعيش في دولة الاحتلال أكثر من مليوني نسمة من أصول روسية، وخلال الفترة بين 1989
و2006م، انتقل نحو 979000 روسي إلى إسرائيل، وأصبح هؤلاء لاعبون مؤثرون برسم
السياسة والأمن في ''إسرائيل''، ولديهم نفوذ كبير جدا، لدرجة أن أحد الحاخامات المتطرفين، اعتبر أن ما حدث في 7 تشرين الأول/أكتوبر هو نتيجة أن من يحكم ''إسرائيل'' هم بقايا السوفييت،
ويقصد هنا الروس اليهود.
ولدى موسكو تيار سياسي تدعمه دعما غير
مباشر، وهو تيار اليمين المتمثل بحزب "يمينا أو البيت اليهودي"، الذي
يتزعمه رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت، وحزب "هناك مستقبل" العلماني
الليبرالي الذي يقوده يائير لبيد، بالإضافة إلى مجموعة من أحزاب الوسط واليسار في
الكيان، ومن ثم نفوذها لا يمكن الاستهانة به داخل أروقة السياسة الإسرائيلية،
وحتى نعلم حجم الوجود الروسي في ''إسرائيل''، فإن أول شخصية سياسية اتصلت ببوتين
بعد حرب أوكرانيا هو السيد بينيت، وعرض عليه نقل الأموال الروسية من أوروبا
والولايات المتحدة إلى ''إسرائيل'' قبل تجميدها، وأكد له أن تل أبيب لن تجمد أي
أصول روسية لديها، وهذا الاتصال كان السبب وراء تأخر زيارة الرئيس الأمريكي جو
بايدن إلى تل أبيب، إذ اشترط أن يستقيل بينيت ليجري الزيارة بعدها، وفعلا استقال
من رئاسة الحكومة، وسلمها لحليفه لابيد، بالإضافة إلى وجود حليف قوي لها متمثل
بوزير الحرب السابق وعضو مجلس الحرب الحالي بيني غانتس، الذي تراه رئيس الحكومة
القادم.
منذ بداية طوفان الأقصى، وقفت روسيا مع
الفلسطينيين في تصريحاتها، واعتبرت حدث 7 تشرين الأول/أكتوبر هو نتيجة حتمية لسياسات الحكومات
الإسرائيلية، وتحديدا حكومة بنيامين نتنياهو، ضد الفلسطينيين؛ إذ إن الأخير حرق
مراكبه جميعها مع الروس بعد وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى سدة البيت
الأبيض، وفي مناسبات عدة، أكدت القيادة الروسية أن الحل الأمريكي للقضية الفلسطينية
الناقص يجب أن ينتهي، ويجب البحث عن حل جديد يُحيي حل الدولتين، ويُنهي المعاناة
الفلسطينية.
علاقة حركة حماس بالقيادة الروسية تطورت بشكل كبير في السنوات الماضية، وخلال عملية تبادل الأسرى الأخيرة، أطلقت
المقاومة الفلسطينية سراح أسيرتين من الجنسية الروسية، وقالت الحركة؛ إنها نفّذت
هذا الأمر استجابة لتدخل الرئيس الروسي، ولم توضح ما هذه الجهود التي بذلها بوتين
حينها. وبعد الإفراج، أعربت وزارة الخارجية الروسية عن امتنانها لحركة حماس
لاستجابتها لدعواتها الملحة لإطلاق سراحهما، والموقف الروسي المتوازن الأخير، جعل
موسكو تحظى بالقبول لدى الفلسطينيين من كل الاتجاهات، بالإضافة إلى أن مقاربتها
الدبلوماسية التي جعلها مقبولة في الشارع الإسرائيلي، خصوصا أن حلفاءها في تل
أبيب يثقون بها، ويدركون قيمة الدور الروسي في المنطقة.
المقاربة الأمنية والاستراتيجية
الروسية التي طرحها الرئيس بوتين في جولته، وناقش بها المسؤولين في الرياض وأبو
ظبي، جوهرها العمل على وقف هذه الحرب الطاحنة وقفا شاملا في غزّة ومحيطها، وضخ
المساعدات الإنسانية العاجلة في قطاع غزة، وأهمية البناء على مسألة الأسرى لتكون
بداية هدنة طويلة هذه المرة، من خلال إتمام عملية المبادلة لبقية الأسرى، من دون
تبييض السجون الإسرائيلية الذي ترفضه تل أبيب تماما، ومن ثم الذهاب نحو حكومة
جديدة في كيان الاحتلال يقودها غانتس وتياره، بعيدا عن عسف تيار اليمين المتطرف، الذي لم يعد له أي داعم شعبي أو نخبوي حقيقي داخل دولة الاحتلال، وهذه الرؤية
تتقاطع إلى حد معقول مع ما تريده إدارة بايدن؛ لأن كيان الاحتلال فعليا يحقق
تقدما ميدانيا في قطاع غزّة، ولكنه لن ينهي حماس، وهذا يُطيل أمد الحرب،
وفواتيرها من المدنيين الأبرياء، ويزيد الضغط على بايدن لإنهائها، بعد أن منحت
واشنطن الإسرائيليين مهلة محددة، حتى نهاية العام الجاري لإنهاء العمليات العسكرية في غزّة.
أما فيما يخص قطاع غزة، ربما ترى
القيادة الروسية أنه من الأفضل أن تحكم القطاع سلطة فلسطينية جديدة بعيدا عن
الحالية، وبالتوافق مع حركة حماس، بشرط عدم المساس بسلاحها، خصوصا أن الحُكم
لحركة تحرر وطني هو عبء أكثر منه فائدة، وربما هذه القناعة، وصلت إليها قيادات
الحركة التي باتت الآن، تُفضل التفرّغ للصراع مع كيان الاحتلال، بدلا من الحكم
فقط.
هذه الطروحات الروسية، وبعض التفاصيل
الأخرى مثل توقيع اتفاقيات عسكرية وأمنية واقتصادية مهمة مع الرياض وأبو ظبي،
وتنسيق وتطوير
العلاقات في ظل المخاطر الأمنية، والعقوبات الدولية على موسكو، تدفع
للقول؛ إن الدول العربية باتت تَعي أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد كسابق
عهدها، ومن ثم بات من المهم البحث عن شراكات أخرى مع الروس والصينيين على وجه
الخصوص، بالإضافة إلى أن دول الخليج تسعى إلى اعتماد سياسات أكثر توازنا مع
اهتزاز صورة واشنطن في العالم والمنطقة. وفي إطار هذه الاعتبارات، فإن جولة بوتين
وسط العاصفة، وتداعياتها، سيكون لها ما بعدها، ليس فقط على مسار العلاقات الثنائية
بين روسيا وكل من الإمارات والسعودية اللتين زارهما، ولكن على طبيعة وحضور الدور
الروسي في منطقة حيوية مثل الشرق الأوسط، وعلى مستقبل قضاياها الاستراتيجية، وفي
مقدمتها القضية الفلسطينية، وأزمة الصراع الدولي في سوريا ولبنان واليمن وغيرها.
نستشف مما سبق، أن الزيارة الروسية بما تحمله من أبعاد، تحظى بقبول من حركة حماس، ومن ثم نستطيع أن نعلم أن هذه المبادرة واقعية، وغير إقصائية، خصوصا لحماس التي تشهد شعبية عارمة في الشارع الفلسطيني على مستوى الضفة الغربية والقدس وقطاع غزّة.
وفي الوقت نفسه، فإن الرئيس بوتين
يَعرض رؤيته والتعاطي العربي معها على الرئيس الإيراني، خصوصا أن طهران تمثل قوة
كبيرة، لديها وزنها وأدواتها العسكرية والسياسية في المنطقة، وقبول إيران بهذه
الرؤية يعني قبول الجميع بها، وموسكو قدمت ورقتين عسكريتين لطهران في السابق، وذلك
لضمان أمنها بعد أي تسوية مستقبلية، الأولى كانت دخول مدمرة ديلمان الإيرانية إلى
بحر قزوين، وهو أمر لم تسمح به موسكو من قبل، والثانية إعلان نائب وزير الدفاع
الإيراني مهدي فرحي، أن بلاده أنهت شراء طائرات: "هليكوبتر ميل 28"
الهجومية، ومقاتلات "سوخوي-35"، وطائرات التدريب "ياك 130ط، لضمها
إلى الوحدات المقاتلة في الجيش الإيراني.
ودون شك، فإن المجال الجيو استراتيجي
للروس، مرتبط ارتباطا وثيقا بالإيرانيين وحالة الشرق الأوسط وما يجري فيها، لكن
طهران تشترط دائما بأن يوافق الشارع الفلسطيني المتمثل بحماس والجهاد الإسلامي
على أي تسوية تخص فلسطين، وأن تكون هذه التسوية بعيدة كل البُعد عن تجميد أو سحب
سلاح المقاومة. ومن ثم لن يكون هناك ترحيل فلسطيني من غزّة كما حدث في لبنان
1982، والانتصار في غزّة هو الدافع الأساسي نحو تحقيق معادلة الدولة الفلسطينية.
وربما نستطيع أن نستشف مما سبق، أن
الزيارة الروسية بما تحمله من أبعاد، تحظى بقبول من حركة حماس، ومن ثم نستطيع أن
نعلم أن هذه المبادرة واقعية، وغير إقصائية، خصوصا لحماس التي تشهد شعبية عارمة في
الشارع الفلسطيني على مستوى الضفة الغربية والقدس وقطاع غزّة، ومن ثم، إما نجاح
روسي في ظل هذه الفرص، وستكون المكاسب الروسية، ليس في المقاطعات الأوكرانية التي
ضمتها، وتحصيل الاعتراف الغربي بها بضغط إسرائيلي، والوصول إلى المياه الدافئة
التي حلُمت بالتموضع في مراسيها وموانئها زمنا طويلا، وإما في حضور أمني
واقتصادي وعسكري قوي ينافس دول الغرب في الشرق الأوسط، أو إخفاق للمبادرة، تفرضه
سياسة اليمين المتطرف الإسرائيلي بزعامة بنيامين نتنياهو في إمعانه بالإجرام،
وحربه الهمجية المدمِرة في غزّة لاجتثاث الشعب الفلسطيني، وهنا سيكون لبوتين كلام
وتخطيط آخر.
*سفير ليبيا لدى إيران