الذاكرة السياسية

المادة والروح وثورة الجهاد في الجزائر.. حين لا يكون الدين أفيونا للشعوب (2)

الإيمان بالله عند المليون ونصف مليون من شهداء الجزائر الذين جمعتهم كلمة الجهاد (أميهم وعالمهم، غنيهم وفقيرهم) كان محققا لكل الأهداف "الدنيوية".. الإذاعة الجزائرية
إذا كان الزمان غير الزمان فالإنسان هو الإنسان وفريضة الدفاع عن النفس والأرض والعرض لا تسقط عنه إلى يوم الدين. وسنة التدافع بين الناس والحضارات والقيم تجعل دوام الحال من المحال ولو دامت  للأولين لما دانت للآخرين!؟ وأن الكيل بمكيالين في حقوق الإنسان من القائمين على مجلس الأمن المخيف هو سبب كل الخلل في المعايير والموازين وهذا الدمار المبين..

وفي تاريخ الحروب والثورات التحريرية العظمى دروس للمعتبرين وأن الذكرى قد تنفع حتى البغاة  والعصاة والطغاة فضلا عن المؤمنين!!

وبمناسبة إحياء الجزائر للذكرى  التاسعة والستين لثورة القرن العشرين بدون منازع في الفاتح من تشرين  الثاني (نوفمبر 1954) وربطا بما تصادفه إحياء هذه الذكرى من أحداث جسام جارية في الساحة والساعة  الدولية عرفنا إرهاصات بدايتها ولا نعرف نهايتها بعد.. نود أن نذكر المعتبرين بدروس التاريخ الحي الذي عشناه في هذه الثورة لحما ودما وجهادا و"استشهادا" لما يزيد عن السبع سنين مماثلة لما يراه العالم  على  المباشر يوميا من أهوال الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل في معركة الأحزاب الثانية في فلسطين الحالية والتاريخ بيننا يبقى دائما الشاهد الأمين على المحسنين والمسيئين والظلمة والمجرمين وأصحاب الحق المغتصب الذي لا يسترجع إلا غلابا وافتكاكا باليمين وتلك هي سنة الله في الأولين  والآخرين.

تأتي ذكرى هذا العام مشحونة بكثير من الآلام المبرحة والآمال العريضة في الوقت ذاته وهي تصادف قمة الثورة الجهادية الوريثة الشرعية لها في معركة الأقصى بشقيقتها الصغرى فلسطين.

لقد عايشت تلك الثورة الجهادية كابن شهيد ومجاهد في صفوف جيش تحريرها حتى توقيف القتال وتقرير المصير والاستقلال وكنت شاهدا على كثير من مجرياتها المفرحة والمقرحة بورودها وأشواكها؛ بأفراحها بانتصاراتها وأقراحها بالإحباطات والتقلبات والخيانات التي اعترضت مسيرتها الطولية إلى النصر المبين!

ومن مميزاتها أن يوم انتصارها وتحقيق الاستقلال سنة 1962 كان هو يوم ذكرى الغزو والاحتلال سنة 1830 مما يعني أن كل استقلال قد يحمل بذور احتلال كما أن كل احتلال يحمل بذور استقلال إذا بقي عزم الرجال كما كان واقع  الحال.

وإدراكا مني بما للثورة الجزائرية من أوجه شبه وتطابق أحيانا مع ما يجري في فلسطين هذه الأيام، إلى درجة التوأمة (السيام) بين الثورتين وخاصة من جهة  نوعية الاستيطان وفصيلة المستوطنين أنفسهم  خلفا عن سلف.. والدليل على ذلك هي آلاف القوافل من شهداء  المغرب العربي الكبير المدفونين في القدس الشريف على مر التاريخ الإسلامي للأمة عندما كانت أمة حرة  حتى  تحت الاحتلال الأجنبي  الخارجي (الأرحم مع الأسف من الاستحلال الداخلي الراهن!!!!)، حيث ذهب أكثر من 4000  مجاهد سنة 1948 ودخلوا  من أرض الكنانة سابقا لنجدة الأشقاء في الأرض المباركة التي لم تتغير في وجدان كل مسلم من المحكومين لاحقا في أمة المليارين من أصحاب العين البصيرة واليد القصيرة على امتداد سماع الآذان وتلاوة القرآن من جاكارتا إلى داكار ونواكشوط  والرباط وتطوان مرورا بقسنطينة ووهران!؟!

وإني لهذا السبب وغيره أعيد نشر بعض فصول كتابي (جهاد الجزائر: حقائق التاريخ ومغالطات الجغرافيا)، هنا في صحيفة "عربي21"، وهو صورة حية عن جوانب مشرقة من ثورة القرن العشرين التي جسدت أمجاد الحرية والكرامة، تماما كما هو حال غزة وفلسطين هذه الأيام.. لما بين الثورتين من تطابق  وتشابه كما قلنا وعشنا في الثورة الأولى مقارنة بما نراه على المباشر في الثورة الفلسطينية العظيمة  الثانية التي اختصرت أمة المليارين (من غثاء السيل) في المليونين من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والقدس وجنين.

وإنني أدرك تمام الإدراك الصلة الوثيقة بينهما في حجم التضحيات ومعارك التحرير التي يخوضها الأشقاء  الفلسطينيون هناك (كما كان أشقاؤهم هنا لأكثر من سبع سنين دون انقطاع.)  في مواجهة أعتى احتلال وأشده شراسة، لا سيما وأنه احتلال يلتف حوله  قادة  العالم الغربي الاستعماري كله ويدعمونه انتقاما من عدوهم اللدود على هزائمهم السابقة وإحياء لخلافات وأحقاد تاريخية دفينة..

كنا نعتقد، وأن بعض الظن ليس إثما، أن ثورات الحرية والكرامة والسيادة والاستقلال التي عرفتها مختلف أنحاء المعمورة قد تجاوزتها الوحوش البشرية المسلحة بالنووي والحقد الأعمى في معاداة حقوق الإنسان الفلسطيني خارج  حقوق الإنسان التي يحميها حق الفيتو الظالم أمام كل أنظار العالم الأعور الأصم الواجم.

إن الإسلام والاستعمار ضدان لا يلتقيان في مبدأ ولا في غاية، فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع الرحمة والرفق، وأمر بالعدل والإحسان، والاستعمار قِوامه على الشدة والقسوة والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام يثبت الأديان السماوية ويحميها ويقرّ ما فيها من خير ويحترم أنبياءها وكتبها، بل يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل قاعدة من قواعده وأصلا من أصوله، والاستعمار يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه خصوصا الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه. وهذا المكيال العجيب الغريب بين إنسانين لا يثير القلق  فقط حول مصير البشرية في هذا العالم (وحيد القرن) وإنما يعيد السؤال أيضا وبإلحاح عما إذا كان للمعارك الحضارية الكبرى التي سعت لتوحيد البشرية على أساس العدل والمساواة تتراجع إلى ما تحت الصفر كما نراها في مجازر المغول الجدد بالصوت والصورة  في غزة العزة والإنسانية التي تحتضر في مستشفياتها المنكوبة كلها اليوم والمقطوعة عن الحياة أمام أعين دعاة حقوق الإنسان (الحجري)  وليس الإنسان البشري المتحضر المتعلم والمتقدم!!

وما يفيد في هذه الصفحات من ثورة الجزائر (فلسطين الأولى) الأشقاء في الجزائر الثانية (فلسطين  الحالية)، سأسرده ليس من باب تقديم الدروس، وإنما من باب قراءة التاريخ والاتعاظ به وأخذ العبرة منه..

الإيمان والوسيلة

إن واقع الثورة التحريرية أثبت أن شرطي الإيمان والوسيلة، لم يكونا متلازمين في الوجود الفعلي عند الانطلاقة الأولى، بل إن وجود الإيمـان قد سبق الوسيلة، وهو الذي أوجدها لتحقيق الأهداف، فلقد تم التنظير للثورة مبدأ ووسيلة، ولكن الوسيلة كانت مفقودة تقريبا، فكان ذلك الإيمان بمبدأ الجهاد وحده هو السلاح المعنوي الذي أنتج تلك الوسيلة المادية فيما بعد، ليجتمعا معا فتتحطم أمامهما إرادة المحتل المالك لأحدث الأسلحة التي تجعل وجه المقارنة منعدما تماما بين جيش المجاهدين وجيش المحتلين...

وتجسد في هذه الحالة تطبيق الآية القاعدة: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾ [سورة الأنفال:60]، وليس مثل ما عندهم (...) كما تجسّد في ذلك الجهاد أعظم صراع غير متكافئ بين الروح والمادة وبين الجبر والحرية... ذلك أنه إذا كان الإنسان الثائر يتحرك ويحارب بدون سلاح متكافئ ماديا، فإن السلاح لا يتحرك بفعالية إلا بإنسان مؤمن بفكرة... وإذا كانت القوة المادية الاستعمارية تملك القدرة على أسر الأبدان فإنها ظلت عاجزة كل العجز على التحكم في روح الإنسان، فكان الارتباط الروحي بالعالم العلوي لدى المجاهد هو الذي يجعله يجابه الدبابات والطائرات ويقتحم القواعد المحصنة ببنادق الصيد القديمة، وهو الذي يقنعه بالاستشهاد تحت التعذيب دون أن يحصل منه العدو على أية كلمة سر، وهو الذي يدفع المسبّل (نوع من الثوار) إلى اقتحام المعارك الطاحنة بيدين عزلاوين ليفتك منها قطعة سلاح (مادي) كي يصبح بعد ذلك عضوا في صفوف جيش التحرير الوطني (وهو ما كان يعرف بالتسلّح الذاتي) وكم من نفس راضية رجعت إلى ربها في مثل هذه العملية الاستشهادية الفذة.

لماذا لم يكن تديّن هؤلاء المجاهدين مخدرا لهم وعائقا عن تحقيق النصر المبين، وإحياء القيم الإنسانية السامية المتمثلة في الخير والحق والحرية؟
ويعلم الله أيضا كم من سلاح جهنمي للعدو ارتد إلى نحره بنفس العملية... ويكفي القول إن الثورة بعد سنوات قليلة كادت أن تحقق الاكتفاء الذاتي في بعض المناطق من الوطن نتيجة لهذا الأسلوب، وهذا الإيمان أيضا هو الذي يجعل الأم الحنون ذات العاطفة الجياشة تزغرد أمام جنود الاحتلال على وحيدها (الذي أوتى لها به شهيدا مخضبا بدمائه)... تعبيرا عن سعادتها بمشاركته في ثورة الجهاد وفوزه بالوعود في عالم الخلود... وعندما نذكر هذه الوقائع الحية التي عايشها جيلنا تطفو بقوة على سطح الذاكرة مجموعة من الأمثلة الحية التي سنكتفي بذكر واحد منها وهو مثال ذلك الشاب القادم من جامع الزيتونة بتونس تلبية لنداء الجهاد المقدس في مسقط رأسه بالناحية الأولى من المنطقة الثالثة بالولاية الثالثة و هي تابعة لبلدية سيدي نعمان (ولاية تيزي وزو)، والذي وقع أسيرا في إحدى المعارك (سنة 1958) وتم استنطاقه أمام الأهالي في القرية، وقد جرى الحوار على الصورة التقريبية التالية حسب شهود عيان:

الضابط الفرنسي: ما اسمك؟
المجاهد: اسمي سي محمد الشريف (وهو اسمه الحقيقي وكان يعرف اللغة الفرنسية).
الضابط: لماذا ذهبت إلى الجبل؟ (يعني الثورة).
المجاهد: ذهبت للدفاع عن ديني ووطني!
الضابط: ألا تخاف الموت عندما انضممت إلى الخارجين عن القانون؟!
المجاهد: لا أخاف الموت!
الضابط: لماذا لا تخاف الموت؟؟
المجاهد: لأن الله عندما يريد أن يتوفى شخصا يتوفاه في أي مكان، والدليل على ذلك أنني كنت في المعركة ولم أمت!
الضابط: لماذا لم تمت!؟
المجاهد: لأن الله لم يقدر لي أن أموت اليوم!
الضابط: أمسك الرشاش بكلتا يديه وقال للمجاهد (ليس الله هو الذي يقتل، بل أنا الذي أقتل، والآن سأقتلك ولن ينجيك الله...)
المجاهد: لست أنت ولا رصاصك هو الذي يقتل، بل الله هو الذي قدر لي أن أموت على يدك اليوم.
الضابط: يبتسم في استهزاء ويرجع الرشاش إلى خلف ظهره قائلا: (لن تموت إذن).
المجاهد: إن الله لا يريد أن يتوفاني اليوم!
الضابط: ينفجر غضبا وتتحطم أعصابه أمام إيمان ذلك المجاهد الشاب، فيمسك الرشاش بكل هستيرية، ويفرغ كل ما كان في خزانه من رصاص في صدر ذلك الشهيد رحمه الله!!»
تلك حالة من عشرات، بل آلاف الحالات المماثلة المتكررة بكيفيات مختلفة ومتواترة على طول امتداد الثورة التحريرية، وأن استشهادنا بهذه الحالة (التي ذكرنا نماذج مشابهة لها في الفصل الخاص بالبطولات) نراه كافيا للتدليل على أن التدين، والارتباط بالعالم العلوي، إذا كان عن وعي وصدق، ليس أقوى منه دفعا للشخص المؤمن على اقتحام اللهيب دون أن يخشى الاحتراق... وأن مفهوم القضاء والقدر في الإسلام إن أدى فهمه الخاطىء (السلبي) إلى تجميد عقول شعوب إسلامية عربية وغير عربية، وقفت في القرآن عند (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِين)[سورة هود، الآية 6] و(ويل للمصلين)[سورة الماعون، الآية 4] و(إن الإنسان لفي خسر)[سورة العصر، الآية 2] وفي الأثر عند "أعمل لآخرتك كأنك تموت غدا!" فإن مفهوم القضاء والقدر الذي أدركه المجاهدون الجزائريون بالمعنى الإيجابي الصحيح (كما هو واضح من ردود الشهيد على الضابط الفرنسي) قد صنع البطولات النادرة، وحقق الإنجازات العظمى في الثورة الجهادية الخالدة!.

وذلك لأن المجاهد المؤمن الصادق قد اعتقد أن الموت بيد الخالق الذي قطع على نفسه بأن لا يغير ما بقوم حتى يبادروا هم أنفسهم بتغيير ما بأنفسهم... وأن لا ينصرهم الله حتى يؤمنوا هم أولا به وينصروه مصداقا لقوله تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)[سورة الروم، الآية 47] و(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [سورة محمد، الآية 7] والسؤال الذي نطرحه الآن بعد كل هذه الاستدلالات هو:

لماذا لم يكن تديّن هؤلاء المجاهدين مخدرا لهم وعائقا عن تحقيق النصر المبين، وإحياء القيم الإنسانية السامية المتمثلة في الخير والحق والحرية؟ وعندما نقرر في اعتقاد راسخ بأن الدين كان المحرك الأساسي للثورة الجهادية وسفينتها العملاقة التي اجتازت بها بحر الدماء والدموع إلى جزائر الاستقلال والحرية... فإننا نعترف بأن هناك من أعوان الاستعمار من كان يحارب الثورة المباركة باسم الدين (خاصة في أيامها الأولى قبل أن يثبت المجاهدون صدق جهادهم بالأفعال قبل الأقوال) ومن ذلك ترويجهم الادعاء الخبيث في الأوساط الأمية بأن الجهاد حرام بدون سلطان، وإن الاستعمار قضاء وقدر لا مفر منه، ويجب تقبله بصدر رحب كاختبار إلهي أو على الأقل التغلب عليه بالصبر الجميل، لأنه ابتلاء من الله... إلى غير ذلك من التبريرات المرفوضة عقلا ونقلا، والتي تنم عن الفهم الساذج لمعاني وأبعاد الجهاد في الإسلام دين التحرر والانعتاق.

المجاهد المؤمن الصادق قد اعتقد أن الموت بيد الخالق الذي قطع على نفسه بأن لا يغير ما بقوم حتى يبادروا هم أنفسهم بتغيير ما بأنفسهم... وأن لا ينصرهم الله حتى يؤمنوا هم أولا به وينصروه
ولكن هل ظفر المضللون بطائل؟ كلا! لأن الوعي الديني والوطني لدى غالبية أفراد الشعب الجزائري المسلم والمؤمن كان أقوى من أن يقضى عليه... بل هو الذي قضى على خصومه وخيب آمالهم والثوار الأحياء شهود (...) وقد يعترض بعضهم أو يناقش قائلا: إذا كان الدين وحده هو الحافز والمحرض على التحرر والثورة فهل الطبيب المثقف "شي غيفارا" الذي كان مثلا أعلى في التضحية من أجل العدالة الاجتماعية والحرية الإنسانية، ووهب نفسه فداء لهما في بوليفيا (بأمريكا اللاتينية)... فهل كان متدينا؟؟ فالجواب أن "شي غيفارا" كان شيوعيا ملحدا، أي غير مؤمن بإله أو متدين بدين سماوي، ولكنه كان مؤمنا إيمانا راسخا بمبادىء وقيم إنسانية اتخذها معبودا له وتدين بها، فكان وفيا لمعبوده وصادقا في عبادته، ولولا إيمان "شي غيفارا" لما ذكره التاريخ في مثل هذا المقام.

غير أن الذي نستخلصه من هذا الواقع هو أن الدين الذي أساسه وجوهره الإيمان "بقطع النظر عن نوعية المعبود" ليس أفيونا للشعوب في أصله، بل هو ضروري للنجاح في الحياة وتحقيق أسمى الأهداف فيها، ونعتقد أن الإيمان بالله عند المليون ونصف مليون من شهداء الجزائر الذين جمعتهم كلمة الجهاد (أميهم وعالمهم، غنيهم وفقيرهم) كان محققا لكل الأهداف "الدنيوية" التي طمح إليها "شي غيفارا" فضلا عن الطموح الأخروي الذي هو خير وأبقى. والمثال ذاته ينطبق على الفيتنام، وإيران، والفلبين، ونيكارغوا، وفلسطين، وما سيأتي في المستقبل من حالات مماثلة لحالة الجزائر المحتلة، إذ أن الظلم ذو جنسية واحدة، وحيثما وجد، وجب الجهاد، كما عبّر عنه الشاعر العربي القائل: "أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفداء"، وهذا ما قد يجعل مفهوم الجهاد ينتقل من النقيض إلى النقيض من الاحتلال إلى حكم الاستقلال، حيث قد يصبح الجهاد إرهابا، والأعداء أصحابا وأحبابا ضد الإرهاب الإسلامي الموصوف عندهم "بالظلامي"!!، وهذا الأخير (أي الطموح الأخروي الذي يغذي روح الجهاد لدى المؤمنين) اعتقاد روحي متأصل في النفوس لا يمكن لأية قوة مادية أن تستأصله، وهذا هو حجر الزاوية، والرابطة العضوية بين الإسلام والثورة أو بين الإسلام والتغيير، والإصلاح والتقدم في كل مكان (...).

غير أن بعضهم قد يستنتج أن البعد أو العامل الروحي له دوره الإيجابي والضروري في الحروب والثورات التحريرية فقط...ثم ينتهي هذا الدور الفعال بمجرد حطّ الرحال بالإحراز على الاستقلال السياسي الملغوم والمنقوص في غالب الأحيان؟

والحقيقة أن الدين بمبادئه واحد وثابت، وأما الذي يتغير فهم الأشخاص الذين تختلف كيفية فهمهم للدين واجتهادهم فيه، من حالة الحرب إلى حالة السلم ومن الثورة التحريرية إلى الثورة الاقتصادية والثقافية، واسترجاع مقومات الهوية الوطنية، بعد أوراق الجنسية، حيث تتغير الأوضاع، وتتنوع الـظواهر الاجتماعية، وتتباين حول أمور كثيرة، ومنها دور الدين وجدواه في مواصلة المسيرة التحريرية، وكل مفهوم له منطق ومنطلق ومبررات. والعقول درجات، ودركات، مثل درجات النعيم، ودركات الجحيم!

إقرأ أيضا: المادة والروح وثورة الجهاد في الجزائر.. حين لا يكون الدين "أفيونا للشعوب" (1)
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع