إذا كان الزمان غير الزمان فالإنسان هو الإنسان وفريضة الدفاع عن
النفس والأرض والعرض لا تسقط عنه إلى يوم الدين. وسنة التدافع بين الناس
والحضارات والقيم تجعل دوام الحال من المحال ولو دامت للأولين لما دانت للآخرين!؟ وأن الكيل بمكيالين
في حقوق الإنسان من القائمين على مجلس الأمن المخيف هو سبب كل الخلل في المعايير
والموازين وهذا الدمار المبين..
وفي
تاريخ الحروب والثورات التحريرية العظمى دروس للمعتبرين وأن
الذكرى قد تنفع حتى البغاة والعصاة
والطغاة فضلا عن المؤمنين!!
وبمناسبة إحياء
الجزائر للذكرى التاسعة والستين لثورة القرن العشرين بدون منازع في الفاتح من تشرين الثاني (نوفمبر 1954) وربطا
بما تصادفه إحياء هذه الذكرى من أحداث جسام جارية في الساحة والساعة الدولية عرفنا
إرهاصات بدايتها ولا نعرف نهايتها بعد.. نود أن نذكر المعتبرين بدروس التاريخ الحي
الذي عشناه في هذه
الثورة لحما ودما وجهادا و"استشهادا" لما يزيد عن
السبع سنين مماثلة لما يراه العالم على المباشر يوميا من أهوال الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل في معركة
الأحزاب الثانية في فلسطين الحالية والتاريخ بيننا يبقى دائما الشاهد الأمين على
المحسنين والمسيئين والظلمة والمجرمين وأصحاب الحق المغتصب الذي لا يسترجع إلا
غلابا وافتكاكا باليمين وتلك هي سنة الله في الأولين والآخرين.
تأتي ذكرى هذا العام مشحونة بكثير من الآلام المبرحة والآمال العريضة
في الوقت ذاته وهي تصادف قمة الثورة الجهادية الوريثة الشرعية لها في معركة الأقصى
بشقيقتها الصغرى فلسطين.
لقد عايشت تلك الثورة
الجهادية كابن شهيد ومجاهد في صفوف جيش تحريرها حتى توقيف القتال وتقرير المصير
والاستقلال وكنت شاهدا على كثير من مجرياتها المفرحة والمقرحة بورودها وأشواكها؛
بأفراحها بانتصاراتها وأقراحها بالإحباطات والتقلبات والخيانات التي اعترضت
مسيرتها الطولية إلى النصر المبين!
ومن مميزاتها أن يوم انتصارها وتحقيق الاستقلال سنة 1962 كان هو يوم
ذكرى الغزو والاحتلال سنة 1830 مما يعني أن كل استقلال قد يحمل بذور احتلال كما أن
كل احتلال يحمل بذور استقلال إذا بقي عزم الرجال كما كان واقع الحال.
وإدراكا مني بما للثورة الجزائرية من أوجه شبه وتطابق أحيانا مع ما
يجري في فلسطين هذه الأيام، إلى درجة التوأمة (السيام) بين الثورتين وخاصة من
جهة نوعية الاستيطان وفصيلة المستوطنين أنفسهم خلفا عن
سلف.. والدليل على ذلك هو آلاف القوافل من شهداء المغرب العربي الكبير المدفونين في القدس الشريف على مر
التاريخ الإسلامي للأمة عندما كانت أمة
حرة حتى تحت الاحتلال الأجنبي الخارجي
(الأرحم مع الأسف من الاستحلال الداخلي الراهن!!!!)، حيث ذهب أكثر من 4000 مجاهد سنة 1948 ودخلوا من أرض الكنانة سابقا لنجدة الأشقاء في الأرض المباركة التي لم تتغير
في وجدان كل مسلم من المحكومين لاحقا في أمة المليارين من أصحاب العين البصيرة
واليد القصيرة على امتداد سماع الآذان وتلاوة القرآن من جاكارتا إلى داكار ونواكشوط والرباط وتطوان مرورا بقسنطينة ووهران!؟!
وإني لهذا السبب وغيره أعيد نشر بعض فصول كتابي (جهاد الجزائر: حقائق
التاريخ ومغالطات الجغرافيا)، هنا في صحيفة "عربي21"، وهو صورة حية عن
جوانب مشرقة من ثورة القرن العشرين التي جسدت أمجاد الحرية والكرامة، تماما كما هو
حال غزة وفلسطين هذه الأيام.. لما بين الثورتين من تطابق وتشابه كما قلنا وعشنا في الثورة الأولى مقارنة
بما نراه على المباشر في الثورة
الفلسطينية العظيمة الثانية التي اختصرت أمة المليارين (من غثاء
السيل) في المليونين من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والقدس وجنين.
وإنني أدرك تمام الإدراك الصلة الوثيقة بينهما في حجم التضحيات
ومعارك التحرير التي يخوضها الأشقاء الفلسطينيون هناك (كما كان أشقاؤهم هنا لأكثر من سبع سنين دون
انقطاع.) في مواجهة أعتى احتلال وأشده شراسة، لا سيما وأنه احتلال
يلتف حوله قادة العالم الغربي
الاستعماري كله ويدعمونه انتقاما من عدوهم اللدود على هزائمهم السابقة وإحياء
لخلافات وأحقاد تاريخية دفينة..
كنا نعتقد، وإن بعض الظن ليس
إثما، أن ثورات الحرية والكرامة والسيادة والاستقلال التي عرفتها مختلف أنحاء
المعمورة قد تجاوزتها الوحوش البشرية المسلحة بالنووي والحقد الأعمى في معاداة
حقوق الإنسان الفلسطيني خارج حقوق الإنسان
التي يحميها حق الفيتو الظالم أمام كل أنظار العالم الأعور الأصم الواجم.
إن الإسلام والاستعمار ضدان لا يلتقيان في مبدأ ولا في غاية،
فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع
الرحمة والرفق، وأمر بالعدل والإحسان، والاستعمار قِوامه على الشدة والقسوة
والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب
والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام يثبت الأديان السماوية ويحميها ويقرّ ما
فيها من خير ويحترم أنبياءها وكتبها، بل يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل
قاعدة من قواعده وأصلا من أصوله، والاستعمار يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه خصوصا
الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه. وهذا المكيال العجيب الغريب بين إنسانين لا يثير
القلق فقط حول مصير البشرية في هذا العالم
(وحيد القرن) وإنما يعيد السؤال أيضا وبإلحاح عما إذا كان للمعارك الحضارية الكبرى
التي سعت لتوحيد البشرية على أساس العدل والمساواة تراجع إلى ما تحت الصفر كما
نراها في مجازر المغول الجدد بالصوت والصورة في غزة العزة والإنسانية التي تحتضر في مستشفياتها
المنكوبة كلها اليوم والمقطوعة عن الحياة أمام أعين دعاة حقوق
الإنسان (الحجري) وليس الإنسان البشري المتحضر المتعلم والمتقدم!!
وما يفيد في هذه الصفحات من ثورة الجزائر (فلسطين الأولى) الأشقاء في الجزائر الثانية (فلسطين الحالية)، سأسرده ليس من باب تقديم الدروس، وإنما من باب قراءة التاريخ
والاتعاظ به وأخذ العبرة منه..
ليبيا تدعم ثورة الجزائر
من الشهادات التي تؤكد مساندة الأشقاء للثورة الجزائرية ما أورده
الأستاذ محمد صالح الصديق المسؤول المكلف بالإعلام أثناء الثورة الجزائرية بطرابلس
في كتابه "دور الشعب الليبي الشقيق في جهاد الجزائر"، حيث يقول: "إن
أسبوع الجزائر في ليبيا، وبصفة خاصة في طرابلس، أقل ما يقال عنه أنه رائع وفريد من
نوعه تتجلى فيه روح التضامن الليبي مع الجزائر قوية وثابتة، وفي وعي عميق، حيث
يتحول الشعب الليبي الشقيق بأكمله إلى تعبئة عامة شاملة، فكل فئاته تتجند لصالح
الثورة الجزائرية، وأسبوع الجزائر في ليبيا غير محدود بسبعة أيام، بل قد يتمدد
شهرا أو شهرين، فالأساتذة، والطلبة، والصناع، والتجار، كلهم مجندون للثورة كلهم لا
يفكرون ولا يعملون إلا من أجل الجزائر.. وفي كل أسبوع من أسابيع الجزائر في ليبيا
يسجل التاريخ أروع صور الإيثار والتضحية والفداء، ولكثرتها وتنوعها نكتفي بذكر
ثلاث حالات فقط على سبيل المثال:
مواقف تهز المشاعر
في صبيحة يوم من أيام رمضان 1958، كان يجلس متسول بمكان استراتيجي
في قلب مدينة طرابلس تلاقت فيه عدة شوارع وأنهج، وجلس على الرصيف وتحته حصير أبلاه
مر الأيام، وعلى فخذه عصا طويلة عتيقة، وعلى كتفيه مزق من عباءة بالية قد اتخذها
في عراك الأيام وقاية، ولكن الرياح القاسية تتنازعه هذا الستار فتكشفه عن كتفيه من
حين لآخر..
في آب / أغسطس 1956 أخبر الرّئيس جمال عبد النّاصر أحمد بن بلّة وفرحات عبّاس بأنّه خصّص مساعدة ماليّة للثّورة الجزائريّة وأَخَذَ أسلحة وذخيرة من الجيش المصريّ إلى جيش التحرير الجزائري، إلى جانب ما تعرضت له مصر من عدوان ثلاثيّ فرنسي بريطاني صهيوني في سنة 1956 والذي كان من أسبابه الأساسية مساعدة مصر للثّورة الجزائريّة، في مختلف المجالات السياسية والإعلامية والعسكرية.
واتفق أن وقفت بالقرب منه مع سفير عربي نتحدث عن تطورات الثورة
وتضامن ليبيا مع الشعب الجزائري، وخاصة في هذا الأسبوع، وكنت من حين لآخر أرمي
بعيني إلى المتسول العجوز، سيما عندما تمتد إليه يد محسنة في رفق، فيقابلها
بابتسامة. وبعد ساعة من الإفطار ذهبت إلى مكتب الهلال الأحمر الجزائري بباب الحرية
حيث تجمع التبرعات ووجدت المكتب غاصا بمختلف الطبقات: الأطفال، والشباب، والكهول،
وكلهم جاؤوا لتلبية النداء المقدس وتأدية فروض الأخوة: فبينما كنت أتحدث مع
المسؤولين، وأتابع المتبرعين إذا بشيخ أعمى تسبقه عصاه، ويقوده طفل صغير، يشق
الطريق بين الناس المتزاحمين وهو يقول: "أين من يجمع التبرعات؟" ففسحوا
له الطريق وقادوه إلى المكتب، فلم أكد أراه بلحيته البيضاء، وعباءته البالية،
وعصاه الطويلة، حتى ثارت في قلبي دوامات عنيفة من شتى العواطف والأفكار، وعصفت
بكياني مختلف المشاعر: إنه الشيخ الذي رأيته صباح اليوم، أخرج من جيبيه صرة بها كل
ما جمعه في بياض ذلك النهار وقدمها إلى المسؤول عن التبرعات، فعندما رفض المسؤول
أن يقبلها مؤكدا له أن مثله لا يقل حاجة إلى المساعدة من المجاهدين أنفسهم، استشاط
غيظا وأبى إصرارًا أن يعود بها ولم يهدأ حتى قبلت منه...
هذه حالة أولى، أما الحالة الثانية التي أذكرها مثل يومنا هذا، فهي
أنه ذات يوم خرج بالسيارة مجاهد جزائري يعمل في لجنة التبرعات (في أسبوع الجزائر)
إلى إحدى ضواحي طرابلس لمهمة كلّف بها، فدهس شابا دون العشرين من عمره فقتل، وما
إن بلغ الخبر والده حتى أسرع مذعورا إلى مكان الحادث يعتصره الألم ويهزه هول
المصاب، فما إن علم أنّ قاتل ولده جزائري كان يسوق سيارته بسرعة حتى يؤدي مهمة
للثورة في موعدها المحدّد، حتى هدأ وسكن وتقدم بخطى وئيدة إلى ابنه ممرغا في
الدماء، فحدجه بنظرة ثم قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون» ثم التفت إلى السائق وقال
له والدموع تترقرق في عينيه، اذهب يا أخي لمهمتك حتى لا تفوت، فإن الوقت لا ينتظر،
أما ولدي فإنه من شهداء الجزائر، وللشهداء مكانتهم عند ربهم. وكانت دهشة السائق
بالغة عندما احتضنه بذراعيه وقال له اذهب لا تتأخر عن موعد المهمة، أما ابني فإنه
لم يمت لأنه ذهب شهيدا في سبيل الجزائر.
أما الحالة الثالثة التي أذكرها أيضا، فهي تتعلق بالعرائس الليبيات
اللائي صادف زفافهن أسبوع الجزائر فتبرعن بحليهن للثورة الجهادية المقدسة لديهن
مثل كل الشعب الليبي الشقيق.
علما أنه وفي كل ليلة من أسبوع الجزائر الذي يمتدُّ إلى شهر أو
شهرين، تنظم حفلة أو حفلات في مختلف أحياء مدينة طرابلس، وفي مختلف المدن الأخرى،
ويتكلم فيه الخطباء عن الدور البطولي الذي يقوم به الشعب الجزائري منذ اندلاع
الثورة التحريرية، والانتصارات الضخمة التي يحققها الأبطال الجزائريون، والهزائم
المرة التي يمني بها جيش الاحتلال الفرنسي، ثم يفتح المجال للتبرع فترى الجود،
والكرم، والإيثار، والتضحية في أقصى حدودها...".
تضامن عربي
لقد ظَهَرَ تضامن البلدان العربيّة وشعوبها منذ الوهلة الأولى
لانطلاق الثّورة، ولكن هذا الدعم كان متفاوت الحجم والنوع في الميدان لأنّ بعض هذه
البلدان كان ما يزال هو نفسه تحت الاحتلال أو الحماية كالإمارات وعُمان وقَطَر
وجنوب اليمن والبَحرين التي كانت تحت الحماية البريطانيّة؛ ولم يَنَل الكُوَيت
استقلاله إلاّ سنة 1961. وكان العِراق مستقلاًّ ولكن لم تتجسّد مساعدته إلاّ بعد
وصول العميد عبد الكريم قاسم إلى السّلطة سنة 1958.
وعن مساعدة العراق للثورة الجزائرية نترك القلم للأستاذ توفيق المدني
(الوزير في الحكومة المؤقتة آنذاك) ليحدثنا عن مثل هذه المواقف الرائعة للأشقاء
حيث يقول في مقال له تحت عنوان "العراق والمدد المنظم" منشور في مجلة
الأصالة (عدد نوفمبر 1974) ما نصه: "... عقد عبد الكريم قاسم مجلس الوزراء
ودعانا إلى حضوره. في بناية وزارة الحربية، فرحب بنا ترحيبا حارا بليغا... فشكرت
العراق شعبا وحكومة على ما بدأه من روح ثورية عالية... وقلت بعد أن شرحت الموقف
الحربي: الآن جاءت الساعة الحاسمة ساعة بعدها النصر أو الفناء، المال أو السلاح،
هذا ما نطلب من العراق... قال عبد الكريم قاسم: كفاح الجزائر أمر أساسي في كفاح
العرب، ولن ينجح العرب أصلا في مستقبل أيامهم، ما لم تفز الجزائر باستقلالها، كلنا
للجزائر! أما السلاح فسنعطيكم سريعا مما عندنا ومن أجود الأنواع، وأما المال فهو
قليل بين أيدينا لكننا لن نبخل عليكم بشيء، وسنتحمل فوق ما نستطيع، قلت المال
بالنسبة لنا اليوم كالسلاح... نطق السيد حديد وزير المالية فقال: لا نجد بين أيدينا
اليوم شيئا من المال... فأجابه قاسم بلهجة شديدة: سواء أكان عندنا المال أو لم يكن
عندنا منه شيء فواجبنا إمداد الجزائر حاليا، أخِّر دفع مرتبات الموظفين، أخِّر
المشروعات التي لديك، أخِّر كل شيء إلا الجزائر! يجب أن تغاث حالا...".
هذه الشهادة الأولى أما الشهادة الثانية التي تؤكدها فموجودة بنفس
المعنى في كتاب المجاهد سعد دحلب وزير خارجية الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية
تحت عنوان "مهمة منجزة" حيث يقول: "لقد ساعدتنا البلدان الشقيقة في
حدود إمكاناتها المتاحة وكانت هذه المساعدة والدعم الدائم المادي والمعنوي أحسن عون وسند لنا طوال سنوات
حربنا التحريرية حتى بلوغ الانتصار النهائي".
ومن أروع الصور التي تجسد تضحية الأشقاء العرب في الثورة الجزائرية
نذكر الموقف النموذجي النادر المثال للمجاهد (الليبي المولد ـ الجزائري الروح
والمدفن) الهادي إبراهيم المشيرقي الذي يسجله بقلمه في كتابه "قصتي مع ثورة
المليون شهيد" حيث يقول: "ومرة أخرى وبالتحديد في 20 يناير 1958... دق
جرس الهاتف في مكتبي بالفندق الكبير "جراند أوتيل" بطرابلس... وكان
المتكلم هو العقيد أعمران... وطلب مني أن أنتظره فهو قادم في الطريق... وجاء معه
بشير القاضي وكمال شاكر... ودخل في الموضوع مباشرة قائلا: نحن في حاجة ماسة
للمزرعة التي قلتم إن ثمنها ثمانية آلاف وخمسمائة دينار ليبي... لكن ليس معنا غير
أربعة آلاف فقط... قلت: هذه المسألة نتباحث فيها هذا المساء.... فأنت معزوم على
العشاء في الفندق... وسيحضر العشاء معنا التابعي القائم بأعمال السفارة المصرية...
والطبيشي القائم بأعمال السفارة السعودية... أنتم ضيوفي... وحضر العشاء العقيد
أعمران ورفاقه ومعهم شخص رابع محروق اليد نتيجة إشعاله النار في أحد المتاجر التي
رفضت الامتثال للإضراب... وفي الصباح الباكر جاءني العقيد أعمران يسألني إن كنت قد
جهزت باقي ثمن المزرعة... ولما كانت الظروف الاقتصادية مأزومة... فقد طلبت مهلة
شهر كي أتصرف... ولكنه رفض الانتظار... كما رفض محاولاتي لشرح الإجراءات والمدّة
الزمنية التي تستغرقها... فعرضت عليه أن أقوم برهن بيتي... وتوجهنا للبنك ومعنا
مستندات ملكية البيت... وهناك أعلمونا أن الإجراءات ستستغرق بعض الوقت... فقبل على
مضض... وأثناء عودتنا لمكتبي... أخذ لنفسه طريقا منفردا... ولم نعرف وجهته...
ولكني فوجئت في الصباح بكمال شاكر... يدخل مكتبي ومعه أوراق بيتي التي تركناها في
البنك المصري قيد الرهن... وأخبرني أن المشكلة قد حلت بطريقة العقيد أعمران، ووسط
استغرابي... أجاب كمال: بعد أن تركنا العقيد أعمران وذهب بمفرده... دخل قصر
الخلد... وأخذ يرفع صوته عاليا قائلا: هكذا وصلنا إلى أن يرهن الهادي المشيرقي
بيته... فسمع الملك إدريس هذه الضجة... فقال: ادفعوا له الذي يطلبه حالا... فخرج
والصك في يده...".
لقد ظَهَرَ تضامن البلدان العربيّة وشعوبها منذ الوهلة الأولى لانطلاق الثّورة، ولكن هذا الدعم كان متفاوت الحجم والنوع في الميدان لأنّ بعض هذه البلدان كان ما يزال هو نفسه تحت الاحتلال أو الحماية كالإمارات وعُمان وقَطَر وجنوب اليمن والبَحرين التي كانت تحت الحماية البريطانيّة؛ ولم يَنَل الكُوَيت استقلاله إلاّ سنة 1961. وكان العِراق مستقلاًّ ولكن لم تتجسّد مساعدته إلاّ بعد وصول العميد عبد الكريم قاسم إلى السّلطة سنة 1958.
ويقول أيضا: "في الأسبوع الأول من شهر مايو 1960... زارني خليفة
العروسي وكيل وزارة التموين والتسليح... وكان معه وزير التموين والتسليح عبد
الحفيظ بوصوف... جاء الاثنان إلى مكتبي وسألني خليفة سؤالا مباشرا:
ـ هل تعرف شخصا اسمه "بيزنر ويلي"؟
فأجبته على الفور: نعم... أعرفه جيدا، فقد كان يورد الأسلحة لمكتب
المغرب العربي بالقاهرة...
وجاء السؤال الثاني مباشرا أيضا... وقاطعا مثل سابقه:
ـ هل أنت مستعد للعمل مع الثورة الجزائرية بأقصى حد؟
والجواب:
ـ نعم... وهذا شرف يمنح... لا يفرض...
وعقب الوزير الجزائري ردا على جوابي:
ـ المسألة فيها خطورة على حياتك.
ورددت:
ـ ماذا يضير موتي... بعد موت مليون من إخوتي...
وهز رأسه متمتما: طيب... ثم بلع ريقه وأردف قائلا والكلمات تخرج من
بين شفتيه بصعوبة:
ـ حتى نكون واقعيين... وهذا ما يجب إزاء
الأشخاص الثوريين... فإن الأمر يتطلب -للاحتياط- أن تكتب وصيتك وبراءة للثورة من
دمك.
قلت:
ـ أكتبها من كل قلبي وأنا مرتاح وسعيد
بشرف انضمامي إليكم... وهذا شرف طالما تمنيته... وطلبته منكم مرارًا... وها قد
تحقق ولله الحمد.
وبالفعل كتبت وصيتي... بمصيري... ومعها ورقة أخرى أبرئ فيها الثورة
تماما من دمي وأعفيها من أية مسؤولية خاصة بمصيري... كما كتبت رسائلي لأسرتي...
وفي صباح يوم 29 مايو 1960 أخذني خليفة العروسي إلى السفارة السعودية في طرابلس...
وهناك كان في انتظارنا الوزير المفوض بكري عبد الكبير... وتسلم مني ما أحمله من
وصايا وبراءة ورسائل لأسرتي... فوضعها في مظروف كبير... وأودعها في الخزانة
الحديدية... وقبل أن ينبس بأية كلمة... أيقنت تماما أنه يعرف كل شيء مسبقا... وقد
أغناني هو عن البحث عن مزيد من المؤشرات... عندما نظر إليّ وقال وهو يودعني:
ـ أنا في انتظارك... لأسلمها لك شخصيا إن شاء الله تعالى.
وكنت قد حررت أيضا عدة رسائل أخرى لأفراد أسرتي.. وأودعتها بدورها
في مظروف مغلق... وسلمتها لصديقي عبد الرحمن شرف الدين.. واتفقنا على أن نتقابل
أنا وخليفة لعروسي في فندق «كونتس هوف» بمدينة ميونيخ الألمانية... وقد نصحني الأخ
خليفة بأن أتحاشى قدر الإمكان مطار فرانكفورت الذي تراقبه عصابات اليد الحمراء...
وفي اليوم التالي غادرت طرابلس في طريقي إلى ألمانيا... بينما أخذ خليفة طريقه إلى
القاهرة حسبما أظن... وبعد أربعة أيام وصل إلى الفندق... وخرجنا معا للقاء
«ويلي»... وبدأنا على الفور العمل... وناقشا المطلوب... وتوالت الاجتماعات حول
التفاصيل... وكانت عصابة اليد الحمراء في أقصى حالات نشاطها في محاولة مسعورة لقطع
طرق الإمداد والتسليح على الثورة الجزائرية... وقد ارتكبت عدة جرائم اغتيالات...
ولم يكن "ويلي" بعيدا عن مراقبتها... وكان هو بنفسه يعرف ذلك... ويتخذ
احتياطات كثيرة للخداع... وطالما رفعت عيني لأدور بهما حولنا... فأتصبب عرقا عندما
أجد أن كل الوجوه حولنا غريبة... تبعث على الريبة... لو أني أضفت تفاصيل أخرى
للوصية... ويأخذني إحساس بالاختناق... ولكن سرعان ما يستغرق مشاعري العمل المقدس
الذي نحن بصدده... فأشعر بالزهو والكبرياء... وتتضاءل كل الأخطار أمام عيني...
وعندما كان يبدو الوسط الذي نتباحث فيه... وكأن العيون معادية... والأيدي كلها
حمراء... كنت أكاد أسمع حوارا داخليا في أعماقي... ونبرة ذاتية شجاعة ترتفع بصدق
وإصرار:
إنك هذه المرة... وبالذات... في موقف مختلف... لقد تجاوزت صور الكفاح
بالمال... وبالجهد... وبالوقت... إلى الجهاد بالنفس... وهنا أستشعر بل أكاد ألمس
الذرى... تهفو روحي إلى منازل الشهداء... فتهدأ أعماقي... ويسري في أوصالي تيار من
الرضا والفخر... وحتى أنه لا يكاد يربطني بهذه الأرض غير همس صوتي رفيقي... فأطلب
المزيد من فناجين القهوة... وأحس أنني أعرف كل مفردات الحوار الذي يدور بلغة
أجهلها هي الفرنسية وتثري آيات الذكر الحكيم على ذهني... فترددها شفتاي في
تلقائية... وأخيرا بدا أن نتائج المباحثات قد استقرت على حال... فقد اتجها
إليَّ... لقد حددا الكميات والنوعيات... والأسعار... وجاء دوري هنا... فباختصار
فإن "ويلي" كسمسار سلاح... لم يرد التعامل مع الثوار مباشرة... فهم في
رأيه بعيدون عن الاستقرار في مكان... وحياتهم عرضة للمخاطر... كما أن مراكزهم
تتغير... وبالتالي فإن مسؤولياتهم متغيرة... وهو يريد مسؤولا يسدد له مستحقاته في
مواعيدها... وتفاصيلها... وفي المقابل فإن الثوار لا يثقون في التجار عامة...
وخاصة تجار السوق السوداء... وفي سلعة خطيرة... كالأسلحة بصفة أخص... حيث يكثر
النصب فضلا عن التلاعب والخديعة وغيرها مما يزال وسيظل يحكم هذه التجارة... وقد
اتفق الطرفان (الثوار والتاجر) على البحث عن حل لهذه الثقة المفقودة بين
الطرفين... واقترح التاجر اسمي بحكم المعرفة السابقة منذ أيام مكتب المغرب
العربي... وبدأ "ويلي" عمله على الطبيعة... فأخذ يلف على المخازن
والمخابئ طلبا للأسلحة... وودعني خليفة على موعد أن يعود بعد ثلاثة أيام أو يومين
ومعه ثمن ما اتفقا عليه أن نلتقي في فندق آخر حدده "ويلي"... وبعد يومين
فقط عاد خليفة العروسي من دمشق... وسلمني ثلاثة صكوك باسمي وبها مبالغ ضخمة.
والصكوك الثلاثة صادرة باسمي... وقد سلمت خليفة إيصالا واحدا بالصكوك
الثلاثة... وذكرت في الإيصال أنه في حالة موتي أو فقداني للوعي فإنه على ورثتي أن
يعيدوا قيمة الصكوك حالا إلى جبهة التحرير الوطني الجزائري... كما حررت رسالة
للمصرف بنفس المعنى... وظللنا نلتقي ثم نفترق... وتطول الآماد بين اللقاءات...
وصديقي "ويلي" مشغول تماما بتجهيز الصفقة...
وحان وقت التسليم... وبدأت اللقاءات تكتسب سمة النهاية... عندما
فوجئنا بأن "ويلي" بعد إحدى هذه اللقاءات يحاول إدارة محرك سيارته...
فإذا بانفجار ضخم يطيح بكل شيء في السيارة... ويحولها إلى شظايا... وخاصة ذلك
المقعد المجاور له، والذي طالما جلست عليه غاديا ورائحا حتى قبل لحظات من
الانفجار... ولكن قل: ﴿لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا﴾ صدق الله العظيم... لقد
نجوت... أما صديقي المسكين فقد بتر الانفجار ساقه... وأصابت الشظايا وجهه...
وتسببت في إصابته بضعف شديد في الإبصار... وقد أسفت كثيرا لهذا الصديق ذي القدم
الخشبية... والذي طالما ناقشني حول قضايا الوطن العربي... من تونس... إلى
الجزائر... إلى فلسطين ومصير الشعب العربي في هذا الجزء من الوطن الكبير...".
وإذا كان من الصعب حصر كل أوجه المساعدات التي قدمتها الدول العربية
الشقيقة وشعوبها للثورة الجزائرية التي اعتبروها قولا وفعلا ثورتهم... فإننا نقتصر
هنا على ذكر الأهم والأعم منها فقط للحقيقة والتاريخ والاعتبار وهي:
ـ تنظيم أيّام أو أسابيع تضامنيّة مع
الثّورة الجزائريّة،
ـ أعمال ضدّ مصالح
فرنسا بعد عمليّة
القرصنة الّتي تعرّضت لها الطّائرة المُقلّة للوفد الجزائريّ يوم 22 أكتوبر 1956،
ـ تضامن واسع بعد هجوم الطَّيران
الفرنسيّ على ساقية سيدي يوسف (8 فبراير 1958)،
ـ مساعدات ماليّة متفاوتة من جميع
البلدان العربيّة،
ـ تكوين عسكريّ للمجاهدين الجزائريّين في
بعض البلدان العربيّة،
ـ فتح مجال الإعلام للثّورة الجزائريّة
(صوت العرب مثلاً بالقاهرة وكذلك إذاعة الرباط وتونس وطرابلس ودمشق وبغداد)،
ـ وقوف البلدان العربيّة ككتلة متراصّة
عند تناول القضيّة الجزائريّة في المحافل الدّوليّة.
شهادة تؤكد الدعم العربي للثورة الجزائرية موجودة في كتاب المجاهد سعد دحلب وزير خارجية الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تحت عنوان "مهمة منجزة" حيث يقول: "لقد ساعدتنا البلدان الشقيقة في حدود إمكاناتها المتاحة وكانت هذه المساعدة والدعم الدائم المادي والمعنوي أحسن عون وسند لنا طوال سنوات حربنا التحريرية حتى بلوغ الانتصار النهائي".
زيادةً على هذه الأعمال المشترَكة لا بدّ أن نشير إلى عمليّات
متميّزة قامت بها بعض الدّول العربيّة من أجل الثّورة الجزائريّة منها:
ـ كون القاهرة منارة للوطنيّة العربيّة
ومركز إشعاع للثّورة الجزائريّة، ففيها تَنَصَّبت الحكومة المؤقّتة الجزائريّة
وفيها اجتمعت، وفيها اجتمع المجلس الوطنيّ للثّورة الجزائريّة.
ـ في آب / أغسطس 1956 أخبر الرّئيس جمال
عبد النّاصر أحمد بن بلّة وفرحات عبّاس بأنّه خصّص مساعدة ماليّة للثّورة
الجزائريّة وأَخَذَ أسلحة وذخيرة من الجيش المصريّ إلى جيش التحرير الجزائري، إلى
جانب ما تعرضت له مصر من عدوان ثلاثيّ فرنسي بريطاني صهيوني في سنة 1956 والذي كان
من أسبابه الأساسية مساعدة مصر للثّورة الجزائريّة، في مختلف المجالات السياسية
والإعلامية والعسكرية.
ـ رفض سُكّان طرابلس اللّيبيّون الخروج لِتحيّة الوزير الأوّل
التّركيّ عدنان ماندِريس لمّا زار ليبيا في خريف سنة 1957، وذلك للاحتجاج على
الموقف السّلبيّ لتركيا في الأمم المتّحدة؛ ونشير إلى أنّ ليبيا كانت البلد
العربيّ الوحيد الّذي قاطع شراء منتوجات فرنسيّة.
ـ وضع العراق كلّ وزنه لمساعدة الثّورة
الجزائريّة وذلك بعد مجيء العميد عبد الكريم قاسم إلى الحكم؛ بين سنَتَي 1958
و1961. كان في التّرتيب الأوّل من بين الواهبين الماليّين، وقد كان متبوعًا
بالجمهوريّة العربيّة المتّحدة (أي مصر) والكويت ثمّ المملكة العربيّة السّعوديّة...
ـ خَصَّصت سوريا أيّامًا برلمانيّة
للجزائر المكافحة.
ـ خَصَّص الكويت اقتطاعات من موارده
الماليّة لصالح الثّورة الجزائريّة.
ـ خَصَّص ملك الأردن بناية في عَمّـان
لممثّلي الثّورة الجزائريّة في الأردن.
ـ وضع أمير قَطَر قصره في سويسرا تحت تصرّف الوفد الجزائريّ المتفاوض
مع فرنسا.
ـ إعانة خاصّة قدّمتها الكويت لآلاف اللّاجئين الجزائريّين عندما
أرادوا الرّجوع إلى الجزائر بعد الاستقلال، كما أنه نظرا لأن النّظام الماليّ
التّونسيّ لم يكن يسمح لهم بتحويل العملة التّونسية؛ فقد وضعت الحكومة الكويتيّة
مبلغًا ماليًّا بالجُنَيه الاسترلينيّ لتغطية عمليّة تحويل 3 مليارات فرنك نحو
الجزائر صبيحة الاستقلال".
وهذه عينات فقط مما يجب أن يذكر هنا، للتذكير والاعتبار، وإشعار
أولئك الجهلة، واللؤماء، من بعض الجزائريين بالجنسية (وليس بالانتماء والهوية) من
الذين يعتبرون بعض الأشقاء العرب أجانب في الجزائر العربية، ويطلبون منهم (وهذا
حصل مع الأسف) اصطحاب مترجمين معهم من العربية إلى الفرنسية لمقابلة بعض المسؤولين
الجدد في فرنسا الجزائرية الآن بعد الجزائر الفرنسية قبل سنة 1962!
إقرأ أيضا: كيف أسهم الإسناد العربي في انتصار ثورة الجزائر ضد فرنسا؟.. من لغزة؟ (1)