قد لا تصح الاستهانة المطلقة بالعمل الدبلوماسي والقانوني
الفلسطيني والعربي في المنظمات الدولية، سواء في الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو في مجلس الأمن الدولي، أو في مذكرات كشف وفضح جرائم وماهية الاحتلال «الإسرائيلي» أمام محكمة العدل الدولية، أو في متابعة دعوى اتهام كيان الاحتلال بارتكاب جريمة
الإبادة الجماعية، أو في مطاردة شخوصه ومجرميه أمام محكمة الجنايات الدولية، وكل هذه المجهودات والمبادرات وغيرها مفيدة قطعا في خدمة قضية الحق الفلسطيني، وفي كسب المزيد من الرأي العام الدولي المساند، وبالذات في عواصم الغرب الأوروبي والأمريكي، المنحازة تاريخيا بتياراتها الرئيسية لكيان الاحتلال، والمعادية بأكثريتها الحاكمة لقضية الشعب الفلسطيني، وإن شهدت شوارعها مظاهرات عارمة منذ هجوم
المقاومة الفلسطينية فى 7 تشرين الأول/أكتوبر المزلزل، وما تبعه من فصول حرب إبادة «
غزة»، وبما وسع كثيرا من هوامش التيارات الإنسانية في الغرب، ودفع مئات آلاف المتظاهرين ربما الملايين بمبادرات فلسطينية وعربية الأصول، إلى غضب متدفق؛ دفاعا عن فلسطين وأهلها وعذاباتها، أنتج تأثيرا وضغطا على مواقف الحكومات نفسها، وعلى نحو ما بدا ويبدو في تحولات ومواقف عدد متزايد من الحكومات الأوروبية بالذات، وفي تمرد بعضها على أوامر «إسرائيل» بشل عمل وكالة «الأونروا» لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين.
التعويل على
القرارات الدولية السياسية والقانونية وحدها، لن يؤدي بمفرده قطعا إلى تحرير فلسطين.
صحيح أن هذه التحولات الدولية والغربية لم تؤد إلى وقف العدوان ومجازره إلى اليوم، وصحيح أن قرارا دوليا سياسيا أو قانونيا واحدا لم ينفذ، لكن ما جرى لا يبدو فاقدا كليا لأهميته، فقد أفاد كثيرا في عزل كيان الاحتلال دوليا، وانطوى على هزيمة أخلاقية شاملة لكيان الاحتلال وشركائه، ودفع الرواية الفلسطينية خطوات إلى الأمام، فقد مضت عقود طويلة راكدة، بدا فيها أن قضية الحق الفلسطيني غابت أو كادت عن مرمى الأنظار والضمائر، ولم يعدها إلى الحياة والاهتمام العالمي، سوى تصاعد عمل المقاومة الفلسطينية في السنوات الأخيرة وصولا إلى «طوفان الأقصى»، وللحرب الجارية بعده، وبما دفع إلى السطح مجددا بمطلب إقامة الدولة الفلسطينية، وطرح ضرورة الاعتراف الدولي الرسمى بها، حتى لدى عدد متكاثر من حكومات الغرب، وهو ما اعتبره «بنيامين نتنياهو» ـ رئيس وزراء العدو ـ حملة «إملاءات دولية»، قال إنه لن يخضع لها، وهكذا صار كيان الاحتلال وحيدا معزولا عن الشعور العالمي بأكثريته الساحقة، أخذا في الحساب، أنه لا جديد في دعم أغلب دول العالم المساندة لقضية الحق الفلسطيني، وأن شعوب وحتى حكومات الشرق والجنوب متزايدة الوزن الدولي اليوم، دأبت على التصويت دوليا لصالح الحق الفلسطيني.
لكن المشكلة كانت غالبا في مواقف حكومات الغرب، خاصة في «فيتو» واشنطن، وبينها وبين كيان العدو حالة اندماج استراتيجي، ومشاركة فعلية مباشرة في العدوان الهمجي البربري، وفي تبني الرواية والأكاذيب «الإسرائيلية» بالحرف والنقطة، لكن «واشنطن» بدت عارية في مواجهة الدنيا كلها تقريبا، واضطرت لإبداء مرونة ومراوغات لفظية، تساير جزئيا موجات الغضب العالمي شبه العام، وصدرت عنها تصريحات ملتبسة، تبدي استعدادها حتى للاعتراف الرسمي بدولة فلسطينية، وإن كانت باهتة الملامح وبغير حدود متفق عليها، وعلى أن تكون «منزوعة السلاح» الحربي كما تقول «واشنطن»، وتنسق أمنيا مع «إسرائيل»، وكل تلك شروط لا معنى لها، إلا معنى التعارض البين مع قرارات ما يسمى «الشرعية الدولية»، التي صدرت منها مئات القرارات عن الجمعية العامة، وعشرات القرارات الأخرى حتى عن مجلس الأمن نفسه، وكلها تكفل حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وتؤكد حقه في إقامة دولته تامة السيادة.
التعويل على القرارات الدولية السياسية والقانونية وحدها، لن يؤدي بمفرده قطعا إلى تحرير فلسطين.
كل ذلك مما لا تبالي به «واشنطن»، التي تبدو إدارتها المتتابعة كحكومة ثانية لكيان الاحتلال، تحارب معه، وتتبنى ذات الروايات والأضاليل، لكنها تضطر اليوم لأخذ مسافة، تبعدها ظاهريا عن حكومة «إسرائيل» الأولى في «تل أبيب»، ربما اتقاء لحرج التطابق اللفظي مع حكومة «نتنياهو» الإرهابية، مع استبقاء الدعم العسكري والمالي والإعلامي والسياسي المشترك، وعدم ممارسة أي لون من الضغط الجدي، وبما يسمح لتيار اليمين الحاكم في كيان الاحتلال، أن يزدري علنا كل موقف دولي، وأن يرفض بتاتا إقامة أي كيان فلسطيني، حتى لو كان منزوع السلاح، وخادما لكيان الاحتلال نفسه.
وقد تبدو هذه الصورة المرئية معاكسة لافتراض جدوى الضغط الدولي القانوني أو السياسي، ما دامت «إسرائيل» ترمي بالقرارات في أقرب مقلب زبالة، وتنفذ ما تريده بدعم أمريكي فعلي لا نهائي، حتى وإن شابته مناوشات لفظية عابرة.
والمعنى، الذي نقصده ونرجحه، ظاهر ومباشر، فالقرارات الدولية، قد يذهب مفعولها الوقتي مع الريح، لكن تراكمها مفيد في مدى أطول، وفي ما قد تصح تسميته «ترسيما» لمعركة كسب الرأي العام الدولي لصالح الحق الفلسطيني، فالشعب الفلسطيني يكافح ضد آخر احتلال عرفه التاريخ الحديث للعالم، وكسب وتوسيع التعاطف والتأييد العالمي لقضيته عمل مهم، لكن التعويل على القرارات الدولية السياسية والقانونية وحدها، لن يؤدي بمفرده قطعا إلى تحرير فلسطين، ولا حتى لبلوغ كسب محدود في صورة «الدولة الفلسطينية» المزمعة، وحجر الأساس في القصة الطويلة كلها، أن ينتصر الشعب الفلسطيني أولا لقضيته، وما من سبيل مفتوح استراتيجيا غير المقاومة، وبكل سبلها المسلحة والشعبية، فهذا وحده هو الذي يغيّر الموازين، وينتصر لقضية الحق الفلسطيني عالميا، سواء عند الشعوب أو لدى الحكومات، وبما فيها ـ بالطبع ـ شعوب وحكومات العالم العربي والإسلامي أولا.
صحيح أن طريق المقاومة مفروش بالتضحيات والآلام وسيل الدماء، ولكن ما من طريق آخر غير دفع «ضرائب التحرير»، عرفته تجارب الشعوب تحت الاحتلال، وتجربة الشعب الفلسطيني نفسه، الذي يتعرض من مئة عام لأقسى وأشرس أنواع الاحتلال الاستيطاني الإحلالي، وتوالت ثورات الشعب الفلسطيني وانتفاضاته، من ثورة 1936 إلى «طوفان الأقصى»، وارتقى مئات الآلاف من الشهداء والأشلاء والجرحى، وذهب للأسر مليون فلسطيني منذ عدوان 1967، ومن دون أن يثبت الطريق المعاكس لخط المقاومة مقدرته على إنجاز أي شيء مفيد، وأمامنا تجربة الثلاثين سنة الأخيرة بعد عقد «اتفاق أوسلو» وتوابعه، وقد كانت وعودها كلها سرابا، انتهى إلى ما خبره ويعانيه الشعب الفلسطيني اليوم، فلا عودة لأرض ولا لمقدسات، بل استيطان إحلالي متوحش في الضفة الغربية، وتهويد غالب في القدس، وفي المسجد الأقصى ذاته، ومن دون أن تنتهي مئات جولات المفاوضات المباشرة إلى شيء، إلا إلى توقفها هي ذاتها، وإمعان كيان الاحتلال في التنكيل اليومي الوحشي بالشعب الفلسطيني، وفرض كيان الاحتلال لحصص ذهاب الشعب الفلسطيني للصلاة في المسجد الأقصى المبارك، واستطراد السعي «الاستيطاني اليهودي» لهدم المسجد نفسه، وإقامة الهيكل المزعوم فوق أنقاضه.
وقد يقال لك بالمقابل: وما جدوى المقاومة المسلحة بالذات؟ والجواب ظاهر أيضا في تجربة الشعب الفلسطيني وجواره، فالمقاومة المسلحة على مدى أكثر من عشرين سنة، هي التي حررت الجنوب اللبناني من دنس الاحتلال «الإسرائيلي»، والمقاومة المسلحة في انتفاضة الفلسطينيين الثانية التي بدأت أواخر سنة 2000، هي التي أجبرت العدو على الجلاء وترك «غزة» وتفكيك مستوطناتها عام 2005، وعودة «إسرائيل» اليوم لاحتلال وإبادة «غزة» وأهلها، لن تكون لها من نتيجة، سوى عودة «غزة» إلى طبيعتها الدائمة كقلعة للمقاومة المسلحة، هزمت العدو من قبل، وستهزمه مجددا في الحال والاستقبال، فقد كانت «أوسلو» وأخواتها استطرادا لفرية سادت زمنا، ذهبت إلى افتراض أن السلام ـ أو الاستسلام ـ هو خيار العرب والفلسطينيين الاستراتيجي، ثم ظهرت المقاومة من نوع مختلف، التي تحدت مقولة السلام كخيار استراتيجي، وردت الاعتبار إلى المقاومة كخيار استراتيجي، وتوالت إنجازاتها الفعلية على الجبهة الفلسطينية وجوارها، وأدارت حروبها طويلة النفس مع كيان الاحتلال، وحرمته من تحقيق أي نصر في النزال العسكري المباشر، وتسلحت أولا بنزعة الاستشهاد ـكأعلى قيمة إنسانية ـ ضد التكنولوجيا الحربية الفائقة لدى العدو، ثم أضافت المقاومة مقدرة على صناعة سلاحها بذاتها، وتطوير عقيدة قتالها التي لا تهزم، وأفادها الحضور السكاني الفلسطينى الكثيف فوق الأرض المقدسة، وقدمت «بروفة» عبقرية لإمكان زوال «إسرائيل» ذاتها في هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وأحيت القضية الفلسطينية عالميا من موات ورقاد طويل، وأعادت النجوم لمداراتها الأصلية، وأثبتت أنه لا احتلال يدوم إلى الأبد، مادام الشعب الرافض للاحتلال يقاوم، ويستنزف المحتلين على الدوام، وإلى أن تزول الغمة، وتكون الكلمة الفصل بإذن الله.