ثمة تفاوت كبير في تناول الجوانب
المرتبطة بحرب غزة، فقد فجر طوفان الأقصى وما أعقبه من عدوان إسرائيلي على غزة
عددا هائلا من الموضوعات البحثية التي تدرس جوانب جديدة وغير مسبوقة في قضايا
التحرر ومقاومة
الاحتلال الصهيوني.
فلم يعد الأمر مقتصرا على الجوانب
التقليدية المرتبطة بتحليل أداء
المقاومة في سياق جيواستراتيجي، ولا دراسة تطور
إمكاناتها التنظيمية والعسكرية والأمنية والسياسية، ولا حتى دراسة السياق الدولي
والإقليمي الذي تشتغل فيه، وهل تشتغل في مناخ عربي داعم أو مناوئ، بل إن الأمر بدأ
يركز على أبعاد جديدة أخلاقية وقيمية وتواصلية وسيكولوجية، أصبحت ذات تأثير كبير
على المحددات التي تتوقف عليها إدارة المعركة.
فالجبهة الداخلية التي تشكل في العادة
أساسا متينا لخوض أي صراع عسكري، باتت خاضعة لعوامل أخرى، يصعب التحكم فيها فقط
بضبط معادلات الداخل، بل صار بإمكان المقاومة أن تغير بعضا من هذه المعادلات
وتوجهها بشكل يخدم أهدافها، أو على الأقل يعطل بعض أهداف العدو الصهيوني.
في هذه المقالة، سنركز على الظاهرة
التواصلية للإعلام العسكري للمقاومة
الفلسطينية، وذلك لسببين، أولهما أنها تجمع
مختلف الأبعاد الناعمة التي تؤثر على الجبهة الداخلية، وأعني بذلك، البعد الفكري
والنفسي والقيمي والإعلامي والرمزي. وثانيهما، لأن التواصل عند حركة
"حماس"، أخذ مع شخصية أبو عبيدة أبعادا أخرى تعدت الوظيفة التي لأجلها
كان التواصل، أي التنوير بخصوص مجريات المعركة، وتوضيح الخطاب الإعلامي العسكري
لفصيل أساسي من فصائل المقاومة، إلى إدارة كلية للصراع، بمختلف مستوياته العسكرية
والأمنية والسياسية والفكرية والحقوقية والرمزية والقيمية.
الهوية أو الوظيفة
تنشغل كثير من وسائل الإعلام خاصة منها
الغربية بالبحث عن هوية أبو عبيدة، المتحدث الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام،
ومن يكون، ووضعه التنظيمي داخل حركة حماس، وربما وضعه العائلي، ومساره في النضال
الفلسطيني، والمحن والابتلاءات التي مر بها، وما إلى ذلك من الأسئلة التي تصنع
بروفايلا خاصا لرجل يدير المعركة الإعلامية للجناح العسكري لحركة حماس.
ومع أهمية هذه الجوانب التي تمكن من
الكشف عن تأثير الشخصية في الخطاب الإعلامي لحركة حماس، إلا أنه في حالة المتحدث
الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام، ليس مهما، وذلك بسبب أن المعلومات التي يتم
البحث عنها هي غير متوفرة للعموم خارج القيادة العسكرية لحركة حماس، فربما قصدت
الحركة بهذا التعتيم بالإضافة إلى الجوانب الأمنية، التأكيد على الوظيفة بدل
الهوية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الهوية تضفي على الوظيفة أبعادا مختلفة بحسب
بروفايل الشخص الشاغل لها.
تأخذ وظيفة التنوير الإعلامي المشفوعة بالتوثيق نسبتها المحددة في الوصلة الإعلامية، إلى جوانب وظائف أخرى، تتركز أساسا على إدارة الصراع الشامل، بتوجيه النخب والجماهير في العالم، وصناعة جبهات داخلية داعمة للقضية الفلسطينية وذلك من مداخل مختلفة سياسية وحقوقية وقيمية وإنسانية، أو على الأقل، خلق جبهات داخلية مناوئة للعدوان الصهيوني وأشكال إدارته الوحشية للحرب.
بالعودة إلى الدور الذي يقوم به
المتحدث باسم القوات المسلحة الروسية إيغور كوناشينكوف، فيمكن أن نحدد الوظيفة في
التنوير الإعلامي، أي تقديم معطيات رقمية ومؤشرات بيانية عن سير المعركة (محاور
تقدم الجيش الروسي، قتلى الجيش الأوكراني، والأهداف التي تم استهدافها، خسائر في
الآليات العسكرية للجيش الأوكراني من الطائرات والمسيرات والعربات والمدرعات
والدبابات ومنصات الصواريخ وغير ذلك من الأدوات اللوجستية المستخدمة في الحرب...).
عند المقارنة، تأخذ وظيفة التنوير
الإعلامي أهمية خاصة في الظاهرة التواصلية للإعلام العسكري لحركة حماس، لكنها، لا
تختصر كل المهمة، بل إنها لا تشكل إلا عناصر وظيفية ضمن المهمة الأوسع المتعلقة
بإدارة شاملة للحرب بمعناها الواسع، أي الحرب المتوجهة إلى الجبهة الداخلية
الإسرائيلية، وإلى الفاعلين الدوليين الذين يقدمون الدعم للعدو الصهيوني، وإلى
مختلف الفاعلين الآخرين، الذين يتوجه إليهم التثمين أو النداء أو التحضيض، ناهيك
عن الجمهور العربي الإسلامي، والضمير الإنساني.
تعكس الديباجة التي يبتدئ بها المتحدث
الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام هذه الوظائف المتعددة، التي يجمعها عنوان إدارة
المعركة الشاملة، فالخطاب أولا موجه إلى المجاهدين في المعركة من أجل تثبيتهم وشحذ
هممهم وتأكيد نصر الله للمؤمنين والصغار والهزيمة لأعدائهم، ثم إلى الشعب
الفلسطيني لتجسيد تلاحمه مع المقاومة واحتضانه الشامل لها وصبره من أجل تنفيذ
أهدافها في دحر العدوان، ثم إلى الأمة العربية والإسلامية، ثم إلى الأحرار في
العالم، وذلك بترتيب متعمد، بحكم الدوائر الأقرب إلى خدمة القضية ودعم المقاومة.
وتبين المقاطع العديدة للخرجات
التواصلية التي يظهر فيها المتحدث الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام، أن وظيفة
التنوير الإعلامي نفسها تأخذ طابعا خاصا، فليس المقصود منها، تقديم معلومات مجردة
عن سير المعارك وعدد قتلى الجيش الصهيوني وقتلاه وعدد الآليات التي تم استهدافها،
فهذه المعطيات، التي ترد في الوصلة الإعلامية للمتحدث الرسمي باسم كتائب عز الدين
القسام، تكون مرفقة بالتوثيق "وثقنا بحمد الله" ذلك التوثيق الذي يتم
عرض وصلات مباشرة منه بعيد بث الكلمة في وسائل الإعلام العربية (قناة الجزيرة).
هذه الوظيفة المزدوجة (التنوير
الإعلامي والتوثيق الحي)، تروم في الجوهر تحقيق أهداف متعددة، تجتمع كلها في هدف
مركزي هو خلق مصداقية وموثوقية في الإعلام العسكري لحركة حماس، فما من شك أن قصد
كتائب القسام من ذلك يتعدى الإخبار العسكري الموثوق، إلى هدف جعل إعلامه المصدر
الوحيد الأكثر مصداقية في بيان سير العمليات. فكتائب القسام لا تريد فقط بعث الأمل في جمهورها الواسع (التنظيم، الشعب الفلسطيني داخل قطاع غزة، والشعب
الفلسطيني في الضفة الغربية والشتات، والشعب العربي والإسلامي وجمهور الأحرار في
العالم) وترسيخ الثقة في إمكان الانتصار على العدو، وإنما تريد أن تجعل من وصلتها الإعلامية مصدرا لاستقاء المعلومة
الصحيحة عن سير المعركة حتى بالنسبة للجمهور الإسرائيلي، فهي تدرك من رصيد
التجربة، أن الجمهور الإسرائيلي لا يثق في التنوير الإعلامي الذي يقوم به جيش
الاحتلال، ولذلك، تقصد من رسالتها الإعلامية المزدوجة (التنوير والتوثيق) أن تجعل
من مصداقية أخبارها مدخلا لاستهداف الجمهور الإسرائيلي، وتحويل وجهته عن تلقي
الأخبار من جيش الاحتلال، إلى تلقيها بشكل مباشر من إعلام كتائب حماس، وذلك يسهل عملية توجيه المزاج الإسرائيلي والتحكم في جزء كبير
من محددات الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
ولذلك، تأخذ وظيفة التنوير الإعلامي
المشفوعة بالتوثيق نسبتها المحددة في الوصلة الإعلامية، إلى جوانب وظائف أخرى،
تتركز أساسا على إدارة الصراع الشامل، بتوجيه النخب والجماهير في العالم، وصناعة
جبهات داخلية داعمة للقضية الفلسطينية وذلك من مداخل مختلفة سياسية وحقوقية وقيمية
وإنسانية، أو على الأقل، خلق جبهات داخلية مناوئة للعدوان الصهيوني وأشكال إدارته
الوحشية للحرب.
جدل الحضور والغياب
مع طوفان الأقصى، خرج المتحدث الرسمي
باسم كتائب عز الدين القسام في وصلة شاملة أماط فيها اللثام عن كثير من
المعطيات حول هذا الحادث الضخم، وأتبعه في
وصلات لاحقة بالكشف عن حقائق أخرى أجاب بها عن جملة من المغالطات التي أثارها العدو الصهيوني عن
الحادث، ثم توالت خرجاته بوتيرة يومية أو شبه يومية، ثم بدأ التباعد نسبيا بين
الوصلات إلى ثلاثة أيام، ليبدأ جدل الحضور والغياب، وتثار حوله أسئلة عديدة، منها
ما يتعلق بسلامته الشخصية أو سلامة عائلته وغيرها من الأسئلة التي لم تقدم
المقاومة بشأنها أي توضيح، مع أن عادة حركة المقاومة أن تعلن عن استشهاد قيادييها
في الحرب كما فعلت مع عضو مكتبها السياسي أسامة المزيني (أبو همام ) الذي استشهد
إثر قصف إسرائيلي على قطاع غزة، ومع قائد قوات الأمن الوطني في قطاع غزة، جهاد
محيسن، مع أفراد عائلته في منزلهم أثناء ضربة جوية إسرائيلية بالقطاع، وأيضا مع
عضو مجلسها العسكري العام وقائد لواء منطقة وسط غزة أيمن نوفل إثر قصف صهيوني
استهدف مخيم البريج وسط قطاع غزة، كما أعلنت عن استشهاد رئيس المجلس التشريعي
الفلسطيني بالإنابة أحمد بحر الذي استشهد متأثرا بإصابته في قصف إسرائيلي على قطاع
غزة.
التصريحات المنسوبة إلى المتحدث الرسمي
باسم كتائب عز الدين القسام استمرت في الظهور بوتيرة مرة كل ثلاثة أيام، لكن دون
أن تكون مرفوقة بأي صوت، مما أعاد ثنائية الحضور والغياب في دراسة هذه الظاهرة.
بعد حوالي أسبوع من الغياب، استأنف
المتحدث الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام دوره من جديد في وصلة إعلامية جديدة،
لم تختلف كثيرا في مضامينها ووظائفها عما سبق، سوى كونها حملت معطى جديدا حول تصور
المقاومة لصفقة التبادل.
البعض حاول أن يفسر هذا الغياب تفسيرا
عسكريا، فالتدخل العسكري الإسرائيلي في جنوب غزة، وبشكل خاص في خان يونس،
القاعدة الأساسية لحركة حماس وذراعها
العسكري، ربما أرخى بثقله على الموضوع، فرأت حماس في تقديرها الأمني الاكتفاء بالبيان المكتوب بدلا عن
البيان الصوتي، لكن هذا التفسير يفقد وجاهته، بقياس الفارق بين المكتوب والصوتي،
فلو كان الأمر يتعلق بالحذر من تحركات ميدانية لاستقاء المعلومات أو تنسيقها
وترتيبها، لما تيسر حتى خروج البيان المكتوب، فالبيانات تصدر وبشكل منسق، بل إن
القيادات في الخارج (خاصة أسامة حمدان في لبنان)، يتم تمكينها بمعلومات جد
محينة، تدل على فعالية الآلة التنظيمية
والتواصلية داخل حماس رغم التدخل العسكري
الإسرائيلي في جنوب غزة وفي محيط منطقة
خان يونس.
المعطى الثاني الذي يؤكد ضعف هذا
التفسير أن عملية التوثيق لم تتوقف، وبثها أيضا لم يتوقف، مع أن جزءا مهما منها
يهم شمال غزة والجزء الأكبر منها يهم جنوبها، بما في ذلك معارك في منطقة خان يونس،
فنجاح كتائب القسام في توثيق هذه المشاهد وجمعها من مناطق متعددة، وتوضيبها
وإعدادها للبث، يؤشر على أن التدخل العسكري الصهيوني في منطقة جنوب غزة لا علاقة
له بقضية غياب أبو عبيدة.
الأمة الإسلامية موقنة بأن الله سينصر المؤمنين على أعدائهم، وموقنة أن ساعة الحسم في المعركة ستكون من نصيب المؤمنين ضد أعدائهم من الصهاينة، لكنها لا تعرف بالضبط التوقيت، ولا تعرف بالضبط من يكون هؤلاء الجند الصابرون الذين سيقومون بهذه المهمة، فتأتي شخصية المتحدث الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام، المجهولة الهوية بالنسبة لجمهور الأمة لتجسر الفجوة بين واقع الخيبة والهزيمة والإحباط، واللحظة التي سينتهي فيها الانتظار ويحل النصر الموعود.
التفسير الذي نميل إليه، يجد مستنده في
إحدى الوظائف الاستراتيجية التي كان يقوم بها المتحدث الرسمي باسم كتائب عز الدين
القسام، وهو إدارة التفاوض مع الكيان الصهيوني، سواء في محطة التهيئة له، أو في
تقوية شروطه، أو التنوير بمضمونه، أو الكشف عن إخلالات العدو الصهيوني بالتزاماته،
هذا في الوقت الذي لم يكن الإعلام الصهيوني يقدم أي معلومة بشأنه إلى جمهوره.
من الملاحظ أن وصلات المتحدث الرسمي
باسم كتائب عز الدين القسام توقفت في الوقت الذي تم فيه إنهاء الهدنة الإنسانية
الممددة، ووصلت فيه المفاوضات في الدوحة إلى عقدة المنشار، واستمسك الاحتلال
بأطروحة أن الاستهداف الثقيل لحركة حماس في أرض المعركة سيدفعها إلى التفاوض وخفض
سقف مطالباتها (مقولة استئناف الحرب)، واعتبرت حماس أن خط التفاوض انتهى، وأنه لن
يعود إلا بعد وقف الحرب.
في هذه اللحظة بالذات غابت الظاهرة
الصوتية للمتحدث الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام، ليحل محلها ظاهرة البيانات
المكتوبة المنسوبة له، وكأن التفسير الأقرب إلى القبول، أن الإعلام العسكري لحركة
حماس اقتنع بأن الوظائف الأخرى التي تقوم بها وصلات ابي عبيدة، ما عدا إدارة
التفاوض، يمكن أن يقوم بها الإعلام الموثق، أو البيانات المكتوبة، أو الفيديوهات
الموجهة لجمهور العدو، أو البيانات التي يعبر عنها قادة الحركة في الخارج، وتحديدا
أسامة حمدان في لبنان.
ما يؤكد ذلك أن حضور المتحدث الرسمي
باسم كتائب القسام مرة ثانية، بعد حوالي أسبوعين، جاءت محملة بمضمون كثيف دار كله
حول معادلة فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه، وتكبده خسائر |أكثر درامية، في مقابل
فتح باب للتفاوض، لكن بشروط المقاومة.
ليس معنى هذا التفسير أن عودة المتحدث
الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام، رهينة بالعودة مرة أخرى للمفاوضات، حتى يقوم
بدوره من جديد في إدارة التفاوض عبر الـتأثير في الجبهة الداخلية الإسرائيلية،
فالأمر في نهاية المطاف هو تفسيري وليس تقديري. ففي أي لحظة، ولاعتبارات تخص عناصر
في التقدير العسكري والسياسي، يمكن لقيادة كتائب القسام، ان ترى ضرورة لهذه
العودة، وذلك حسب سياقات الحرب، والوظائف التي تطلبها إدارتها في محطة من المحطات.
والحضور الأخير يعكس هذا التفسير بكل
وضوح، فالقسام، بدأت تستبق الحراك الدولي للعودة لطاولة المفاوضات، لكنها في الآن
ذاته، تعتبر في تقديرها أن التوقيت يحتم خروج الناطق الرسمي باسم الكتائب، لتأكيد
عنفوان المقاومة، واتجاه ضرباتها في سياق تصعيدي أكبر، كما يمكن فهم خروجه كجواب
على الاحتلال، بعد أن زعم رئيس الوزراء الإسرائيلي أن جيشه قتل العديد من قيادات
حماس، ويحاصر قيادات أخرى، وهو بصدد القبض على السنوار، وأن على بقية القادة
والمقالتين في صفوف الكتائب إلقاء السلاح وتسليم أنفسهم للجيش الإسرائيلي.
ما يهم في هذا التفسير، أن حركة حماس،
تملك في سياق تصاعد المعركة خيارات أخرى غير مكلفة لإدارة المعركة الإعلامية، وهي
في أي لحظة، وبحسب تطور المعركة، والحاجة إلى وظائف أخرى في إدارتها، يمكن أن يعود
المتحدث الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام من جديد لشغل هذا الدور بامتياز.
الأبعاد الرمزية في شخصية أبي عبيدة.
من الجوانب التي تستحق الدراسة أن
الإطلالة التي يجسدها المتحدث الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام أضحت تحوطها كثير
من الرمزية، إذ أصبحت هذه الهوية المجهولة، الشخصية الأكثر طلبا في العالم العربي
والإسلامي، بل والأكثر مشاهدة في محتويات المادة الخبرية، سواء منها التي تخص
العدوان الصهيوني على غزة أو تخص أحداثا أخرى، مما يطرح أسئلة عن سر هذه الرمزية،
وسر هذا الاستقطاب والجاذبية التي تمثله؟
مؤكد أن الجهل بهوية هذه الشخصية ليس
هو مصدر كل هذه الجاذبية التي تحاط بها، فقد سبق التذكير بأن الذي يدفع بالتركيز
على الوظيفة دون الهوية هو عدم توفر معطيات تمكن من صناعة بروفايل ما ولو تقريبي
لشخصية أبي عبيدة، ثم إن الجمهور الواسع الذي ينجذب نحو هذه الشخصية، إنما ينجذب
لها في علاقة بالحدث، وسير المعارك، أو
للدقة إنما ينجذب ببارقة أمل الذي يمثله المضمون الإعلامي الذي تحتويه رسالته
الإعلامية، وبدرجة الثقة التي يزرعها في إمكان تحقق النصر على عدو يتوفر على أحدث التقنيات العسكرية في مواجهة شعب أعزل
لا تتوفر مقاومته بمختلف فصائلها إلا على وسائل عسكرية بسيطة.
تتجسد الرمزية في أربعة أبعاد أساسية:
أولها البعد الديني، الذي تؤكده النصوص
الدينية حول النصر الذي سيتحقق ضد الصهاينة في فلسطين وعن الطائفة الظاهرة على الحق،
المتمسكة به المجاهدة من أجله في هذه الأرض المباركة، إذ يمثل المتحدث الرسمي باسم
كتائب عز الدين القسام هذا الصوت المبشر بتحقق هذه الحقائق الغيبية القرآنية
والحديثية.
وثانيهما، البعد التبشيري، المرتبط
بالأمل الذي يبثه المتحدث الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام في جمهور الأمة
المحبط من الهزائم والخيبات، إذ يحيي خطابه الثقة في إمكان عودة الأمة إلى سابق
عهدها في دحر الظلم والعدوان، والانتصار لقيم الحق والعدالة، والصبر في مواجهة
تكالب الأعداء.
ويبقى البعد الثالث في فكرة الانتظار
وجهالة الهوية، فالأمة الإسلامية موقنة بأن الله سينصر المؤمنين على أعدائهم،
وموقنة أن ساعة الحسم في المعركة ستكون من نصيب المؤمنين ضد أعدائهم من الصهاينة،
لكنها لا تعرف بالضبط التوقيت، ولا تعرف بالضبط من يكون هؤلاء الجند الصابرون
الذين سيقومون بهذه المهمة، فتأتي شخصية المتحدث الرسمي باسم كتائب عز الدين
القسام، المجهولة الهوية بالنسبة لجمهور الأمة لتجسر الفجوة بين واقع الخيبة
والهزيمة والإحباط، واللحظة التي سينتهي فيها الانتظار ويحل النصر الموعود.
وأما البعد الرابع فيتجسد في طابعه
الغيبي الأسطوري، فالنصر بالشروط الموضوعية المادية لا يمكن تصوره مع فوارق ضوئية
في الإمكانيات العسكرية بين عدو يتوفر على أحدث التقنيات العسكرية مدعوم من قبل
أعظم دولة في العالم، وبين حركة تتوفر على إمكانات عسكرية بسيطة، لكن بمنظور الغيب، وبالنظر إلى عنصر
الإيمان، والثقة بنصر الله، فالمتحدث الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام ظاهرة
إعلامية جاء ليحيي هذا البعد في مزاج الرأي العام العربي والإسلامي،
ويؤكد إمكانية النصر بجيل من الجنود المؤمنين المجاهدين الصابرين المقتنعين بعدالة
قضيتهم وبنصرالله لهم، والين يضربون العدو ضربة موجهة تحدث الفارق حتى بالمعيار
المادي.
نتوقع في هذا المقال لتحليلي، أن يكون بمثابة
أرضية لدراسة موسعة حول ظاهرة ابي عبيدة في أبعادها المختلفة، ونتصور أن الاشتغال
على متن واسع من وصلاته الإعلامية، والتوقف عند خطابها ومفرداتها، والنص الديني
الثاوي فيها، فضلا عن أنواع الحجج التي يبثها في مواجهة دعايات العدو، أو يبثها للتأثير في مختلف الجبهات الداخلية، كل
ذلك يصلح لتحليل أبعاد هذه الظاهرة، وبحث دلالاتها الخطابية والتواصلية القيمية
والرمزية.