كتب

هل تتجه سوريا نحو المصالحة وحكومة الشراكة؟ دراسة استراتيجية تجيب

التحدي الأبرز الذي يواجه المسار الجديد في حال إطلاقه يتمثل في إقرار واشنطن لقانون منع التطبيع مع نظام الأسد.. (إكس)
رأت دراسة استراتيجية أن سيناريو تعطيل ما زال هو المؤشر الأبرز لوضع العملية السياسية في سوريا، في حال عدم نجاح عملية إطلاق مسار جديد، أو استمرار توقف المسار الدستوري كما هو مرجح.

جاء ذلك في دراسة حديثة نشرتها مؤسسة مدى للرؤية الاستراتيجية، اليوم الاثنين، أكدت فيها أن سيناريو التعطيل للعملية السياسية سيؤدي إلى إضعاف دور الأمم المتحدة لحساب تزايد دور دول النفوذ، خاصة مجموعة أستانة، التي تحتفظ بوجود عسكري على الأرض، ولديها تأثير كبير على الفاعلين المحليين، ما يعمِّق المعاناة الإنسانية والمعيشية، ويترك القضية السورية رهناً لتوازنات القوى الدولية والصراعات الإقليمية ومصالح دول النفوذ.

وقدمت الدراسة قراءة شاملة للعملية السياسية في سوريا منذ ٢٣ أيلول ٢٠١٩ حين أعلن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن تشكيل "اللجنة الدستورية"، بعد خمس سنوات من انطلاق مفاوضات جنيف بين الأطراف السورية، والتي لم تحقق تقدماً يذكر، وجاء ذلك وسط تحركات دولية متعددة الاتجاهات، للدفع بالعملية السياسية من جديد بعد توقف قارب سنتين دون أن تنجح جهود مبعوثي الأمين العام في اختراق التصلُّب الذي أبداه نظام الأسد، مستنداً إلى دعم روسي وإيراني.

ورأت الدراسة أن تشكيل اللجنة، يعكس في أحد أوجهه، إقراراً غير مباشر بأن الإطار التفاوضي الذي اتبعته الأمم المتحدة منذ ٢٠١٤ في جنيف لم يعد قادراً على الاستمرار، كما أنه لم يحقق النتائج المرجوة، في ظل عدم اعتماد آليات ضغط دولية تساعد الأمم المتحدة على إرغام نظام الأسد على تطبيق بيان جنيف وقراري مجلس الأمن ٢١١٨ و٢٢٥٤، والتوقف عن التسويف والتعطيل أو مواجهة إجراءات رادعة، كما أنَّ عدم توفر ضمانات لنجاح أي خيار تفاوضي، أو إطار زمني محدد، والتفاهمات "المغلقة" التي تمَّت بين ضامني أستانة، حدَّت من قدرة الأمم المتحدة على الإنجاز، وهو ما يفسر تعيين ٤ مبعوثين خاصين بسوريا دون نتائج تذكر، وتراجع الحديث عن التطبيق "الواضح والمتسلسل" لبيان جنيف والقرار ٢٢٥٤، بما في ذلك هيئة الحكم الانتقالي بوصفها المنجز الأهم المفترض للعملية السياسية في سوريا.

ولادة صعبة

اقترنت ولادة اللجنة الدستورية على مدى عامين من المباحثات الماراثونية مع تغييرات على الأرض، وانحسار مناطق خفض التصعيد، والإخفاق في تحقيق تقدم في ملف المعتقلين والمفقودين (تقدر أوساط حقوقية عددهم بأكثر من ١٠٠ ألف معتقل ومختفٍ قسرياً)، واستمرار عمليات التهجير القسري، وإصرار النظام على انتهاج سياسات قمعية في المناطق التي استعاد السيطرة عليها، وتراجع الدعم والتفاعل الدولي مع القضية السورية، وشروع دول عربية وإقليمية في فتح قنوات اتصال وإقامة علاقات دبلوماسية مع النظام، وإعادته إلى جامعة الدول العربية ودعوته للقمة العربية في الرياض (١٩ أيار ٢٠٢٣).

غير أن المتغير الأهم، بعد مفاوضات ٢٠١٤ والظروف التي تلتها يكمن في تزايد تأثير دول النفوذ في القضية السورية، وتراجع دور كل من المعارضة (بهيئاتها الرسمية) والنظام، لحساب الدول المؤثرة، وتحديداً ضامني أستانة، الذين لعبوا دوراً رئيساً في الدفع بخيار اللجنة الدستورية في اجتماع سوتشي (٣٠ كانون ثاني ٢٠١٨)، وتكوينها، ووضع محدداتها، وضمان موافقة الأطراف المحلية والأمم المتحدة عليها، بما يراعي مقتضيات قرار مجلس الأمن ٢٢٥٤ (٢٠١٥).

شهدت الأشهر الماضية تحركات عدة لاقتراح أماكن بديلة لعقد المفاوضات، ومنها مسقط، التي اعتذرت على استضافت الاجتماعات، واقترحت إيران أن تعقد في بغداد لكن المقترح قوبل بالرفض، وجاء اقتراح نيروبي (كينيا)، كونها تستضيف مقراً للأمم المتحدة، لكن النظام رفضه، لتبقى عملية العودة للتفاوض تراوح مكانها.
ورغم موافقة أغلب الفاعلين الإقليميين والدوليين على اللجنة، وإبداء الرغبة بدعمها، إلا أن لغة الحذر كانت واضحة في تصريحات المتحدثين والمسؤولين، بسبب حدة التجارب التفاوضية السابقة، وعدم توفر ضمانات للنجاح في ظل التعنت المستمر الذي يبديه النظام، وحالة الاستقطاب الدولي الذي تدفع ضريبته القضية السورية بالنظر إلى تعارض مصالح دول النفوذ، وتشابك الصراعات وحدَّتها.

وتزامن تشكيل اللجنة الدستورية، وعقد اجتماعها الأول في ٤ تشرين ثاني ٢٠١٩، مع واقع ميداني صعب عانت منه قوى المعارضة، التي انحسر نفوذها إلى نحو ١١٪ من إجمالي الأراضي السورية (ثلثا سورية كانت تحت سيطرة المعارضة المعترف بها عام ٢٠١٤)، واستمرار عمليات التصعيد في إدلب وحلب والساحل، مع استئناف الهجمات على مناطق خاضعة لسلطة المعارضة، وتهجير أعداد إضافية من المدنيين، الذين لم يلقوا العون والإغاثة اللازمين. وشكل ذلك ضغطاً كبيراً على المعارضة، التي واجهت رأياً عاماً قلقاً وساخطاً في ظل فقدان حدٍّ أدنى من الأمل بوضع نهاية للمعاناة.

لم تسفر ٨ جولات عقدتها اللجنة الدستورية عن إحراز أي تقدم في مسألة التوصل إلى صياغة دستور جديد لسورية، وتحولت بعد توقفها لأكثر من ١٩ شهراً إلى جدل حول مكان الاجتماع وجدول الأعمال، ما يعني صعوبة التوصل إلى تفاهمات ضمن هذا المسار التفاوضي.

هل توقف قطار "الدستورية عن الحركة؟

انتهت آخر جولة لمفاوضات "اللجنة الدستورية" (الجولة الثامنة) في حزيران ٢٠٢٢ في جنيف، ولم تحقق تقدماً يذكر، وشكا المبعوث الخاص (النرويجي غير بيدرسون) من "بطء المفاوضات ومن عدم القدرة على التوصل إلى اتفاقات ملموسة بشأن القضايا التي تحتاج إلى إحراز تقدم" (الأناضول ٣ حزيران ٢٠٢٢)، وعلى الرغم من الاتفاق على عقد الجولة التاسعة في ٢٥ تموز ٢٠٢٢، إلا أن ذلك لم يحصل، ولم ينجح بيدرسون على مدى ١٩ شهراً من العودة إلى المفاوضات، حيث امتنع النظام عن الحضور في جنيف ما لم تحضر روسيا، التي أبدت استياءها من قيود فرضتها الدولة المضيفة (سويسرا) بشأن التأشيرات الممنوحة لأعضاء الوفد الروسي.

شهدت الأشهر الماضية تحركات عدة لاقتراح أماكن بديلة لعقد المفاوضات، ومنها مسقط، التي اعتذرت عن استضافة الاجتماعات، واقترحت إيران أن تعقد في بغداد لكن المقترح قوبل بالرفض، وجاء اقتراح نيروبي (كينيا)، كونها تستضيف مقراً للأمم المتحدة، لكن النظام رفضه، لتبقى عملية العودة للتفاوض تراوح مكانها.

وفق ثلاثة مصادر تم التحدث إليها، فإن فرص تحقيق اجتماع للجنة الدستورية في نيسان ٢٠٢٤ استناداً إلى دعوة المبعوث الخاص، تبدو ضئيلة، على الرغم من حصولها على تأييد كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا في بيان صدر عنهم بمناسبة ذكرى الانتفاضة السورية (١٥ آذار ٢٠٢٤)، فقد أبدى نظام الأسد رفضه حضور الاجتماع بسبب عقده في جنيف التي تعارضها موسكو، ما يضع العملية السياسية برمتها والدور الأممي على المحك، ويدفع باتجاهات أخرى بعيدة عن مسار القرار ٢٢٥٤، الذي تحرص كافة الأطراف على القول إن ما تقوم به يجب أن "يتماشى" مع القرار، دون بيان كيفية تحقيق ذلك.

الاتجاه البديل

تتحدث المصادر عن توافق غير معلن عن بدء التخلي عن مسار التفاوض الدولي، نظراً لأن عملية تطبيق القرار ٢٢٥٤ لم تعد ممكنة، كما أن العودة إلى المفاوضات برعاية أممية لم تعد متاحة بسبب حالة الاستقطاب بين روسيا (الداعم الرئيس لنظام الأسد) والولايات المتحدة (الداعم الرئيس للمعارضة)، وبالتالي فإن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو عقد مصالحة بين نظام الأسد وشخصيات من المعارضة وهيئات تخضع لتأثير دول النفوذ، تمهيداً لتشكيل حكومة مشاركة تنضم إليها تلك الشخصيات، على أن يكون ذلك ضمن إطار إقليمي أوسع لتطبيع العلاقات السياسية والاقتصادية بما يضمن نجاح تلك العملية.

تتمثل مواقف الأطراف المعنية من ذلك التحول على النحو الآتي:

١ـ نظام الأسد:

بدأ في إحداث تحولات داخلية تعكس انطباعاً بوجود تغييرات لديه، منها التصدي لأفراد متهمين بالفساد، واتخاذ إجراءات تظهر سيطرة النظام على مجريات الوضع العام (زيارة وزير السياحة ومحافظ ريف دمشق لمنطقة السيدة زينب معقل الميليشيات المقربة من إيران، وملاحقة أحد كبار المتنفذين "خضر علي طاهر" ومصادرة أملاكه)، والحديث عن تغييرات في أجهزة الأمن، والتعاون النسبي في ملاحقة مهربي المخدرات، وتدلل تلك المؤشرات على إمكانية أن يكون النظام شريكاً أساسياً في المرحلة المقبلة، بعد أن تحولت المطالب من تغيير النظام (٢٠١١) إلى "تغيير في النظام" (٢٠١٦)، ومن ثم إصلاح النظام (٢٠١٩)، والحديث الآن عن تغيير في صورة النظام (٢٠٢٣).

٢ـ قوى المعارضة (هيئة التفاوض السورية)

تعاني قوى المعارضة وهيئاتها الممثلة لها من ضعف في البنية، وانحسار في الأداء، وتراجع في الاهتمام، بعد أن أصبحت تخضع بشكل شبه مطلق للدول الداعمة لها، وخاصة تركيا، التي تستضيف تلك الهيئات وتتحكم بمصادر تمويلها، وتعيين أعضائها، وما ينتج من قرارات ومواقف، ولذا فإن ما يصدر عنها يمكن اعتباره إشارة لمواقف أنقرة من الحل السياسي في سوريا، وتتبنى هيئة التفاوض الآن مساراً بديلاً عن اجتماعات الدستورية، هو مسار "البيئة الآمنة والمحايدة"، بما يشكل تمهيداً للدخول في عملية الانتخابات التي يمكنها أن تؤسس لتشكيل حكومة شراكة مع النظام، واعتبار ذلك متماشياً مع القرار ٢٢٥٤ الذي ينص على تشكيل هيئة حكم انتقالية مناصفة بين الطرفين، غير أن حكومة المشاركة، سوف تبنى على أساس أن منصب الرئاسة سيؤول إلى بشار الأسد، ويرأس حزب البعث الحكومة، كونه حزب الأغلبية، فيما تُعطى مناصب وزارية "غير سيادية" لأشخاص محسوبين على المعارضة، وقد نوقش هذا الخيار في اجتماع هيئة التفاوض في اسطنبول (٨ آذار ٢٠٢٤)، ولم يحظ باعتماد نهائي بعد.

٣ ـ الأمم المتحدة (المبعوث الخاص)

سعى المبعوث الخاص غير بيدرسون مع ظهور دلائل على صعوبة استئناف اجتماعات اللجنة الدستورية إلى الحديث عن خطة "خطوة مقابل خطوة" لكن الفكرة لم تحظ بتوافق بالنظر إلى استنادها إلى مفاوضات جنيف والقرار ٢٢٥٤، مما دفعه للحديث الآن عن صعوبات تواجه الحل السياسي بالنظر إلى تعنت النظام دون أن يسميه، والتركيز على أن اهتمامه منصبٌّ نحو دفع الأطراف للحديث مع بعضها، وحثِّ النظام على عمل إصلاحات في القضاء والحوكمة، وهو ما يصب في نفس اتجاه "البيئة الآمنة والمحايدة"، مع محاولة إشراك المجتمع المدني من خلال تفعيل الغرفة الخاصة به، وإيجاد منافع مشتركة بين كافة الأطراف، ورفع شعار "المصالحة وليس المسامحة"، وهو ما يمهد لحل سياسي لاحق عبر بوابة الانتخابات.

٤ ـ مجموعة أستانة

وتضم روسيا وتركيا وإيران، وتعتبر نقسها صاحبة فكرة "اللجنة الدستورية"، لكنها شكلت في وقت ما المعيق لعملها وانطلاقها، حيث دعمت روسيا وإيران نظام الأسد في تشدده حيال المفاوضات، بما فيها الحد الأدنى من النقاش بشأن إجراء إصلاحات/ أو صياغة دستور جديد لسورية برعاية الأمم المتحدة، فيما لم يظهر موقف تركي واضح يدفع باتجاه تفعيل عمل اللجنة، وتمكينها من الوصول إلى نتائج عملية، وتم إضعاف ممثلي المعارضة، من خلال غياب الكفاءات والخبرات لحساب المحاصصة السياسية، وتعيين أشخاص من غير ذوي الاختصاص أو الخبرة في مجال القانون الدستوري وصياغة الدستور.

٥ ـ الولايات المتحدة ومجموعة (٥ + ٢):

دعمت الولايات المتحدة عمل "اللجنة الدستورية" ضمن إطار دعمها لعمل المبعوث الخاص، ولكنها لم تلق بثقلها في العملية التفاوضية، بالنظر إلى أن الإدارات الأمريكية لا تعتقد بإمكانية التوصل إلى تفاهم ناجز بشأن الوضع الدستوري في سوريا في ظل حالة الاستقطاب القائمة مع موسكو، وإخفاق المفاوضات في مراحل سابقة، إلا أنه تم استخدام سياسة الباب الموارب في التعامل مع النتائج المتوقعة، وعبَّر عن ذلك بيان الدول الأربع (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا) حول الذكرى الـ١٣ للانتفاضة في سورية، والذي جاء فيه "لا ترى بلداننا أيَّ إمكانية للتطبيع مع نظام الأسد، أو تمويل إعادة الإعمار، أو رفع العقوبات حتى يكون هناك تقدم حقيقي وهادف ودائم نحو حل سياسي. إن التسوية السياسية التي يرتئيها السوريون ويقودونها بأنفسهم بما يتماشى مع قرار مجلس الأمن رقم ٢٢٥٤ هي الآلية الوحيدة القابلة للتطبيق، والتي يمكن أن تحقق السلام الدائم للشعب السوري، وإن شروط العودة الآمنة والكريمة والطوعية للاجئين إلى سوريا، بدعم من المجتمع الدولي، لم تُستَوف بعد، وعليه ندعو نظام الأسد إلى إجراء الإصلاحات اللازمة لحماية الحرية والكرامة وحقوق الإنسان للجميع. ونشيد هنا بإعلان المبعوث الخاص للأمم المتحدة غير بيدرسون عن عقد اجتماع للجنة الدستورية في شهر نيسان في جنيف، ونحث جميع الأطراف على قبول الدعوة والانخراط بجدية في عمل اللجنة" (١٥ آذار ٢٠٢٤).

يلاحظ في نص البيان الرباعي دعوة النظام إلى "إجراء الإصلاحات اللازمة لحماية الحرية والكرامة وحقوق الإنسان للجميع"، وهو ما يصبُّ بشكل أو آخر ضمن الانتقال من المسار الدستوري إلى مسار "البيئة الآمنة والمحايدة" الذي تروِّج له هيئة التفاوض السورية، ويمهد لعملية انتخابية بمشاركة النظام وأطراف في المعارضة تسفر عن حكومة شراكة، تكون بديلاً عن هيئة الحكم الانتقالية، ويمكن أن تحظى بدعم من مجموعة أستانة ودول عربية تتجه لتطبيع علاقاتها مع نظام الأسد.

وقد لوحظ أن هيئة التفاوض عكفت على تفعيل لجنة الانتخابات لديها، وعمل تدريبات خاصة، والاستعداد لمرحلة مقبلة، قد تشهد هذا الاستحقاق وفقاً للتطورات.

الاتجاه والتحدي

تواجه الأمم المتحدة صعوبة في عقد الجولة التاسعة من مفاوضات "اللجنة الدستورية"، حيث تبدي موسكو موقفاً متشدداً، وقال وزير خارجيتها سيرغي لافروف إن سويسرا "لم تعد مكاناً محايدا" لاستضافة المفاوضات، ونفى نائبه سيرغي فيرشينين تحديد مكان للاجتماع بالتزامن مع زيارة بيدرسون لدمشق ولقائه وزير خارجيتها فيصل المقداد (١٧ آذار ٢٠٢٤)، وتبنى النظام نفس الموقف الروسي رافضاً الذهاب إلى جنيف في ظل المقاطعة الروسية، فيما وافقت هيئة التفاوض السورية على الدعوة.

وفي إحاطته أمام مجلس الأمن (٢٧ شباط ٢٠٢٤) اعتبر بيدرسون أن "التوقف إلى أجل غير مسمى لن يؤدي إلا إلى تقويض مصداقية اللجنة الدستورية وعملها"، وهو ما يبدو أنه بات مرجحاً، ودفعَ الأطراف المعنية إلى التفكير الجدي في آلية إنهاء العمل بهذا المسار كما حصل لغيره من المسارات، وإطلاق مسار جديد يجري العمل عليه، وهو مسار الإصلاحات الداخلية التي تتيح المجال لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، وقد بدأ النظام العمل على ذلك من خلال إعادة ترتيب صفوف حزب البعث الحاكم، وانتخاب لجنة مركزية والدفع بأسماء جديدة، في محاولة لإعطاء انطباع بعملية تغيير في البيت الداخلي، وهو ما اعتبره ألكسندر لافرنتيف مبعوث الرئيس الروسي إلى سوريا في اجتماع أستانة ٢١ (٢٤ كانون ثاني ٢٠٢٤) يعكس رغبة جدية من الأسد لبناء نظام حكم مدني وديمقراطي، ومحاولة جديرة بالاهتمام والدعم.

تواجه الأمم المتحدة صعوبة في عقد الجولة التاسعة من مفاوضات "اللجنة الدستورية"، حيث تبدي موسكو موقفاً متشدداً، وقال وزير خارجيتها سيرغي لافروف إن سويسرا "لم تعد مكاناً محايدا" لاستضافة المفاوضات، ونفى نائبه سيرغي فيرشينين تحديد مكان للاجتماع بالتزامن مع زيارة بيدرسون لدمشق ولقائه وزير خارجيتها فيصل المقداد (١٧ آذار ٢٠٢٤)، وتبنى النظام نفس الموقف الروسي رافضاً الذهاب إلى جنيف في ظل المقاطعة الروسية، فيما وافقت هيئة التفاوض السورية على الدعوة.
وفي نفس الاتجاه ناقشت هيئة التفاوض السورية في اجتماعها يوم ٨ آذار ٢٠٢٤ مسار البيئة الآمنة والمحايدة بالنظر إلى تعطل مسار اللجنة الدستورية، ورغم عدم حسم الموقف إلا أن ما يرشح من مواقف مسؤولي الهيئة يدفع باتجاه التعامل مع هذا الخيار الذي سبق أن طرحه هادي البحرة الرئيس المشترك للجنة الدستورية ورئيس الائتلاف الوطني السوري (الطرف الرئيس في هيئة التفاوض)، ويحظى هذا التوجه بدعم الضامن التركي الذي يدفع باتجاه عدم انهيار المسار السياسي كونه المرتكز لإحداث ترتيبات وتفاهمات ميدانية تمهد لتطبيع العلاقات مع النظام ضمن رؤية سياسية – اقتصادية تدعمها روسيا ولا تعارضها إيران، وتهدف إلى تمكين تركيا من تحقق تواصل بري مع دول الخليج عبر سورية والأردن، بالنظر إلى صعوبة تحقيق ذلك عبر العراق، الذي يعاني من تردٍّ مستمر لأوضاعه الأمنية.

ويبدو أن التحدي الأبرز الذي يواجه المسار الجديد في حال إطلاقه يتمثل في إقرار واشنطن لقانون منع التطبيع مع النظام، الذي أقره مجلس النواب في ١٥ شباط ٢٠٢٤ بأغلبية ٣٨٩ صوتاً مقابل ٣٢، وأحاله لمجلس الشيوخ، والذي سيحيله في حال إقراره إلى الرئيس جو بايدن لتوقيعه ودخوله حيز التنفيذ، وقد تعرضت الإدارة الأمريكية لضغوط عدة لعدم المضي قدماً في إقرار القانون، وجاء جزء رئيس منها من تركيا، التي اعتبرت أن اعتماده سيجهض محاولتها مع شركائها في أستانة لبناء وضع جديد يكون التعاون الاقتصادي أساساً له في المرحلة المقبلة، مع تعديلات نسبية في سياسات النظام، ودفعِ أطراف في المعارضة للانخراط ضمن حكومة شراكة، وضمن هذا الإطار بدأ الانفتاح على قوى وشخصيات علوية تمت دعوتها لزيارة أنقرة، وتسهيل دخول شخصيات محسوبة على المعارضة المقيمة في دمشق ومناطق النظام لحضور اجتماعات وندوات في اسطنبول وعنتاب، وعقد اجتماعات معها من قبل مسؤولين رسميين، ويبدو أن الضغوط لم تسفر حتى الآن عن تغييرات جوهرية في موقف الإدارة الأمريكية.

يهدف مشروع قانون "مناهضة التطبيع مع نظام الأسد" إلى توسيع نطاق قانون قيصر لعام ٢٠١٩ وتمديد مدة سريان أحكامه المتوقع انتهاؤها في كانون الأول ٢٠٢٤، ومنع محاولات تطبيع العلاقات مع نظام الأسد، ويشمل ذلك فرض عقوبات على الكيانات والأفراد المتعاونين مع النظام، وتوسيع نطاق الإجراءات التي تجيز تطبيق العقوبات الأمريكية وتفعيلها، بما فيها المشاركة في تحويل المساعدات الإنسانية عن مسارها أو التربح من ذلك، والانخراط بشكل مباشر أو غير مباشر في محاولات الاستيلاء على ممتلكات المواطنين السوريين وعقاراتهم، وفرض عقوبات بحق أفراد متعاونين مع نظام الأسد، بضمنهم أعضاء مجلس الشعب (البرلمان)، ومسؤولو حزب البعث، وأفراد أسر شخصيات مشمولة بالعقوبات ما لم يثبتوا بشكل كاف أنهم بعيدون تماما عن تلك الأنشطة.

ويحظر اعتراف الولايات المتحدة بحكومة الأسد، ويرسم معالم استراتيجية مشتركة بين الوكالات لمناهضة جهود تطبيع العلاقات معها، ويكلف السلطة التنفيذية برفع تقارير للكونغرس بخصوص التدابير الرئيسة المتخذة لتطبيع العلاقات، بما في ذلك بيان الاجتماعات الدبلوماسية التي تُعقد بين نظام الأسد وغيره من الدول، إضافة إلى إعداد تقرير مشترك بين الوكالات لتحليل محاولات حكومة الأسد الرامية إلى استغلال الأمم المتحدة، وتقصِّي الطرق التي يقيد النظام من خلالها دخول المساعدات الأممية، وتأثيره على طرق تعيين الموظفين المعنيين بها، والتلاعب بممارسات الشراء والتوريد المعتمدة بما يخدم مصلحة أشخاص مرتبطين بها، ويبين سبل استغلال الحكومة لمسألة أسعار صرف العملة الأجنبية لانتزاع التمويل من الأمم المتحدة.

يشكل مشروع القانون في حال اعتماده النهائي تحدياً كبيراً لمحاولات حرف مسار جنيف التفاوضي عن أهدافه الواردة في قرار مجلس الأمن ٢٢٥٤، وباقي القرارات ذات الصلة، وقد يؤدي إلى إجهاض/ أو إعاقة محاولات التطبيع مع النظام، وخاصة ما يتصل منها بالشق الاقتصادي، والذي يعيره الأسد الاهتمام الأكبر، كما يدفع أطراف أستانة للبحث عن بدائل، قد لا تكون متاحة بشكل كاف خلال الفترة المقبلة، بالنظر إلى انخراط كافة الأطراف في أزمات وتحديات داخلية وإقليمية، وعدم القدرة على إعطاء الملف السوري أولوية كافية كي يكون قابلاً لحل سياسي مستدام، وليس لتسويات بينية تسعى الدول والأطراف من خلالها لتحقيق مصالحها على حساب مصالح السوريين ومعاناتهم المستمرة.