رغم تحركات ومفاوضات تجري في الدوحة أو في القاهرة، فلا تبدو من فرصة قريبة لإتمام صفقة بين إسرائيل وحماس وأخواتها، ربما السبب في تعارض جوهري بالأهداف، فبينما تريد حماس وأخواتها صفقة شاملة نهائية، تنسحب بها قوات
الاحتلال الإسرائيلي من كامل قطاع
غزة، وتعيد كل النازحين الفلسطينيين من الجنوب إلى الشمال، وتنتهي إلى وقف إطلاق النار الدائم، بينما يسعى الإسرائيليون والأمريكيون إلى شيء آخر تماما، يستخلصون به أكبر عدد من المحتجزين لدى قوات المقاومة، وإلى وقف إطلاق نار موقوت، تستأنف بعده جولات القتال وحرب الإبادة الجماعية المتصلة إلى شهرها العاشر اليوم.
وربما لا تكون من قيمة كبيرة لمشاركة ويليام بيرنز مدير المخابرات المركزية الأمريكية في المفاوضات الجارية، وقد فعلها من قبل مرات، ومن دون الوصول لاتفاق نهائي.
وكان بيرنز دائما يترك عواصم التفاوض إلى واشنطن، ويدع المجال فسيحا لتصريحات شاذة تصدر عن أركان الإدارة الأمريكية، تحمّل حماس مسؤولية فشل التفاوض، حتى بعدما قبلت حماس صيغة اتفاق، عرف إعلاميا بصفة المقترح المصري في 6 أيار/مايو الماضي.
وفي اليوم نفسه، كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي تبدأ غزو منطقة رفح أقصى جنوب القطاع، وهو ما كانت الإدارة الأمريكية قد صدعت رؤوسنا من خطورته، وعن رفضها لحدوثه، لكنها عادت ووافقت عليه، فور الشروع فيه.
ثم عادت للتظاهر بتسهيل التوصل لاتفاق ينهي الحرب، وأعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن في 31 أيار/مايو الماضي، عما بات يعرف باسم صفقة بايدن، التي قالت واشنطن عنها؛ إنها اقتراح جاءها من بنيامين نتنياهو رئيس وزراء العدو، فيما اكتفى نتنياهو وقتها بتعليق عابر، قال فيه؛ إن هناك فجوات تفصل بين إعلان بايدن وأصل الاقتراح الإسرائيلي، وأنه لن يقبل بأي اتفاق يغل يد إسرائيل عن استئناف القتال.
كان نهج حماس التفاوضي مرنا وإيجابيا، وأعلنت ترحيبها بالمبادئ الأساسية للصفقة المطروحة ثلاثية المراحل.
وبعد صمت لاحق دام لأسابيع، عاد نتنياهو لإعلان موقفه بصراحة في حديثه للقناة 14 الإسرائيلية، وقال بوضوح؛ إنه يريد فقط من الاتفاق المطروح مرحلته الأولى، وهي استعادة المحتجزين المدنيين والمجندات، مع وقف إطلاق نار لستة أسابيع، بينما كان نهج حماس التفاوضي مرنا وإيجابيا، وأعلنت ترحيبها بالمبادئ الأساسية للصفقة المطروحة ثلاثية المراحل، التي شرعنت دوليا بقرار من مجلس الأمن، وأنها مستعدة لتفاوض جدي على التفاصيل، فيما كانت الحملة الوحشية الإسرائيلية على رفح توالي فشلها، ولا تحقق لحكومة إسرائيل شيئا مما وعدت به.
وبعد انقضاء شهرين من حملة رفح، قيل من قبل الوسطاء، إن الروح عادت لعملية التفاوض من جديد، وإن حماس أبدت مرونة إضافية رحبت بها واشنطن، وعادت مكوكيات التفاوض من جديد، وسمح نتنياهو بإرسال وفده للتفاوض مجددا، لكنه أضاف عقبات جديدة، وأعلن ما سماه خطوطه الحمر الأربعة، بينها أن أي اتفاق لن يمنع العودة للحرب، وأنه لن يوافق على عودة آلاف الفلسطينيين ـ المخربين كما يقول ـ إلى شمال قطاع غزة، وأنه يريد استعادة أكبر عدد ممكن من المحتجزين الأحياء في المرحلة الأولى، إضافة لشرط رابع بدا الأغرب، وهو، أنه يريد وقف ما سماه تهريب الأسلحة من مصر إلى حماس.
وكأنه يريد تحويل الوسيط المصري إلى خصم، مع ترويج وسائل إعلام إسرائيلية لما سُمي طلبا إسرائيليا من مصر بإقامة حاجز تقني تحت الأرض داخل حدودها مع فلسطين، وهو ما لم تعره القاهرة الرسمية التفاتا علنيا، ولا يبدو أنها تجاوبت معه في محادثات أمنية جرت مع رئيس الشاباك، وصممت القاهرة على انسحاب إسرائيل من معبر رفح على الجهة الفلسطينية أولا، وعلى عقد صفقة شاملة تنهي الحرب في غزة، وهو ما يرفضه نتنياهو طبعا حتى الآن.
ويتعمد إصدار أوامره لجيش الاحتلال بتصعيد القصف المجنون على غزة، وإحراقها بأطواق النار، وأوامر الإخلاء، وتدمير المربعات السكنية من الجنوب إلى الشمال، وتكثيف الهجمات على أحياء مدينة غزة من الشجاعية إلى الدرج والصبرة والتفاح وتل الهوى، ثم نزولا إلى مخيمات النصيرات والبريج وعبسان شرق خان يونس، وتنفيذ عشرات المذابح للأطفال والنساء، وهو ما اعتبرته حماس وأخواتها ـ عن حق ـ سعيا موتورا لإفشال عملية التفاوض.
وأغلب الظن، أن جولات التفاوض ربما تتواصل، ولكن من دون التوصل لاتفاق ناجز، فرغم إعلان واشنطن المتكرر عن سعيها لإنهاء الحرب، إلا أنها لا تبدي تجاوبا فعليا مع مطالب حماس بإغلاق الثغرات في بنود الصفقة المطروحة، ربما خشية من نفوذ نتنياهو في واشنطن، وهو يستعد لزيارتها وإلقاء خطابه أمام الكونغرس بمجلسيه في الرابع والعشرين من شهر تموز/ يوليو الجاري، بينما إدارة بايدن في أحرج أوقاتها.
وتبدو مضطرة إلى انصياع لمطالب نتنياهو وربما أوامره، فالرئيس بايدن محاصر حتى من كبار أهله في الحزب الديمقراطي، وكثيرون بينهم يطالبونه بالانسحاب من سباق الرئاسة، وإحلال مرشح ديمقراطي آخر، والرئيس العجوز مصرّ على إكمال الطريق حتى إجراء الانتخابات في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل.
في أوقات الانتخابات الأمريكية كالعادة، يصعد نفوذ اللوبي الإسرائيلي في واشنطن إلى ذروته.
ورغم أن كل استطلاعات الرأي تعطي غريمه الجمهوري دونالد ترامب تفوقا ظاهرا، خصوصا بعد إخفاق بايدن المخزي في المناظرة الرئاسية الأولى، وهو ما يعطى نتنياهو فرصة الإجهاز على بايدن، بعد ابتزازه إلى الحد الأقصى، وإرغامه على توريد كل صفقات السلاح الأمريكي المطلوبة فورا، لجيش الاحتلال الإسرائيلي.
وفي أوقات الانتخابات الأمريكية كالعادة، يصعد نفوذ اللوبي الإسرائيلي في واشنطن إلى ذروته، ويرضخ المرشحون للرئاسة وللكونغرس لطلبات "أيباك" أقوى منظمات الضغط الصهيونية في واشنطن، ومرشحو الحزب الديمقراطي للكونغرس يخشون الهزيمة، خاصة إذا تمسك بايدن بالترشح الرئاسي، مع غضب نتنياهو عليه، ويخشون فوزا مريحا لمنافسه ترامب وحزبه الجمهوري، وهو ما يفضله نتنياهو، ويريد استمرار الحرب في غزة، وربما مدّ الحرب إلى لبنان، حتى يأتي ترامب إلى البيت الأبيض أوائل العام المقبل.
وفي حين تبدو الطرق سالكة أمام نتنياهو في واشنطن، فإنه لا يزال يبدو قادرا على المناورة في تل أبيب، وعلى تحدي المطالبات المتزايدة بعزله وإجراء انتخابات مبكرة، فالبرلمان الإسرائيلي الكنيست سيدخل في إجازة طويلة أواخر الشهر الجاري، ولن يعود للانعقاد إلا في شهر تشرين الثاني/نوفمبر.
وما من فرصة إجرائية لدعوة إلى انتخابات مبكرة إلا من خلال الكنيست، هذا بالطبع إن توافرت أغلبية برلمانية تهدد بقاء الحكومة، وتقرر الدعوة لانتخابات مبكرة، لن يمكن الشروع بها قبل آذار/ مارس 2025.
وهكذا، يبدو الطريق مفتوحا أمام نتنياهو لشراء وقت إضافي، يناور به مظاهرات أهالي المحتجزين بدعوى استمرار التفاوض مع حماس، ويتيح لنفسه فرصا لمواجهة تذمر جنرالات المؤسسة العسكرية والأمنية.
وربما استخدام سلطته في تغيير بعضهم أو كلهم، وتحميلهم مسؤولية خسارة الحرب في غزة، وقبلها مسؤولية الإخفاق المذل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فهدف نتنياهو وأولوياته ظاهرة، وهي أن يبقى في منصبه لأطول وقت ممكن، وما من وسيلة متاحة أمامه سوى الاستمرار بالحرب إلى أطول أجل، والاستطراد في ترديد أوهامه عن السعي إلى ما يسميه نصرا ساحقا، لا يبدو ممكنا مهما طال أمد القتال.
فقد صار الكل في إسرائيل عدا نتنياهو وصحبه، يؤكدون أنه لا سبيل عسكري لتدمير حماس وأخواتها، وحتى دانيال هغاري المتحدث الرسمي باسم جيش الاحتلال، الذي قال قبل أسابيع؛ إنه لا يمكن القضاء على حماس كفكرة، عاد قبل أيام، وأكد في حوار لمحطة تلفزيون أمريكية، أن حماس كتكوين قتالي ستبقى في غزة لخمس سنوات مقبلة على الأقل,
ما يعني غرق الجيش الإسرائيلي في وحل غزة، وتواصل حرب استنزاف دموي لضباط وجنود جيش الاحتلال، وبالذات مع إضافة آلاف المقاتلين المتطوعين لكتائب حماس وأخواتها، ومرونة الكتائب الفائقة، ومقدرتها على التحرك بحرية في قطاع غزة من الجنوب إلى الشمال وبالعكس، عبر شبكة أنفاق مذهلة متشعبة لا تنفك ألغازها.
وعبر ركام المباني التي هدمها جيش الاحتلال نفسه، وهو بعض ما يفسر تنامي فعل حركات المقاومة في الشهور الأخيرة، وتكتيكاتها المتفوقة في تدبير وتنفيذ كمائن القتل لقوات جيش الاحتلال، وإضافة مدد لا ينفد من الأسلحة التي تصنع ذاتيا في ورش تحت الأرض، إضافة لتطور عمل حركات المقاومة ذاتها في مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية.
وتصاعد هجمات حزب الله على شمال فلسطين المحتلة، وهو ما يعني للمفارقة، أن الجحيم الذي يصنعه نتنياهو سيكون هو أول من يحترق فيه، وأن فرص القضاء على نتنياهو بالقتال أقرب من فرص تدمير حماس وأخواتها.
القدس العربي