قالت الأستاذة الزائرة في قسم العلوم السياسية في جامعة ألبرتا، غادة عقيل، وهي لاجئة فلسطينية عملت مترجمة في صحيفة الغارديان في
غزة، إنه لم يتبقّ لها شيء في القطاع المدمر بفعل الحرب سوى "الأنقاض والذكريات".
ولفتت عقيل في مقالها في
الغارديان، إلى أن
الاحتلال الإسرائيلي يشعر برغبة في الانتقام من جميع سكان القطاع، "على سبيل المثال ادعاء رامي إغرا، رئيس الموساد السابق، بأن جميع سكان غزة الفلسطينيين يمكن اعتبارهم مقاتلين"، ونقل الإعلام الغربي التصريحات دون أي اعتراض.
ونقلت عقيل في مقالها بعض الصور الإنسانية المؤلمة لواقع القطاع بعد أكثر من أربعة أشهر على حرب مدمرة طالت كل شيء في غزة.
وتاليا المقال كاملا كما ترجمته "عربي21":
لكل بيت فلسطيني موقدان: الحيز الذي تجتمع فيه العائلة على الطعام، والمطبخ الذي يتم فيه إعداد ذلك الطعام. إنهما الغرفتان اللتان تشتعل فيهما نيران الحياة والسخاء، وفيهما تكونان أكثر توقداً.
عندما أزور خانيونس، فإن أحد الأطباق العائلية الشهيرة التي نستمتع بتناولها معاً هي المقلوبة، وهي أشبه ما تكون بكعكة شهية مكوناتها الأرز والخضروات والدجاج، تطهى معاً في قدر كبير. عندما تصبح الأكلة جاهزة، يقلب القدر رأساً على عقب، وتجتمع العائلة حول المائدة بانتظار الكشف عن ما تحتها، وعندما يرفع القدر يتجلى الأرز بمحتوياته من طماطم حمراء وباذنجان بني. كل أكلة مقلوبة عبارة عن احتفال عائلي.
أما اليوم، وبعد الدمار الذي حل بخانيونس وبمنزل عائلتي هناك، فيبدو أن حياتي نفسها تحولت إلى مقلوبة. ليس بإمكان ابني الأصغر عزيز استيعاب كيف يمكن لمنزل أن يختفي. ما زال يحمل جميع المشاعر والذكريات الجميلة لقبلات خالته. يسألني باستمرار: "أمي! من سوف يبقى عندما نزور هذا الصيف؟ ما الذي سيظل موجوداً؟".
لا تزال ابنة عمي هبة موجودة في خانيونس، رغم أنها نزحت إلى منطقة المواسي، حيث تقيم الآن في خيمة. كتبت في تدوينة عبر ’فيسبوك’ تقول إن المنزل "امتداد لروحنا". ولذلك فإن تدمير منزل ما ليس مجرد عمل من أعمال العنف المادي، وإنما هو عنف ضد الروح كذلك. إنه عنف ضد الذكريات من "همسات، ونفحات، وممتلكات، وضحكات أطفالنا". لقد حفز التدمير المتعمد لمئات الآلاف من المنازل الفلسطينية البعض على اعتبار الأفعال الإسرائيلية "قتلاً للمساكن"، والذي يعرفه الباحثان جيه دوغلاس بورتياس وساندرا إي سميث بالقول إنه "يتضمن عمليات ضخمة مخططا لها، يتم تنفيذها بشكل متقطع زمنياً، ولكن تطال من حيث التأثير مناطق شاسعة وتغير حياة أعداد ضخمة من البشر".
إن الرغبة في الانتقام واضحة. خذ على سبيل المثال ادعاء رامي إغرا، رئيس الموساد السابق، بأن جميع سكان غزة الفلسطينيين يمكن اعتبارهم مقاتلين. مثل هذه الادعاءات بثتها وسائل الإعلام، مثل الـ سي إن إن، دونما اعتراض عليها أو توقف عندها.
وكان من تداعيات هذه المزاعم إجبار ما يقرب من 1.9 مليون إنسان على النزوح، من بينهم مئات الآلاف من الأفراد الذين تعرضت منازلهم لدمار عابث لا يمكن تبريره بأي ضرورات عسكرية. هذا هو الجيل الخامس من الفلسطينيين الذين تتعرض منازلهم للتدمير منذ النكبة التي ارتكبتها إسرائيل ونجم عنها تهشيم المجتمع الفلسطيني في عام 1948. وعلى الرغم من هذا الفتك بالمساكن، فإن العالم الغربي يستمر في غض الطرف عن ما يجري، ممتنعاً عن فعل شيء أو عن الإقرار بما يتعرض له شعبنا من معاناة.
تجسد حكاية هبة الرواية الفلسطينية الأشمل. وُلد أبوها، جواد، في بيت دراس، وهي قرية مسحت تماماً من وجه الأرض ولم يعد لها وجود في خارطة العالم الحالية. وفي عام 1948، واجه جواد، الذي كان له من العمر سنة واحدة، هو ووالدي الذي كان في الثالثة من عمره، وجدتي خديجة، الترحيل القسري من بيت دراس. وبعد أن حيل بينهم وبين العودة إليها، بحثوا عن ملاذ لهم داخل مخيم خانيونس، وهو واحد من عدة مخيمات أقامتها وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (أونروا) لإيواء اللاجئين بشكل مؤقت. وقد زرت هبة في الصيف الماضي، وكان بيتها أشبه بالواحة في وسط مجموعة من الأبراج السكنية الرمادية الكئيبة داخل غزة. كان الدفء والجمال يعبق في كل زاوية منه. وكانت تصفه قائلة "إنه الجنة على الأرض".
أما الآن فقد غدا بيتها الجنة الضائعة. ففي الثاني عشر من أكتوبر (تشرين الأول) ضربت عدة صواريخ منزل ابنة عم هبة في القلب من مخيم خانيونس. قتلت في الهجوم ابنة عمها، المدرسة التي كانت في الشهور الأخيرة من حملها، وقتل معها طفلاها، أحدهما ابن ثلاث سنين والآخر ابن سنة واحدة، بالإضافة إلى تسعة من الجيران وغيرهم من النساء والأطفال الذين كانوا يتخذون من منزلها ملاذاً لهم. ثم في السادس والعشرين من أكتوبر، دمرت ثلاث منازل مكونة من عدة طوابق، يعيش داخلها ستة وثلاثون من أفراد العائلة، بما في ذلك عمها وعمتها، وأبناء عمومتها، وجميع أبنائهم، وأحفادهم. وبعد أسبوع واحد دمر منزل ابن عم آخر لها. استمر تدمير منازل الأقارب والجيران طوال شهري نوفمبر وديسمبر (تشرين الثاني وكانون الأول). ويوم عيد الميلاد، صدر الأمر بإخلاء المخيم عن بكرة أبيه. وبحلول يناير (كانون الثاني) كان المخيم قد تحول إلى أنقاض. تم تدمير المخيم وكل البنى التحتية فيه إما بقذائف الدبابات، أو بالقصف الجوي، أو عبر القصف السجادي.
تهزني رسائل هبة الخام، بعمقها وألمها: "بيوتنا منسوجة من لحمنا، من كدنا، ومن تطلعاتنا. قد نبني بيوتاً جديدة، ولكنها أبداً لن تعوض البيوت التي كانت يوماً ملاذ أحلامنا. البيت ليس كماً من المال، إنه حرم، إنه حضن مريح، عبق مركب يعز على التكرار. إن شوقنا لاحتضان بيوتنا يعكس الألم داخلنا، إنه صدى ديارنا الحبيبة".
ردي على صرخات هبة ينبعث من الأحشاء. في أكتوبر (تشرين الأول) دُمر منزلي في الزهراء. دمرت البلدة في غمضة عين. غدت كل ذكريات حياتي السابقة تحت الأنقاض: كل حافظات الصور العزيزة على نفسي، صور تخرجي، وصور أطفالي وهم يخطون لأول مرة على الأرض، وصور الابتسامات من أيام زواجي الأولى. أشعر وكأن قنبلة أسقطت على ذكرياتي نفسها. واليوم، أشعر وكأنني وابنة عمي هبة نمضي في نفس منوال التقليد العائلي الحالك.
في منتصف الثمانينيات، زارت جدتي قريتنا القديمة بيت دراس. هالها ما حل بها من دمار، وراحت تجول في أطلال ما كان ذات يوم قرية مزدهرة. طلبت من ابنها (النازح حالياً في
رفح)، وهي في حالة من الصدمة، أن يتركها وحدها لبعض الوقت. وفي النهاية وصلت إلى بعض من بقايا منزلها – جدار وحيد ما زال واقفاً بين الأطلال، متمسكاً بما يحمله على عاتقه من ذكريات، باتت خراباً من حوله. بالنسبة لي ولهبة، لن نجد عزاءنا في هكذا أطلال.
فعلى النقيض من جدتنا، لم تبق لنا جدران نعانقها. والجواب الوحيد على سؤال ابني البريء هو أننا عندما نزور غزة هذا الصيف، فإن كل ما سوف نجده هو أشلاء ذكرياتنا، وقد تناثرت بين حطام ما كانت ذات يوم ديارنا الحبيبة.