يغلب الحديث عن اليوم التالي للحرب على
غزة،
على تفاصيل صغيرة تتعلق جميعها بأوضاع الفاعلين داخل القطاع، أو الترتيبات التي
يجري الإعداد لها لإدارة غزة، بالإضافة إلى حديث خجل، عن إعادة إعمار، من غير
الواضح من سيتولى تمويلها ولا شروط تنفيذها، فيما لا تزال الأطراف المحركة للحرب،
إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، لم يتوصلا إلى استراتيجية خروج واضحة من
الحرب، فكيف سيتم التوافق على إدارة مرحلة ما بعد الحرب؟
بالتوازي مع ذلك، حصلت على مدار الأشهر
الستة الماضية، تطورات خطيرة على الصعيد العربي، ساهمت الحرب في غزة على التعتيم
عليها، وبعض هذه التطورات يتجهز للتعبير عن نفسه على شكل مسارات وخطوط تحكم المشهد
العربي في المرحلة المقبلة، وسيكون لها
تداعيات جيوسياسية بعيدة المدى، ويمكن
إجمال هذه التطورات على الشكل التالي:
ـ تعمّق الانخراط الدولي في تفاصيل المشهد الجيوسياسي
العربي، إذ اتبعت الأطراف العربية في المرحلة الماضية استراتيجية تحوطية، تهدف إلى
تنويع العلاقات مع الفاعلين الدوليين لزيادة وزنهم التأثيري في اللعبة الدولية،
لكن هذه الاستراتيجية كان لها منعكسات لم يجر حسابها بدقة، إذ إنها منحت لاعبين
جددا مزايا استراتيجية واقتصادية، دون الحصول على أثمان مهمة بالمقابل، ويكشف
التغلغل الروسي والصيني هذه الحقائق، دون أن يضيف أي قيمة للأطراف العربية في
اللعبة الدولية، ولم يتبين كيفية إمكانية استخدامه كورقة تفاوضية تجاه الولايات
المتحدة الأمريكية.
ـ تراجع التأثير العربي في أي حل مستقبلي لحرب غزة، وفي
الموضوع
الفلسطيني عموما، وباستثناء الدور الدبلوماسي القطري، توارت الأدوار
العربية ولم تعد ملحوظة أو تملك وزنا تأثيريا مهمّا على سياق الحل الذي بات بيد
إسرائيل وأمريكا، بدليل السجال الجاري بينهما حول بعض التفاصيل، مع الأخذ بعين
الاعتبار أن أمريكا تفاضل المصالح الإسرائيلية عن أي اعتبار آخر.
ـ ولَدت حرب غزة ديناميكيات جديدة في الشارع العربي، ليس
كما يُقال بفعل تأثير الإسلاميين أو تحريضهم، بل لتسليطها الضوء على رخاوة مؤسسة
الأنظمة العربية وضعفها في إدارة أزمة جيوسياسية تمس الأمن والمصالح العربية في
العمق، وما نتج عنها من تراجع للقيمة الاستراتيجية للعالم العربي عموما، بالتزامن
مع الاستمرار في اتباع سياسات فوضوية في إدارة الأوضاع الداخلية العربية، ويدلل
على ذلك الأزمات الاقتصادية التي تعمقت في الشهور الأخيرة، ومخرجات الحلول لهذه
الأزمات، التي تمثلت في وضع الكثير من البلدان العربية على حافة الهاوية بصناعتها
لمستقبل ضبابي وهلامي.
ثمة بنيان عربي انهار في الفترة الأخيرة، وثمة مجتمعات ونظم سياسية زادت الصدوع في علاقاتها البينية، وثمَة أنظمة خرجت من أيديها القدرة على إدارة الأوضاع في بلدانها، وبتنا نقف على عتبة اليوم التالي.. العربي.
وعلى عكس ما تحاول دعاية أجهزة السلطات
العربية إثبات أن الأمور تسير على ما يُرام، وهذه في الأغلب إما قراءة رغبوية
للأوضاع، أو مقصودة بهدف منع الديناميكيات الجديدة من التفاعل في الوسط العربي، وتشكيل المشهد العربي في المرحلة المقبلة، وما يعنيه ذلك من تحوَل هائل في
التوازنات الداخلية لغير صالح نُخب الحكم الراهنة، فإن ثمَة مسارات"
سيناريوهات" بدأت ترتسم عل وقع التطورات السابقة:
ـ مسار "سيناريو" عودة حراكات
الربيع العربي، إذ رغم إنهاك المجتمعات العربية وضعفها، إلا أن ثمة تراكما للقوى
والوعي، بات يعبر عن نفسه من خلال بعض القضايا المطلبية أو الاحتجاجات الصريحة، وهو
ما نشهده على سبيل المثال في تونس، وفي سورية "حراك السويداء"، والتململ
الشعبي في مصر، والأسئلة عن مخارج الأزمة الراهنة التي بدأت تطرحها الشعوب العربية
في الكثير من الدول، قد تكون هذه الحراكات ما زالت ضعيفة، ولكنها قياسا بالمرحلة
التي سبقت الربيع العربي، تعدّ حراكات مؤثرة.
ـ مسار" سيناريو" الصراعات في
القمة، رغم أن النخب الحاكمة تُظهر تماسكا ملحوظا، نتيجة تشكيلها وفق هندسة معينة،
إلا أن الإدارة العنيفة الفوضوية لمسارات المرحلة الماضية، أنتجت مراكز قوى، بحكم
الحاجة لها، لديها مساحات مرنة في الحركة، وهذا الأمر شهدناه في صراع السودان، وفي
روسيا، وهو في الأصل ليس غريبا عن بنى نظم الحكم العربية، وقد يتغذى هذا المسار
"السيناريو" من توسَع الانخراط الدولي في التفاصيل العربية والصراع
الجيوسياسي الدولي، الذي تؤكد مؤشرات عديدة أن الجغرافية العربية وأجزاء من أفريقيا ستكون مسارحه في المرحلة المقبلة.
ـ مسار "سيناريو" الفوضى، إذ تعاني الكتلة
الكبيرة من الدول العربية، من أزمات اقتصادية وضغط أمني وتراجع على مستوى الحريات،
وهذا مناخ مناسب جدّا للاضطرابات، التي ليس بالضرورة أن تكون ذات طابع سياسي، أو
لها مطالب سياسية واقتصادية محددة، قد تأخذ نمط عصابات الجريمة المنظمة، كما هو
حاصل في دول أمريكا الوسطى واللاتينية، وقد تكون مدعومة من مراكز قوى داخل النظام،
إما لقمع حراكات سياسية متوقعة، أو للتعبير عن صراعات داخل هياكل النظام نفسه.
ثمة بنيان عربي انهار في الفترة الأخيرة،
وثمة مجتمعات ونظم سياسية زادت الصدوع في علاقاتها البينية، وثمَة أنظمة خرجت من
أيديها القدرة على إدارة الأوضاع في بلدانها، وبتنا نقف على عتبة اليوم التالي.. العربي.